الشعر الحميني.. الظهور والتسمية

عبدالوهاب سنين

قبل الخوض في تاريخ الشعر الحميني، وسبب تسميته، أُعرج قليلاً على ذكر سدنة الشعر الحميني، حيثُ والتراث الشعبي مورث حضاري، يحملُ ثقافة خصبة يزخر بها أولئك الذين تربعوا على عرش هذا التراث الباذخ، ومن هذا الزخم الآسر الشعر الحميني الذائع الصيت في ربوع اليمن ريفها وحضرها. كما أن له شعراء اختصوا بهذا اللون، الذي أصبح لصيقاً بأهل اليمن، وأصبح القلب النابض في جسد الفن الشعبي اليمني العريق، وشعراء هذا اللون كُثر، ولكن هناك من كانت لهم بصمة ارتباط بالموسيقى والغناء، ومن هؤلاء الأعلام شهاب الدين أحمد بن محمد فُليتة، توفي سنة731هـ بمدينة زبيد، وهو من أكابر أدباء العهد الرسولي، وهو من كُتَّاب الإنشاء للدولة، له ديوان عداده في مجلدين الأول خصصه للشعر الفصيح، والثاني للشعر الحميني، وفيه سكب يراعه بأنواع عديدة، ومنها البال بال والساحلي والدوبيت ، وهو المشهور بـ( سوق الفواكه ونُزهة المُتفاكِه), والثاني الفقيه فخر الدين عبدالله بن أبي بكر المزّاح، ويُعد من الفصحاء والبلغاء، وله الباع الأرحب في الشعر الحميني، وديوانه كما يقول البريهي: في غاية الفصاحة، وهو أشعر أهل اليمن. وتوفى في مدينة ذمار بموضع يقال له الجربة، وذلك في سنة (830هـ – 1427م) ، والثالث الفقيه الشاعر محمد عبدالله شرف الدين توفى سنة(1016هـ – 1607م)، ويغلب على شعره الموشحات، وهي في غاية من جمال الصنعة والرقة، وأكثر ميوله في الغزل والتشبيب، وكان عزوفاً عن السياسة، ولا يهوى سوى الشعر، إذ جعله منه كالسيف من الغمد، وله ديوانان جمعهما الخبير بشعرة قريبه المؤرخ عيسى بن لطف الله بن المطهر شرف الدين، توفي سنة (1048هـ- 1638م)، أما الأول فلا يزال مُحتجِباً عن العيون، وتنتظر القرائح خروجه إلى النور، والثاني ديوانه المشهور والموسوم بـ(مبيّتات وموشحات)، وهو في متناول الشعراء والقراء، نشرته وزارة الثقافة ، وقام على تحقيقه تحقيقاً باهراً القاضي إسماعيل بن أحمد الجرافي، والمرحوم العلامة على بن إسماعيل المؤيد، والرابع الشاعر القاضي عبدالرحمن بن يحيى الآنسي توفي سنة (1250هـ- 1835م)، وهي السنة التي وافق فيها وفاة صديقه العلامة القاضي محمد بن علي الشوكاني، وكان بينهما مطارحات في الأدب والشعر، والآنسي من أعظم شعراء الحميني، إذ تمتع برقة تشنف الأسماع وتراقص حنايا الضلوع، ويشهد لعلو حمينيته ورقة قريحته ديوانه الموسوم بـ( ترجيع الأطيار في مرقص الأشعار)، وقاما على تحقيقه العلامة الرئيس الأسبق القاضي المرحوم عبدالرحمن بن يحيى الارياني، وصديقه المرحوم عبدالله عبدالإله الأغبَري، وللآنسي أيضاً ديوان شعر بالفصحى، وهو المسمى بـ (الأنموذج)، ولكن هذا الديوان لا يزال مخطوطاً، وتوجد منه نسخة بالمكتبة الغربية للجامع الكبير بصنعاء برقم 123 أدب، وهذا يعني أن هذه الفرائد القابعة في رفوف النسيان، لابد وأن ترى النور لتكتمل المكتبة الشعرية، ويتناولها الباحثون عن التراث واللاهثون في قنص الخرائد الحسان، وأختم بذكر الأديب الشاعر محسن بن محمد فايع الذي توفي سنة 1195هـ- 1781م، وله تلك القصيدة الرائقة، وهي من القصائد المُغناة، التي شدى بها الفنان أحمد السنيدار، و قيل أن هذه القصيدة دونت في مدخل جامع سمرة بصنعاء، ومنها:
يامن عليك التوكُّل والخَلَف
ومَنْ لك الْطَاف فِيْنا سَاريهْ
ومن إذا تاب عَبْدك واعْترف
تِغفر جَميع الذَّنوب الماضيهْ
نَسيم بلغ إلى الرّوضة شَرف
سَلام يِزْري بعُرف الكاثيهْ
ونأتي إلى المُراد من هذا البحث، ونشرع بسؤال هل الشعر الحميني له زمن معين في الظهور، أم أنه عُرف ببعض من ذكرنا من الشعراء السالف ذكرهم؟ ومن أطلق هذه التسمية عليه؟
ربما يُقال أن الشعر الحميني له مدة زمنية حددت تاريخ ظهوره، وأنه لا يخرج عن فترة محددة بالقرن الثامن الهجري، ونجد ذلك في كتاب العلامة المؤرخ يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد المتوفى سنة1100هـ، حيثُ قال : (( وفي سنة(839 هـ) اخترع الشِّعر الحميني)) .
