في كتاب (لحظة يا زمن المساح)

محمد المساح.. من بيع ( التمباك والـــــصـحـف) إلى صناعة وإبداع الدهشة

الأديب والإعلامي الكاتب محمد المساح أحد الأسماء اللامعة في دنيا الصحافة والأدب، وله حضوره الكبير منذ عدة عقودٍ من الزمن، ويعرفه القراء وخاصة قراء صحيفة الثورة من خلال عموده الشهير “لحظة يا زمن”..
وما زال اسمه يتلألأ من خلال كتاباته النثرية المختلفة التي تحمل ملامحه ونبضه ونكهته الخاصة.. وهي الكتابات التي ظل الكثير من القراء ينتظرون صدورها في كتب وذلك منذ زمن طويل، وهي الأمنية التي ما زالت تنتظر أن يقوم بتحقيقها
الكاتب والمبدع المساح..
وأمام هذا الانتظار جاءت مبادرة رائعة من قبل الأديبين انتصار السري وفوزي الحرازي اللذين قاما بإعداد وجمع مجموعة من كتابات المساح وشهادات عنه من قبل مجموعة من الشخصيات الثقافية والإعلامية، وإصدار ذلك في كتاب حمل عنوان “لحظة يا زمن المساح.. نصوص وشهادات” والذي صدر مؤخراً عن مؤسسة “أروقة” للنشر في القاهرة في 270 صحفة من القطع المتوسط.
وقد عكس الكتاب تلك الجهود الرائعة المبذولة في إعداده وإصداره من قبل المبدعين انتصار السري وفوزي الحرازي، وحرصهما على تقديم إصدار متميز يليق بصاحب “لحظة يا زمن”.
الكتاب تضمن مقدمة وشهادات عن الكبير محمد المساح تحدث فيها زملاؤه ورفاق الحرف منذ بداية عمله في صحيفة الثورة عام 1971م والتي استمرت حتى عام 2016م وهم:
الدكتور عبدالعزيز المقالح- الأستاذ يحيى العرشي- الأستاذ حسن اللوزي- الأستاذ عبدالرحمن بجاش- الأستاذ عبدالباري طاهر- الأستاذ أحمد الديلمي- الأستاذ نبيل الكميم.
والجزء الثاني كان عبارة عن نماذج من أعمال المساح النثرية والقصصية التي نشرت في عدد من الصحف اليمنية والمجلات اليمنية في حدود 13 قصة قصيرة ومحاولة أقصوصة.
كما أنه ضم نماذج من مقالاته وأعمدته الصحفية التي حوت عناوين مختلفة كان ينشرها في صحيفة الثورة وبعض الصحف، كما ضم الكتاب سيرة ذاتية تحت عنوان” محمد المساح.. محطات وذكريات” تحدث فيها المساح عن محطات مختلفة ومتنوعة من حياته، وسلط من خلالها الضوء على جوانب من حياته، ومسيرته الإبداعية والإعلامية.
ويعد الكتاب أول إصدار حول المساح، وننشر فيما يلي محطات من سيرة المبدع محمد المساح التي تضمنها هذا الكتاب المتميز:
متابعة/محمد أبو هيثم

المحطة الأولى القرية.. الميلاد.. الطفولة
1948م عام مولدي، وهو تاريخ تقريبي لأنه لا يوجد توثيق وقتها، مولدي سنة «المجارين» لأن الإمام كان يأخذ الجباية من الناس في تلك المواسم الزراعية.
في السنة السادسة ذهبت إلى (المعلامة) وبعدها بدأت تعلم القرآن الكريم، قرأت «الألفباء) حتى ختمت «جزء عمّ» وبعدها جلست مدة ثم نزلت إلى عدن وأنا في عمر الثامنة أو التاسعة خلال هذه الفترة تولد حبي للقراءة والمطالعة.
ما جعلني أتأثر بالقرية هي البيئة القروية البسيطة، وبصفة عامة الإنسان يدرس ويتعلم من كل ما حوله، أيضا هناك الأهازيج الشعبية والتي كانت تغنيها النساء وخاصة عند سفر أزواجهن فكانت كل امرأة شاعرة أو مبدعة، وأهازيج الزراعة، وتلك كانت تمثل الثقافة الشعبية مثل «الأمثال- الأهازيج» وهناك شعراء أثرت تلك البيئة والثقافة فيهم، ومن الشعراء الذين تأثروا بها وانعكست في إبداعهم: أحمد الجابري، وسعيد الشيباني، وسلطان الصريمي وغيرهم كثير.

