الحبيشي الذي خسرناه

 

عباس السيد

الكتابة عن شخصية بحجم الأستاذ الراحل أحمد محمد الحبيشي عمل صعب . لا يمكن لكاتب أو صحفي أن يعطي هذا الرجل حقه في مقال أو صفحات . عمَّن سنكتب ؟ عن الحبيشي الصحفي الشامل والموسوعة ، عن المؤرخ السياسي ، عن المثقف والشاعر ، نكتب عن السياسي الذي يستشرف الآفاق ، أم عن الحبيشي الوطني الذي لا يخشى في وطنيته ومواقفه ديكتاتورية حزب أو طغيان حاكم ولا جماعات الإرهاب ، أم عن الحبيشي الإنسان ، المتواضع الزاهد في المناصب والأموال . ؟!
تعرفت عليه عام 1990 ، عندما تم تعيينه مديراً عاماً لمؤسسة الثورة للصحافة ورئيساً لتحرير صحيفة الوحدة الأسبوعية الصادرة عن المؤسسة . كان عملي مخرجاً في الصحيفة التي جسدت بالفعل شعارها ” التجسيد الصادق لديمقراطية الرأي والرأي الآخر ” .
استطاع الحبيشي أن يجعل من الصحيفة منبراً للآراء على اختلافها ، ومثلت الصحيفة في عهده محطة جديدة لدور الصحافة اليمنية بشكل عام ، والحكومية بشكل خاص . ومن خلال صحيفة الوحدة ، عرفنا المعنى الحقيقي للصحافة وقيمتها ، وعرفنا الدور الحقيقي الذي ينبغي أن يضطلع به الصحفي . قبل ذلك كانت الصحافة بالنسبة للكثيرين ، وأنا منهم، مجرد وظيفة نحصل منها على مرتب آخر الشهر .
عندما التحقت في المؤسسة عام 1989 ، كان هدفي الحصول على مصدر دخل لأتمكن من مواصلة دراستي في كلية الهندسة بجامعة صنعاء . لكن العمل مع الحبيشي جعلني أرى مهنة الصحافة أفضل من مهنة ” المهندس ” حتى وإن كان ” مهندسا معماريا ” وهو الأرقى في التخصصات الهندسية .
أكملت دراستي الجامعية ، وفي 94 التحقت بدبلوم عالٍ للصحافة ، وواصلت عملي في الصحافة حتى الآن .. وبسبب الحبيشي ، تحول تخصصي الأكاديمي إلى مجرد مهنة ثانوية أمارسها أحياناً وكأنها إحدى الهوايات .
خلال حرب 1994 ، ترك الحبيشي عمله في مؤسسة الثورة وصحيفة الوحدة وغادر إلى عدن ، وكان ذلك آخر ” مشوار ” له بسيارة المؤسسة قبل أن يرسلها إلى صنعاء ويخلي عهدته منها .
لجأ الحبيشي مع رفاقه في الحزب الاشتراكي اليمني إلى الخارج ، وتولى المسؤولية الإعلامية لحركة ” موج ” المعارضة للسلطة في صنعاء ، وعندما تبين له أن المعارضة من الخارج لها أثمانها التي لا يقدر على دفعها من مواقفه الوطنية وأخلاقه ، آثر العودة إلى صنعاء .
أنضم الحبيشي لحزب المؤتمر الشعبي ، حزب السلطة الحاكمة المنتصرة ، لكن التحاقه بالمؤتمر لم يكن انقلاباً في مواقفه السياسية أو الوطنية كما يرى البعض من يكتفون بإصدار الأحكام بناء على أدلة سطحية .
الحبيشي لم يغير مبادئه أو مواقفه التي ظلت ثابتة منذ أن كان في الحزب الاشتراكي ، وفي المؤتمر الشعبي ، ومع أنصار الله . ظلت الوحدة الوطنية هاجسه في كل المحطات والأوقات ، يحلم ويناضل من أجل يمن مستقل عن الوصاية الخارجية ، ودولة مدنية حديثة . وكان على الدوام خصماً عنيداً للتيارات التكفيرية ومتخصصاً في كشف مؤامراتها والمتواطئين معها .
تلك أبرز مواقف الفقيد الراحل أحمد محمد الحبيشي ، والتي لم تتغير طوال حياته وحتى مماته .
كان المؤتمر الشعبي أشبه بمظلة تجمع تحتها المصالح والأنانيات ، بينما كان الحبيشي وحده يغرد خارج السرب ، وبجرأة منقطعة النظير ، كشف الحبيشي عمَّا أسماه ” اللوبي السعودي ” في المؤتمر ، وحذر من مخاطر هذا اللوبي على تلاحم الصف الوطني والجبهة الداخلية ، وعلى مستقبل اليمن واليمنيين بشكل عام . وبنفس الجرأة ، كان الحبيشي أول من وصف الأحداث التي شهدتها العاصمة صنعاء يوم 21 سبتمبر عام 2014 بأنها “ثــــــــــــورة ” .
حاول الحبيشي دفع المؤتمر الشعبي لاتخاذ موقف سياسي يرتقى إلى مستوى العدوان الهمجي البربري الذي أعلنته السعودية في 26 مارس 2015 ، لكنه اصطدم بـ ” اللوبي السعودي ” المهيمن على المؤتمر ، وانتقد بشدة ، البيان الهزيل الذي صدر عن اللجنة الدائمة للمؤتمر في اليوم الثاني للعدوان . وقبل ذلك تبرأ من المشاركة في المهرجان الذي كان يعد له المؤتمر في السبعين ، وأصدر بياناً بعنوان ” هذا بيان للناس ” .
كانت ” الاشتراكية ” عند بعض العامة مرادفاً لسلب الحقوق ، وخلال مشاركته في إدارة مؤسسة الثورة للصحافة بين العامين ـ 90 ـ 1994 ـ كان الحبيشي سنداً للموظفين الذين يعانون جوراً أو تهميشاً، ولا زلت أتذكر ما قاله الحارس العجوز ” يحيى اللوية ” بعد أن حصل على الإنصاف : ” يقولوا أنه اشتراكي ، والله ما اشتراكيين غير إحنا ” .
رحمة الله تغشاك أستاذنا الراحل وعزاؤنا لأبنائك وأهلك ومحبيك .

قد يعجبك ايضا