ويأتي جامع ديوان محمد عبدالله شرف، قائلاً: ((وبعد فيقول الفقير إلى الله : عيسى بن لطف الله وفقه الله إني لما فرغت من تدوين ما وجدته وظفرت به من شعر سيدي محمد عبدالله شرف الدين رحمه الله تعالى المُعرب وقضيت في ذلك ديني، أردت أن أجعل ختامه الموشح المعروف عند الناس بالحميني، وهو من النظم الذي ولع به المتأخرون، ولم يُسبق إليه الأولون)) وهذا النص المزبور بيراع جامع الديوان، جعل الدكتور المقالح ينفي نسبة التسمية لصاحب الديوان محمد، حيثُ قال : (( كل هذا يثبت أن التسمية ليست لشرف الدين ولم تنشأ في عصره، وأنها قد كانت معروفة للناس ومتداولة في زمان المزاح، وسمى بها موشحاته ومبيتاته)) ولكن هناك رواية تُروى عن محمد عبدالله شرف الدين، ولكنها جاءت بصيغة التمريض لا الجزم، وقد ذكرها الدكتور عبدالعزيز المقالح قائلاً : (( وعندما ظهر ديوان (مبيتات وموشحات) للشاعر محمد عبدالله شرف الدين حمل معه ما اعتبره البعض دليلاً كافيا- ليس للكشف عن مدلول التسمية فحسب بل عن تاريخ استخدامها، فقد ذكرها مع الديوان- أن الشاعر كان يحب فتاة قروية حسناء كان في لسانها انحراف، أو لثغ يجعلها تنطق اللام نوناً فتقول في حميلي وهو المشي السريع في العامية اليمنية((الحميني))، فصارت اللام نونا فكتب الشاعر قصيدة عنوانها حميني، صار بعد ذلك عنوانا لشعر شرف الدين، ثم علماً لكل الأشعار من هذا النوع التي صدرت في اليمن بعد ذلك)) واكتفى الدكتور بالعزو إلى ديوان ((مبيتات وموشحات))، وكنت أتمنى أن يورد تلك القصيدة، ويقوم بالتعليق عليها، وذلك لما فيه فائدة للقارئ، ومع ذلك فقد ذكر أقوال أخرى منها ما ذكرناه عنه آنفاً، وقال عقبها : و((كل هذا لا يثبت أن التسمية ليست لشرف الدين، ولم تنشأ في عصره وأنها كانت معروفة للناس ومتداولة في زمان المزاح وسمى بها موشحاته ومبيتاته)) ولكني وجدت تلك الرواية التي ذكرها الدكتور أطال الله في عمره، قد ذكرها أيضاً الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني كذلك بلفظ مقارب، إلا أن الأستاذ البردوني ذكر بيتين وقال : فقال شرف الدين(يعني محمد) في هذا :
«قروا لها بخطي
شعري الحميني
شعراً يهز منها
قامة الرديني »
وقارب الأستاذ البردوني رأي الدكتور المقالح، وبعد أن ذكر هذه القصة قال : (( لعل هذا النص لا يكفي لتسمية الشعر الشعبي((بالحميني)) لكنه التعليل القائم حتى الآن)) ، ولكن البيتين الذي ذكرهما الأستاذ البردوني رحمه الله، لم أجدهما بهذا اللفظ، وما وجدته في ديوان ابن شرف الدين هو قوله:
قروا بخطّكْ لِهْ غزلْ حُميني
يهزُّ حتى قامة الرّديني
ونذكر أيضاً عن التسمية رأي الأديب الشاعر أحمد بن محمد الشامي، حيثُ قال : أما الزبيدي فيذكر في مادة حمن : ( وقال نصر حمنان مأيمان، قال والحمنان صقعان يمانيان والحميني ضرب من بحور الشعر المحدثة وهو المعروف بالموشح). وفي موضع آخر قال أيضاً : (( إن الحميني نسبة إلى حمن وهو موضع يمني معروف)) ومع ذلك لا يزال كل ذلك مجرد افتراضات لا تخلو من ضعف، وهذا ما قاله الدكتور المقالح.
ولكني رأيت مقالة لأحد الباحثين يجزم أن بحثه دام عشر سنوات، ونتج عنها أصل التسمية، التي وصل لها، وأودعها في كتابه( الشعر الحميني- الريادة والأصول) وهذا المقال نُشر في (الرؤية العمانية)، وفيها أن الباحث توصل إلى تسمية الشعر الحميني يعود إلى قرية صغيرة تسمى(( الحمينية)) والتي تقع على بعد بضع كيلو مترات غربي مدينة حيس. انتهى المراد
ومع كل ذلك كان الدليل غير مُقنع، ومن حيثُ المنطق نقول إن الشعر الحميني صنعاني النزعة، وليست له جذور تهامية، ومع ذلك ظل الغموض يُسدلُ أستاره على هذه المسألة، وكل الافتراضات التي أتى بها السابقون لا تُعد دليلاً قاطعاً على التسمية، ومنها :
(( لفظ(حميا) وهومن أسماء الخمر.
لفظ(حمن) وهو اسم منطقة يمنية في الجزء الأوسط من اليمن.
لفظ (حماقي) وهو لضرب من الزجل)) .
وأضيف إلى تلك الألفاظ لفظ (الحمينية)، الذي سبق ذكره في كلام الباحث عبدالجبار نعمان، مؤلف كتاب (الشعر الحميني- الريادة والأصول).