المحطة الثانية في حياتي كانت عدن:
لي في عدن نزلتان الأولى كانت وعمري عشر سنوات تقريبا، كان سفري إلى والدي الذي يعمل في عدن.. سافرت لكي أساعده ولكنه أدخلني المدرسة لكي أتعلم.. نزولي كان مع «الطبل» وهو الذي يقوم بتوصيل الرسائل من أهل القرية إلى عدن، وهو ما يمثل حاليا «الفرزة» وكان السفر بالحمار أو الجمل والآن السيارات، أول ما وصلت عدن تفاجأت بالكهرباء.
في عدن درست في مدرسة «العجيل» لمدة سنة وقد كانت مدرسة أهلية لأبناء الشماليين لأنهم لا يقدرون أن يدخلوا مدارس حكومية، ومن الزملاء الذين درست معهم فيها أيوب طارش وعبدالله قاسم، والبليط، وفي تلك الأثناء أخذني أبي لأتعلم القرآن في مسجد البيحاني من بعد عصر كل يوم مع أن والدي كان لا يقرأ ولا يكتب لكنه غرس في نفسي حب العلم وكان رجلا متدينا وشخصا عاملا، وكان يحضر حلقات القرآن في مسجد البيحاني.
كان أبي يعمل في عدن بائعا متجولا يبيع التمباك وكان يحمله فوق رأسه، وفي كل يوم جمعة كان والدي يربط أربع حزم ويلفها في «الطربال» وأحملها فوق رأسي ونمشي حتى نصل إلى محطة الباصات ثم نمشي من «كريتر» إلى باب عدن ثم «المعلا» ونبيع «التمباك» حتى نصل إلى منتصف المعلا في الظهر ثم نصلي ونخرج نتغدى المخبازة يطلب لنا لحماً، ثم نمشي من «المعلا» إلى «القلوعة» ثم إلى «حافون» ثم «التواهي» ثم إلى «بنكسار»، تأتي الساعة السادسة ونحن في «بنكسار» نهاية «التواهي» وقد خلص أبي بيع التمباك.
الحاج فارع رباني وكنت أشتغل في بيته وأدرس، كان يحب العلم ويدعم المتعلمين، كنا نشتغل في مقهاية فارع نغسل صحون، وكؤوس الشاي وكنا نوزع الحليب في الصباح بدري هذا أنا لوحدي.. ظللت فيها لمدة ثلاث سنوات إلى أن سافر أبي إلى السعودية وسافرت بعده.
الحياة في عدن كانت بسيطة .. عدن كانت تستقبل الجميع وتضم عددا من الطوائف والجنسيات، كانت عدن لا تشعرك بأنك غريب نهائيا، رغم تواجد الكثير من الطوائف، كان في عدن ثقافة وبدون عقد، في مدينة عدن استهوتني القراءة، كما كانت طبيعة الحياة في عدن بسيطة وكان هناك وعي بالجانب الديني لكل طائفة ديانتها ومعابدها.

المحطة الثالثة من حياتي كانت جدة السعودية
سافر أبي إلى جدة في السعودية قبلي وأنا سافرت مع الحجاج وأقمنا في باب شريف في جدة حيث عمل والدي بائعاً متجولاً يبيع الكيك.
وفي جدة دخلت مدرسة «العزيزية» وهي مدرسة أهلية ، كانت بعيدة عنا ثم أخدني أبي إلى مدرسة ثانية اسمها «الفلاح» درست فيها سنة ونصف.
كانت شوارع جدة ترابية ما زلت أذكرها في تلك الأيام (1957 -1958م) كان الناس بدوا لم أقدر أحدد التاريخ بالضبط لكنني أذكر أنه في نفس ذلك العام صعدت كلبة روسية إلى الفضاء فكان حديث الناس في تلك الفترة عنها عام 1957م .. وقتها كنت أدرس في الصف الثالث ابتدائي وأثناء إقامتي في السعودية أديت فريضة الحج مرتين وكان عمري 11 سنة.
في جدة لم أشعر بالغربة مثلها مثل عدن فهي مدينة ساحلية وتعتبر امتداداً للسواحل التهامية كما أن جدة تأثرت بثقافة مدينة زبيد ،ولم يكن فيها في تلك الفترة تشدد ديني رغم تواجد «المطاوعة».
