دروس في محرم الحرام


شهر محرم أول شهور العام الهجري الجديد وفي تسميته ومضمونه دلالات وعظات لمن أراد أن يقف على حقيقة الحياة في اعتمادها على مؤشرات زمنية ومكانية تسير وفق التنظيم الإلهي البديع لتفاصيل مواقيت الحياة الدقيقة مراعاة لأفضلية ومكانة شهر ما من الشهور على غرار شهر محرم الذي كان يحظى بمنزلة التعظيم في الجاهلية …تعززت هذه المكانة في شريعة الإسلام . قال تعالى ( إنِ عدِةِ الشْهْور عنúدِ اللِه اثúنِا عِشِرِ شِهúرٍا في كتِاب اللِه يِوúمِ خِلِقِ السِمِاوِات وِالúأِرúضِ منúهِا أِرúبِعِةَ حْرْمَ ? ذِ?لكِ الدينْ الúقِيمْ ? فِلِا تِظúلمْوا فيهنِ أِنúفْسِكْمú ? وِقِاتلْوا الúمْشúركينِ كِافِةٍ كِمِا يْقِاتلْونِكْمú كِافِةٍ ? وِاعúلِمْوا أِنِ اللِهِ مِعِ الúمْتِقينِ ) . فالله يصطفي ما يشاء من الزمان والمكان قال العزْ بن عبد السِلام رحمه الله “وتفضيل الأماكن والأزمان ضربان: احدهما دنيوي والضرب الثاني تفضيل ديني راجعَ إلى أن الله يجود على عباده فيها بتفضيل أجر العاملين كتفضيل صوم رمضان على صوم سائر الشهور وكذلك يوم عاشوراء ففضلها راجعَ إلى جود الله وإحسانه إلى عباده فيها” والمحرم سمي بذلك لكونه شهراٍ محرماٍ وتأكيداٍ لتحريمه.
وقوله تعالى: {فِلا تِظúلمْوا فيúهنِ أِنúفْسِكْمú} أي: في هذه الأشهر المحرمة لأنها آ كد وأبلغ في الإثم من غيرها.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فِلا تِظúلمْوا فيúهنِ أِنúفْسِكْمú} في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماٍ وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم. وقال قتادة في قوله: {فِلا تِظúلمْوا فيúهنِ أِنúفْسِكْمú} إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراٍ من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال عظيماٍ ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء وقال إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلاٍ ومن الناس رسلاٍ واصطفى من الكلام ذكره واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله فإنما تْعظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل الذين ينبغي علهم التعامل مع قدسية شهر محرم وفقاٍ للمضمون الحقيقي لهذا الشهر الذي استخلصناه من مفهوم الشرع لشهر محرم وفي سياق فهم السلف الصالح لهذا الشهر وأقوالهم في ذلك .