أما الظهور فالراجح أن الشعر الحميني متقادم العهد، وله بُعد تاريخي وليس محصوراً في القرن السابع وهو عصر أحمد بن محمد فُليته، ولا في مشارف القرن الثامن، وهو القرن الذي حدد فيه اختراع الشعر الحميني يحيى بن الحسين بن القاسم، في كتابه الفريد(بهجة الزمن) كما مر آنفاً، وليس في القرن العاشر كما حدده عيسى بن لطف الله، جامع ديوان محمد عبدالله شرف الدين (مبيتات وموشحات)، بل نجد للشعر الحميني صدى أتى من الآماد البعيدة السابحة في القرون البالية، حيثُ روى علامة اليمن ومؤرخها الشاعر الحسن بن أحمد الهمداني في الجزء الثاني من (الاكليل) قوله : وفي (ذي جدن) الملك الجاهلي – جرى المثل بالحميري( قال: باع ذو جدن ماله) قال:
ويلْ ذي دولِهْ أي ويلْ
الذي ليس له مال يبيعهْ
وعلق على هذا البيت الشاعر الأديب أحمد بن محمد الشامي قائلاً : (( وهذا بيت (حُميني) وزناً، وطريقةً، ولحناً)) وما ذكره الأديب أحمد الشامي أيده الدكتور عبد العزيز المقالح.
وهناك دليل آخر يثبت أقدمية الشعر الحميني، وأتى على لسان شاعر يمني (الوجه واليد واللسان) وهو أعشى همدان عبدالرحمن بن عبدالله بن الحارث بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، حيثُ أورد أبو الفرج في (الأغاني) خبراً مسنداً قال فيه : (( أخبرني محمد بن الحسن بن دُريد قال حدثَّنا أبو حاتم قال : سألت الأصمعي عن أعشى همدان فقال : هو من الفحول وهو إسلاميّ كثير الشعر، ثم قال لي : العَجَبُ من ابن دَأْب حين يزعمُ أن أعشى همدان قال :
مَنْ دعا لي غُزَيِّلي
أربح اللهْ تجارتُه »
وهذا البيت الملحون الذي رواه أبو الفرج عن أعشى همدان، حميني اللون يمني الهوى، ولكن الأصمعي استنكر أن يأتي مثل الأعشى ببيت ملحون فيه عامية، وعلى مثله اللحن معيب، ولكن الأصمعي على جلالة قدره وعلو كعبه في رواية الشعر، ليس له معرفه بهذا اللغة (الفصعمية) الخاصة بتراث أهل اليمن، لذلك نقل صاحب (الأغاني) قول الأصمعي :(( سبحان الله، أمثلُ هذا يجوز على الأعشى؟ أن يجزم اسمَ الله عزّ وجلّ ، ويرفَع تجارتَه وهو نصب. ثم قال لي خَلَفٌ الأحمر : والله لقد طَمِع ابنُ دأْب في الخلافة حين ظنّ أنّ هذا يُقبَل منه أن له من المحلِّ مثلَ أن يجوِّز مثل هذا، ثم قال : ومع ذلك أيضاً إن قوله:
مَن دعا لي غُزِّيلي
لا يجوز، إنما هو : مَن دعا لغزيِّلي ، ومن دعا لبعيرٍ ضالّ))
وأكتفي بما تم ذكره من تاريخية الشعر الحميني، وكذلك سبب تسميته، وللقارئ البحث حول التاريخ والتسمية، ولعل هناك من يأتي بالخبر اليقين.
وبالله التوفيق،،،

المراجع
• (مصادر الفكر الإسلامي)
• (ترجيع الأطيار ومرقص الأشعار)
• (بهجة الزمن) ليحيى بن الحسين بن القاسم
• (مبيتات وموشحات)
• (رحلة في الشعر اليمني)
• (في الأدب اليمني)
• (شعر العامية في اليمن)
• (الأغاني) الجزء السادس
• (قصة الأدب في اليمن)
• (فنون الأدب الشعبي في اليمن)
• (سفينة الأدب والتاريخ)

قد يعجبك ايضا