المرحلة الثانية من محطة عدن .. من سيرة حياة المسَّاح:
بعد عودتي مع والدي من السعودية إلى عدن، درست في المعهد العلمي الإسلامي وكان أشهر معهد في عدن، أسسه العلامة الشيخ محمد سالم البيحاني حيث كانت المناهج فيه عامة, ودرس فيه الكثير من الرواد أمثال أحمد دهمش –محسن العيني- أحمد حسين المروني –علي عبدالجبار النعيمي ،كان هؤلاء يدرسون في المعهد وكان ذلك في عام 1960م ومن يعدها طلب الإمام أحمد يحيى حميدالدين رفض وجودهم في عدن وطلب ترحيلهم، فرحلوهم من عدن.
كانت في عدن مدراس كثيرة منها «مدرسة كريتر الابتدائية» كبيرة لكن كان يدرس فيها أبناء عدن الذين هم من مواليد عدن، ثم أتت «كلية بلقيس».
كانت عدن تزخر بكل الجنسيات ،وكانت مدينة كل الجنسيات، كانت الأجواء مفتوحة ومن هنا بدأت العمل في بيع الصحف في المساء بعد المدرسة.
بدأت أنا بالعمل في عدن وكنت أبيع الصحف والجرائد، منها «اليقظة- الأيام – فتاة الجزيرة»، كان ذلك كل يوم بعد العصر وأنا طالب في الصف الأول إعدادي ،وكان والدي قد عاد للعمل في السعودية وأنا ظللت عند الحاج فارع ،وكان أبي أيضا يصرف علي وأنا عند الحاج فارع.
أثناء بيعي للصحف كنت أقرأها وكانت قراءتي لها تفيدني ثقافياً .. كما كنت أحب جمع طوابع البريد والتبادل بها وبيعها وكانت تحمل ذكريات، كما كنت أقرأ كتباً خارج الكتب المدرسية، كنا نعطي للمدرسين في المدرسة وخاصة المروني وكانوا يقولون لنا ادفعوا لنا نصف شلن ونحن نشتري لكم كتبا خارج المنهج المدرسي ، وتأثرت بها كثيراً وأول كتاب قرأته كان في مكتبة في شارع الملكة أروى حيث كنت أذهب اليها أطلع على عناوين الكتب ،وكان أول كتاب أقرأه هو كتاب «الأجنحة المتكسرة» لـ جبران خليل جبران.. ثم رواية «اللص والكلاب» لـ نجيب محفوظ.
خلال هذه الفترة بدأ يتشكل لدي الوعي الثقافي والسياسي، ففي عام 1960م جاءت قوات عبدالناصر وبدأنا بالتأثر ،وكان صديقي عبدالعزيز سلطان مغلس قد تأثر تأثراً غير مباشر بالحركة القومية وأنا كنت طالباً في المعهد.
وفي هذه المرحلة كان للسينما دور فقد لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الوعي الفني والسياسي .. وفي وقتها كانوا يمنعوننا من دخول السينما ويقولون لنا إنها حرام.
في أيام شهر رمضان كان سعر التذكرة أرخص فكنت أخلّص عملي في مقهاية فارع بدري بسرعة بسرعة ،ثم أقول لهم سوف أذهب لأصلي الوتر والتراويح فأذهب السينما ـسينما «الأهلية» أو سينما «مستر حمود هريكه» أشوف فلم أو فلم ونصف إلى الساعة العاشرة مساء ، ثم أعود بسرعة إلى مسجد البيحاني «العسقلاني» ثم أحضر حلقة البيحاني للقرآن وكانوا يعطوني اثنين شلن كل ليلة.
في عام 1961م أحببت أن أستقل بنفسي وخرجت من عند الحاج فارع وكنت أبيع الصحف في الإجازة ،حيث تأثرت بأفكار الاشتراكيين التي تزامنت مع ظهور عبدالناصر ،وعندما لم أجد مكاناً أنام فيه رحت أنام في زريبة البقر حق الحاج فارع في «القطيع» بكريتر.. ثم جاء الحاج فارع وأخذني واشترى لي ثياباً جديدة وعدت إلى المقهاية وقال لي لا تضيع نفسك، كان في عدن تكافل اجتماعي ،وفي تلك الفترة لم أذهب إلى سينما «ريجل» في «خور مسكر» غير مرتين لأنها كانت بعيدة ، وتأثرت بأفلام فريد شوقي وهدى سلطان ومحمود المليجي وخاصة فلم «رصيف نمرة خمسة».
في تلك الفترة أبي كان يدفع لي فلوس المدرسة ولكن البيحاني كان يخفض النصف ويساعد أبي على تعليمي لأن أبي كان يحضر الحلقات حق البيحاني.