ولما مر بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث ومقتل الحسين رضي الله عنه في شهر محرم على وجه الخصوص فقد توارثت بعض طوائف الأمة في عصرنا هذا مساوئ هذه الأحداث وتعاطت معها بالتعاطف سلباٍ وبالتالي نشوء ظواهر اجتماعية متعددة جعلت من المحرم موسماٍ للتباكي على الماضي وإثارة ما دفنه الزمن وصار حبراٍ على التاريخ ولم يعد له أي علاقة بتحديات العصر الراهن لا زماناٍ ولامكاناٍ …بل على العكس تماماٍ فإن مجرد إحياء ما مضى ولد مزيداٍ من الخلاف والفرقة وجر البلاد والعباد إلى حفر القتل وويلات الفتن الطائفية وسلسلة طويلة لا تنتهي من دعوات وجوب الانتقام لمن عاشوا تلك الأحداث دون أن ندرك حقيقة أزلية وشرعية بدلالات منطقية أننا غير مكلفين ولا حتى مخاطبين في القرن الواحد والعشرين بقضايا عاصرها وعايش أحداثها من عاش في القرن السادس أو السابع حتى وإن كانت متعلقة بالمسلمين…وبغض النظر عن ماهية الظالم والمظلوم في ذاك العصر .. والدليل على مصداقية ذلك لا يمكن لأحد منا أن يغالط فيه أو حتى يشكك في حقيقته وهو قوله تعالى ( تلúكِ أْمِةَ قِدú خِلِتú لِهِا مِا كِسِبِتú وِلِكْمú مِا كِسِبúتْمú وِلِا تْسúأِلْونِ عِمِا كِانْوا يِعúمِلْونِ ).والسؤال هنا لماذا نحمل أنفسنا مسئولية ما جرى رغم أننا غير مؤاخذين لا في الدنيا ولا في الآخرة وليس لنا أي قدرة على تغيير مجرى التاريخ لأنه بكل بساطة خرج من أيدينا ولا نملك القدرة لإعادته فلماذا نكلف أنفسنا مالا تطيق ¿ ولماذا لا نسأل أنفسنا من المستفيد من إثارة هذه الفتن ¿
وفي زماننا هذا الذي نعيشه تعاملنا مع الشهر المحرم بما لا يليق …فعكسنا الصورة المثالية لما ينبغي أن نكون عليه إلى صورة شاذة وللأسف الشديد إنها صورة حية ومقززة في سفك الدم المحرم في الشهر المحرم الذي تغلظ فيه العقوبة ..ناهيك عن استقبال عاشوراء بما ليس له أصل ولا دليل ولا تستصيغه الأذهان بل تمجه العقول ونحن نرى مشاهد الضرب والإيذاء للأجساد والأبدان بصورة جماعية يطلق عليها بكل استخفاف بالمنطق أنها مظاهر احتفالية معبرة كانت في منظور أصحابها اليوم علامة من علامات الحب والوفاء لمن عانى ويلات الأحداث السابقة ..ولعلي في هذه النقطة بالذات أقف على رائعة من روائع التاريخ الإسلامي …هذا النموذج الفريد تجسد في شخص زين العابدين بن علي بن الحسين الذي شعر بخروج من يدعون الحب والولاء لما جرى في يوم عاشوراء عن المشروع …فقد أورد الإمام الزهري مقولة للإمام زين العابدين وهو يخاطب أهل العراق قائلاٍ ( ياأهل العراق أحبونا حب الإسلام ولا تحبونا حب الأصنام فإن حبكم صار علينا شيننا فلا تبالغوا في التوقير حتى لاتصلوا إلى التقديس ) انه فقه الحياة ولغة الواقع ومنطق التعامل السليم هذا الذي أعلنه واحد من أكثر المتأثرين بمأساة عاشوراء ولا يوجد في نظري شخص في الدنيا أكبر ضرراٍ من زين العابدين من ما جرى في عاشوراء لأنه كما ورد عايشها وجرت أمام عينيه ومع ذلك …تعامل معها بالصبر وعدم إثارة الفتنة وتجديد الثأر وتنمية حب الانتقام للنفس …بل أوكل ما مضى لمن وحده بيده الثواب والعقاب وهو المولى عز وجل ..ثم إنني أختم هذه الكلمات بعبارة مشهورة قالها الخليفة عمر بن عبد العزيز وهو يقطع السنة الفتنة ويخمد نارها عندما قال ( تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نلطخ بها ألسنتنا ) كم أتمنى ممن يدعون العلم أن يغرسوا هذه القيمة الإسلامية الخالدة في نفوس العامة الذين وحدهم يكتوون بنيران شعارات التهييج ودعوات إحياء الماضي المظلم في الوقت الذي يجب على العالم والداعية ومن يظن نفسه وصياٍ على الدين وحتى التاريخ أن يرأف بنفسه من سخط الله وهو يجر الإسلام والمسلمين إلى مقابر الفتنة الطائفية وسلوك البدع الجاهلية . والله الموفق

قد يعجبك ايضا