في عام 1962م قامت ثورة 26 سبتمبر وأنا كنت في عدن فكانت مسألة الثورة تلعب دوراً ومن هنا جاء الحنين إلى الشمال وعملنا هناك مظاهرة.
بعد أن عاد أبي إلى عدن كان يعطيني اثنين شلن ويبيع خبز «الخمير» أمام مقهاية الحاج فارع وكنت ألعب كرة القدم في «القطيع» خلال تلك الفترة في عدن وكان يسمى الفريق «كرت» الفريق الثالث في نادي الأحرار، في عام 1962م وعام 1963م مع بداية الثورة حيث كان أبناء عدن يشاركونني حبنا للثورة.
في تلك الفترة كنت أذهب القرية أجلس شوية ثم أعود إلى عدن ،وفي عام 1963م عدت إلى القرية وبعدها إلى تعز ومن ثم عملت عند شخص من القرية في مطعم في باب موسى ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة عشتها في تعز.
محطة تعز.
وصلت تعز في بداية عام 1963م بعد عودتي من عدن، سجلت في القسم الداخلي دار «الناصر» في تعز وكنت أعمل في مطعم العزعزي علي عبده في باب موسى وهو شخص من القرية .
درست في مدرسة الثورة الابتدائية (الأحمدية سابقاً) في البداية عملوا لي اختبار قبول، عمله الأستاذ محمد النعامي لتحديد المستوى، فقرروا أني أدرس في الصف الثالث إعدادي ومع وصول البعثة المصرية وبعد دراسة ثلاثة أشهر تم امتحاني الشهادة أعدادية وانتقلت للمرحلة الثانوية وكانت الدراسة جادة ،وفي بداية وجود المدرسين المصريين درسونا فترتين وظللت في تعز ثلاث سنوات.
أتذكر من رفاق هذه المرحلة عيسى محمد سيف- عبده سعيد طشان- عبدالحليم محمد عبدالله –محمد الحيمي –حسن مجلي –ياسين عبدالعليم- محمود جمال .
وفي عام 1963 وعام 1964م دخلت حركة القوميين العرب حيث كان توجهنا قومياً «ناصرياً».
كان للبعثة القومية أثر في نشر المبادئ القومية بين الطلبة وبعد سنوات الدراسة ونشاط الحركة الطلابية كان رئيس الحركة الطلابية 65 و66 عمر عبدالصمد اليافعي وأنا كنت أمين عام اتحاد الطلبة وقبله كان رئيس الاتحاد عبدالحليم محمد عبدالله العبسي.
كان دور الحركة نشطاً جداً ،وقد تمثل هذا النشاط بالمسيرات والمنشورات وقد لعبنا دوراً كبيراً في توزيع نشرة الجبهة القومية التي كانت تصدر في تعز، كانت تعز حينها أشبه بخلية النحل في النشاط السياسي والاجتماعي والثوري ضد المستعمر وكانت ثورة الشعب اليمني بكامله، وكانت (حركة القوميين العرب) متصدرة العمل القومي والنضالي ضد المستعمر.
وفي عام 1965م كتبت أول محاولة قصصية لي بعنوان «الوردة الذابلة» ونشرت في صحيفة الجمهورية وكان من محرريها محمد الكاظمي .. ثم تلتها محاولات لكن لم تكن مكتملة .. ومن الذين كنت أختلط بهم من كتاب القصة في تعز سلطان الشيباني الذي كان ينشر قصصه في صحيفة الجمهورية في الستينيات.
كنا أول دفعة ثانوية في شمال اليمن وقد امتحنا شهادة الثانوية في مدرسة عبدالناصر في صنعاء كما كانت أول بعثة إلى مصر بعد الثورة ثم بعدها انتقلنا إلى القاهرة مع زملاء من صنعاء والحديدة.

محطة القاهرة
وصلنا القاهرة في عام 1966م كنت ضمن بعثة الوافدين التي منحتها الحكومة المصرية، سافرت عبر ميناء الحديدة مع الجنود المصريين العائدين ووصلنا إلى ميناء «الأدبي ة» قرب قناة السويس، ومن ثم ركبنا باصات إلى القاهرة.
درست في كلية الآدب قسم صحافة، كانت تلك الفترة عز الفترة الناصرية، وأيضا في الستينيات أول ما وصلنا القاهرة كان المسرح في أوج نشاطه، والنتاج الفني والشعري منهم: صلاح عبدالصبور، أمل دنقل وحجازي.. وفي الرواية نجيب محفوظ والكثير.
وفي القاهرة لم أهتم بالعمل السياسي، مع أنه كان لي زميل مصري وتأثرت به كثيراً اسمه «بدر السيد الرفاعي» كان أبوه من مؤسسي حركة التحرر الوطني في القاهرة وكان زميلي في الجامعة في كلية الآداب وكان عميق الثقافة واستفدت منه كثيراً وكان رفيقاً مقرباً لي، وهذا الرجل ترجم عدداً من الكتب في المجال الثقافي وطبعت له سلسلة عالم المعرفة عدداً من الكتب.
كان بدر ضمن اليسار وكان يعرف فنانين ومسرحيين وكانوا يدخلوننا إلى المسرح القومي في البلكون آخر مكان، ومن المسرحيات التي حضرتها مسرحية «في دائرة الطباشير القوقازية» لـ بريخت.. وهي ضمن المسرح الملحمي، ومسرحية «الإنسان الطيب» وكانت القاهرة في تلك الفترة تضج بالحراك الثقافي وكنت أقرأ كل ما يصل إلى يدي من روايات وشعر وتأثرت بالبياتي واجتمعت معه مرة في قهوة «الباز» حضرت له مرة أو مرتين وتأثرت به كثيراً، وتعرفت على الشاعر فؤاد الحدد شاعر العامية وسيد حجاب ورحت أزوره مع بدر، البياتي كان مسيطرا عليّ سيطرة كاملة، وقد قرأت أعماله ومعي دواوين له في القرية أحضرتها معي من القاهرة، والكثير من الشعراء مثل أدونيس والمصريين، وممن تأثرت بهم محمود السعدني في صحيفة صباح الخير، أنا تأثرت في القاهرة بصحيفتين مصريتين تأثيراً أدبياً وثقافياً وكان توجههما يسارياً هما «روز اليوسف» و «صباح الخير» وكنت أقرا لليسارية لويس كريس وموسى صبري في صباح الخير.
وتأثرت بأمل دنقل بعد البياتي وكان معه ديوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» هو شاعر عميق وكان شخصاً فريداً لوحده وشعره له تأثير وهو من أقوى الشعراء الذين كتبوا بعد النكسة، صلاح عبدالصبور الذي تأثرت بمسرحياته الشعرية مثل «الحلاج» وغيرها.
زكي نجيب محمود كان يمثل التيار المحافظ وعبدالرحمن بدوي المترجم الذي ترجم عددا من الكتب اليسارية والفلسفية، وفي عام 1969م تأثرت بالروائي صنع الله إبراهيم وأثرت فيَّ روايته الأولى « تلك الرائحة».
لم أحاول في تلك الفترة أن أكتب في الصحف المصرية، لكني كنت في بعض كتب الدواوين التي كنت أقرأها أكتب معارضة لقصائد تلك الدواوين بجوار القصائد، كانت تلك فترة بداية تكوين وكنت أقول يجب أن يكون لي أسلوب خاص بي.
وفي تلك الفترة كان تأثير النكسة علينا تأثيراً رهيباً في عام 1967م لحد أننا في الجامعة حاولنا أن نتجند مع المقاومة الشعبية، ولهذا تأثرنا بها كثيرا وكانت هناك نهضة قومية، وظاهرة في الستينيات ممثلة في انتشار وتعميم الثقافة كما أن عبدالناصر بعد 1967م بدأ يحتضن اليسار وفي المجال السياسي تأثرت بالكاتب لطفي الخولي في مجلة «الطليعة» وهي جريدة تصدر مع الأهرام وكانت تصل إلى اليمن أيضا.
القاهرة كمدينة لا تشعر فيها بالغربة والشعب المصري بطبيعته عشري لا يوجد عنده استعلاء ويتعايش مع الكل، أذكر أننا نعمل عند الشغالة حقنا جمعية لبداية السنة ونشتري كتبنا وكتب المنهج وأيضاً كنا نروح نبيع لها ثيابنا القديمة وكانت مستشارة لنا نستشيرها في أمورنا.
وتأثرت في المجال الصحفي بالصحفي المصري أمين رضوان وقد زار اليمن وعاش فيها بداية السبعينيات وكان من الذين سجنهم عبدالناصر وأفرج بعد ذلك عنه، كان يكتب في صحيفة الجمهورية بعد العفو عن الشيوعيين، وكنت أرافقه وأي حاجة تخص الصحافة أستشيره فيها وهو من الذين استفدت منهم كثيراً.
أثر فينا الوعي الفني والسينمائي تأثيراً كبيراً حيث كانت السينما والمسرح والآدب في تلك الفترة في أوج تألقها، وقد تصدرت أفلام يوسف شاهين ومنها فيلم «العصفور» الثقافة السينمائية في تلك الفترة وكنت أذهب أنا وبدر إلى دور السينما، أيضاً كنا نعمل نشاطاً في الرابطة الطلابية اليمنية ونقيم فعاليات وندوات شعرية وغيرها.
كنت أقرأ أيضاً مجلة المجلة أو مجلة الآداب اللبنانية التي تصل إلى القاهرة كانت قراءتي يسارية كنت أقرأ لوركا وبابلونيرودا وناظم حكمت والذين أثروا فيني كثيراً، وتأثرت بفيلم زوربا كثيراً، وتأثرت بشخصية زوربا في الفيلم.
القاهرة لعبت دوراً كبيراً وأثرت تأثيراً كبيراً عليّ، لم أكن مخططاً لدراسة الصحافة في القاهرة ولكن الزملاء قالوا ندرس صحافة فدرسنا، ربما كان ذلك نتيجة تأثري بقراءة الصحف في عدن.

محطة صنعاء..
عدت في نهاية 1970م من القاهرة ووصلت صنعاء حيث وجدت الأستاذ عبدالله حمران الذي أعطاني فلوساً وقال لي: اذهب لزيارة الوالدة في القرية، ثم رحت عدن ولم يعجبني الجو هناك وزرت فيها قبر أبي والحاج فارع، ثم عدت إلى صنعاء ووجدت أصدقاء لي وقالوا نقدم امتحان قبول في الخارجية وتم قبولي مع بعض الزملاء منهم أحمد الارياني، علي محسن حميد وأحمد الأكوع، ثم عينت سكرتيراً ثالثاً.. كل الدفع قبلت واشتغلت في الدائرة السياسية قسم العلاقات العامة وكنت أخرج لهم نشرة شهرية اسمها «الدبلوماسي» ننشر فيها أخبار الداخل وتوزَّع في الحقيبة الخارجية.
في هذه الفترة كان لدي صديق اسمه محمود جمال كان رئيس تحرير صحيفة الثورة وذات مرة عند مروري من ميدان التحرير كان هناك تجمع لإعدام شخص ولم يعدموه وأعادوه إلى سجن الرادع وفي اليوم الثاني مررت من نفس المكان حيث تم إعدام نفس الشخص فتأثرت بذلك وكتبت قصة أسميتها «حفلة إعدام» في نهاية سنة 1970م واعطيتها لمحمود جمال وقلت له: هل ممكن تنشر؟ فقال: نعم ونشرت في «الثورة» نهاية 1970م.
ظللت أعمل في الخارجية وفي يوم لقيت عبدالله حمران وقال لي إذا أردت أن تسافر إلى الخارج تعال إلى وزارة الإعلام ونحن نسفرك ثم ظللت في الخارجية حتى بداية عام 1972م وبعدها انتقلت إلى وزارة الإعلام لمدة ثلاثة أشهر تقريبا ثم عينت رئيس تحرير صحيفة «الثورة» في 1972م لكني رفضت أن يكتب اسمي رئيس تحرير الصحيفة وقتها قلت لـمحمد الزرقة وعلي العمراني وعبدالله الشرفي أن تكون هناك هيئة تحرير للصحيفة وأيضا كنت أعلم أنهم سوف يبعدونني بسرعة.
وبعد حوالي ستة أشهر، جاء موقف حيث كان عبدالله الوصابي نائب وزير الإعلام وكنت أحياناً أسرِّب بعض المقالات ضد الوضع، وفي ذات ليلة جاء الأستاذ أحمد دهمش والأستاذ عبدالله الوصابي يفتشان المواد، ويومها كتبت مقالاً سياسياً يحمل طابعاً أدبياً عن « الحيَّات والحنشان» أخذ الأستاذ دهمش بعض المواد والأستاذ عبدالله الوصابي بعض المواد وهذا المقال قلت للعمراني أن يقرأه ويشوف وهل فيه شيء فقال لا يوجد فيه شيء وقال العمراني لدهمش «خلاص هذا يمر لا يوجد فيه شيء، وهذا المقال له حكاية لمقال كتب قبله عمل شوشرة في القصر الجمهوري أيام الارياني»، وبعدها بعد نشر هذا المقال جاء الأستاذ أحمد دهمش وقال «لماذا كتبت هذا الكلام هيا خلاص قد غيَّروك وعيَّنوا شخصاً ثانياً رئيساً للتحرير».
كتبت نثرية في مقتل إبراهيم الحمدي أسميتها «مرثية إلى عيون الشعب»، ذلك الرجل كان شخصاً يمثل الشعب كان رجل موقف مع أنه كان ضد اليسار وحبس الكثير منهم في فترة حكمه لأن اليسار كان دائماً في جانب المعارضة، إبراهيم كان هو وسالمين لديهما مشروع وطني لتحقيق الوحدة ولو توحدت اليمن في أيامهما لكانت اليمن شيئاً آخر لكن تآمروا عليهما وقتلوهما.
أذكر في السبعينيات كنت عضوا في لجنة الرقابة على الأفلام التي كانت تعرض في دور السينما أنا ورؤوفة حسن ومحمد الشاطبي الذي كان يقود البردوني، كانت السينما لها حضور، وكنا نختار الأفلام الجميلة في وقتها وكان مطعم فندق الزهرة ملتقى للناس وكان يسمى المسعى، شارع عبدالغني فيه الكثير من المطاعم والمنتزهات وكان مكان فندق سبأ الحالي تحته «بار».
أذكر في عام 1973م ذهبت إلى القلعة « سجن القلعة» لمدة ستة أشهر بدأت أكتب «لحظة يا زمن» في 1975م وقبلها كتبت عدة أعمدة بداية من «لقطة من الزاوية» و»الناس والأشياء» و»لقطة من عين الكاميرا» واستمررت حتى سنة 1975م ثم كتبت «لحظة يا زمن» بعد عودتي من القرية بعد زواجي وبعدها استمررت بكتابة عنوان «لحظة يا زمن» حتى عام 2016م ولكن جاءت فترات توقفت عن كتابتها في بداية التسعينيات ثم عدت أكتبها في نهاية التسعينيات وخلال تلك الفترة كتبت في بعض الصحف مثل صحيفة الغد من عام 91م إلى عام 1993م كان مدير تحريرها محمد جار الله وأيضا كتبت في صحيفة الشورى في سنة 1997م حتى عام 2000م ثم عدت أكتب اللحظة عندما استدعوني من «الثورة» لكي أعود لكتابتها في الصحيفة وبعدها غيرت العنوان في صحيفة الشورى وكتبت تحت عنوان «عيبة المجذوب».
كنت أكتب بعض مقالاتي بطابع أدبي وكان اختياري للعنوان عن مواقف ومشاهد حياتية «لقطة.. من عين الكاميرا» كانت عبارة عن مشاهد سيناريو يعني في لقطة من الكاميرا وحاولت التصوير بالكلمات حتى وصلت إلى عنوان « لحظة.. يا زمن» وكنت أكتب اللحظة بنفس واحد وأحيانا أكتبها في خمس دقائق لم استمر بكتابة القصة القصيرة لأنها لم تستهوني كثيراً واكتفيت باللحظة.
ارتباطي بالقرية بسبب أمي التي هي من ربطتني بالقرية، أيضاً تأثرت بالقرية لأن القرية تمثل البساطة وكانت تعجبني الأغاني الريفية حيث الإنسان العادي هو الذي يكتب ويلحن، وأغلب لحظاتي كانت مطعمة بالمفردات الشعبية المحكية والعامية وهي تأتي قريبة من القلب، أيضا عندنا العامية مفرداتها غنية وأغلبها فصحى، أيضا القرية تعطيني تأملاً عبر الأفق المفتوح على عكس المدينة التي تصدمك بالإسمنت والحديد في عمارتها.. وتعطيك أيضا القرية السكينة والهدوء وتجعلك تحس أنك مرتبط بالأرض وكأنها أمك، لكن المدينة تقطع عند الإنسان ذلك الارتباط، المدينة تخلق عندك الجفاف.

محطات مقتطفة..
بعد توقفي عن كتابة اللحظة عدت في عام 1999م ثم واصلت كتابتها حتى بداية 2004م ثم توقفت لمدة تسعة أشهر ، لم يكن هناك سبب معين للتوقف بل كان مزاج.. روَّحت القرية.. وبعدها عدت بعد سبعة أشهر وتواصل معي حسين العواضي وكان وزيرا للإعلام واستمررت في كتابة «لحظة يا زمن» إلى بداية 2016م في شهر مارس توقفت وبدون أي سبب.
أحيانا أكتب اللحظات في المنزل لكنها ليست بذلك النشاط الذي كان يومياً.. فأحيانا عندما يحصل موقف ما أسجله لكني أحتفظ به لنفسي في المنزل ولم انشره، اللحظات السابقة كانت يومية، الآن نادرا.. فهذه المرحلة لا تشجع على الكتابة، صحيح أن الأحداث لا تشجع على الكتابة ولكنها لو استغلها أي كاتب فسيبدع إبداعاً باهراً.. والصدق أن هذه المرحلة شطبت شيئاً جميلاً ولا تستحق أن تسجل في التاريخ.

المساح وحديث عن مكتبته الخاصة وكتبه..
مكتبتي متواضعة وتنقسم إلى قسمين، المكتبة اليمنية والمكتبة الأدبية والعالمية، وتحوي في رفوفها ما بين 700-800 عنوان، أنا اطمح لتكوين مكتبة شاملة حتى يأتي من بعدنا ويستفيد منها.
أنا شخصياً خرجت من بيئة غير مثقفة لأن الثقافة والأدب كانت محصورة لدى من يحكمون البلد متمثلة بالإمام أحمد وخبرته، «أحمد يا جناه».
علاقتي بالكتاب قوية، أقرأ قصصاً قصيرة وروايات وشعرا الكتاب رفيق درب، رفيق حياة وصديق، وهو ملجأ وملاذ الذين يبحثون عن الحقيقة بشكل عام، ورغم أنها نسبية ولا يمكن الحصول عليها بشكل عام إلا بشق النفس وهي غائبة.
ما مصير مكتبتي؟ هذا السؤال الذي أطرحه على نفسي وأخاف أن تتفرق الكتب ولا يوجد أحد يهتم بها، أحيانا أسأل نفسي: يا مساح أين بتروح هذه الكتب التي جمعتها بشق النفس؟ هدفي هو مشروع تكوين مكتبة عامة في قريتي ولكنها تحتاج إلى من يقدم مساعدة لإنشائها.. فأهل القرية فقراء لا يستطيعون المساهمة في إنشائها..
لقد بدأت بجمع الكتب منذ أن كنت في القاهرة وبعدها في السبعينيات في صنعاء وأي كتب أجمعها كنت أرسلها إلى القرية، لكن عند عودتي من القاهرة كانت لدي حقيبة مليئة بالكتب ولكنها ضاعت أثناء التنقل من منزل إلى منزل لذلك كنت أحرص على إرسال أي مجموعة إلى القرية.
لقد أثر فيَّ كل الأدب العالمي-0 الروسي وكتابات ماركيز و»نيكوس كازنتنزاكي» وغيرهم الكثير.. وفي الشعر ناظم حكمت- بوشكين – ومسرحيات شكسبير.
في فترة الستينيات والسبعينيات ذهبنا إلى القاهرة فجعلتنا منفتحين على العالم، بعد الثورة خرجنا مثل الجياع، متعطشين للقراءة، خرجنا من كهوف الظلام، لأن الإمامة ضربت حصاراً ثقافياً خانقاً على الشعب فكنا نقرأ كل شيء ولهذا نقدر نقول إن الأدباء الواعدين الآن هم ثمرة للتعليم والمدارس..
بالنسبة للقصة القصيرة جدا كنا مؤسسين لكتابتها في السبعينيات كما كان المقالح يحتفل بكل جديد في الثقافة والإبداع في السبعينيات، كنا نحاول نشر وعي التجديد والتحديث.. حاولنا أن نقوم بعملية إيقاظ الشعب.. وأن نقوم بنشر الثقافة والوعي للنهوض بالوطن والمواطن.
كنت أتابع مجلة شعر.. ومجلة الآداب التي يحررها سهيل إدريس الصادرة من بيروت، هذه كانت مصادر تجديد وتحفيز، القاهرة كانت مركز إشعاع ونحن من أصحاب القاهرة التي تزودنا منها، أيضا نحن تأثرنا بالصحافة اليمنية من قبل أن أسافر إلى القاهرة أي منذ أيام عدن:
فتاة الجزيرة- اليقظة – الأيام – الفجر الجديد.. الصحف التي كانت تصدر في عدن تعلمنا منها، وبالنسبة للصحف التي صدرت بعد الثورة كنت أتابعها وأطلع عليها.
لا مشاريع مستقبلية لأني « شاروح» القرية أرقد.. وأموت .. لأن الجو الآن مرعب وخانق.. كأننا في عهد فرانكشتاين.
أما شعوري نحو هذا الكتاب فإنني أقول في هذه بادرة طيبة تريح النفس وتوحي بأننا لن نترك أو نتجاهل.

قد يعجبك ايضا