حروف موجوعة في وداع البروفيسور البدوي.. محمد الراعي

 

أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور*
في الذكرى الأربعين لوفاة فقيد جامعة عدن والقطاع الصحي في الجمهورية اليمنية، نستذكر معاً مناقب وأعمال فقيدنا العزيز البروفيسور محمد غرامه الراعي، العلمية والنقابية والسياسية، وهو الذي صال وجال في رحاب اليمن من أقصاه إلى أقصاه، كما أن أثره وتأثيره لم يكن محصوراً بجغرافية اليمن بل تعداها إلى رحاب الوطن العربي الكبير وصولاً إلى بقية أقطار العالم باعتباره احد الخبراء المرموقين في منظمة الصحة العالمية .
تعرفت على الصديق العزيز المرحوم محمد غرامه الراعي مُنذ أزيد من أربعة عقود من الزمان، كانت حافلة بالعديد من المواقف والأحداث والمعايشات الإنسانية الجميلة، تطورت المعرفة والعلاقة فيما بيننا إلى أن تحولت إلى صداقة حميمية عميقة، كنّا زملاء دراسة في الدفعة الثالثة لطلاب كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة عدن (1977 — 1981م)، درسنا معاً في المبنى القديم للكلية في ضاحية (كريتر) التي تحولت فيما بعد إلى معهد للفنون الجميلة، كنّا مجموعة متجانسة من الزملاء في هذه الدفعة وعلى رأس مجموعتنا كان فقيدنا العزيز محمد غرامه الراعي – رحمة الله عليه، وعبدالقادر محمد العلبي، هلال الجعيدي، محمد الجعيدي، خالد الزوقري، الشهيد محمد علي هاشم المقطري، علي حيدره ماطر، عبدالحفيظ قاسم غالب، وعبدالقادر حسين الكاف، الفقيد سالم أحمد درعان، الفقيد صالح العُميري، عبدالباسط محمد باجنيد، أحمد محمد مقبل، عبدالجبار سلام، جميل العواضي، محسن الكيله، صالح مُثنى البيشي، عبدالحميد سلام وحسين درويش السلامي، ومن بين الأخوات العزيزات الكريمات شفاء بنت مخاشن، شفيقة مرشد، أسمهان بنت حاتم، سميرة قائد، نادية شمسان، سميرة العقربي، أفراح الشرفي، فيروز عبده، إقبال منيباري وأخريات عزيزات لم تعد الذاكرة تحمل اكثر من تلك الأسماء للأسف، هُنّ وهؤلاء الزملاء الكرام منهم من قضى نحبه وانتقلت روحه الطاهرة إلى رحاب الخالق جلّ في عُلاه رحمة الله عليهم جميعاً، ومنهم من شق طريقه في دروب هذه الحياة الوعرة بمنعطفاتها العديدة، ومنهن من لا زلنَ في تواصل معنا، ومنهم من انقطعت أخباره عنّا في وسط ركام هذه الدنيا الفانية، وهكذا هي الحياة بطبيعتها وناموسها وجدليتها وسيرورتها الأزلية وستستمر كذلك إلى أن يرث الله الكون ومن عليها.
الدكتور محمد غرامة ينتمي إلى الريف الجميل المجاور لمدينة عدن (سلطنة العواذل – لودر)، وهي اليوم جزء من محافظة أبين، غادرها مُبكراً وعاش في رعاية شقيقه الشهيد الشاعر/ ناصر الحميقاني (أبا نجيب)، لكنه انطلق بسرعة الشُهب في أكثر من مضمار تحت أضواء المدينة المُبهرة عدن، فكان طالباً جاداً في المعهد الصحي الفني الذي تديره نُخبة متميزة من الأطباء والفنيين اليمنيين والبريطانيين إلى أن تخرج منها كطبيب مساعد على مستوى مستعمرة عدن وضواحيها وحصل على شهادة متقدمة في هذا الاختصاص، استمر يقدم خدماته الطبية والتعليمية في منتصف الستينيات من القرن العشرين إبان فترة الاحتلال البريطاني إلى يوم الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر1967م، بعدها تنقل في السلم الوظيفي بوزارة الصحة ونقابات عمال الجمهورية، حتى شغل منصب وكيل أول بدرجة نائب وزير الصحة العامة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
كما كان عضواً ناشطاً وفاعلاً في الخلايا السرية لتنظيم الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، وشارك بفعالية في مقاومة وجود الاحتلال البريطاني إلى جانب رفاقه في التنظيم آنذاك وأبرزهم الأستاذ/ أحمد ناصر الحماطي وكيل وزارة الإعلام حالياً والفقيد/ سالم أحمد درعان والشهيد/ أحمد حسين قطيش وآخرين.
تعرض الفقيد في أحداث اغتيال الشهيد/ سالم ربيع علي (سالمين) ورفاقه في العام 1978م إلى السجن والتعذيب ولكنه خرج بعد عام على سجنه، وبعد ذلك الحادث المأساوي انكفأ عن النشاط السياسي والنقابي كي يتفرغ كلياً للدراسة الجامعية ملتحقاً بدفعتنا الثالثة بالكلية، بعد تخرجه من كلية الاقتصاد بجامعة عدن، تم اعتماده خبيراً عاماً في منظمة الصحة العالمية في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، وبعدها بعدد من السنوات واصل عبر المنظمة دراسته للإدارة الصحية في جامعة ليدز البريطانية وحصل منها على درجة الماجستير في اختصاص الإدارة الصحية وبعدها مباشرة قدم لأطروحة الدكتوراه في جامعة هافانا في جمهورية كوبا الاشتراكية. التحق بمنظمة الصحة العالمية ومقرها القاهرة كخبير معتمد في المكتب وبالتالي في عموم إفريقيا وآسيا وتفرغ للعمل كمدير المنظمة في جمهورية رواندا لأربع سنوات، وفِي هذه الأثناء اعد جملة من الدراسات العلمية في مجال الصحة العامة.عاد إلى اليمن كي يتم تعيينه وكيلاً بوزارة الصحة والسكان وبقي في هذا المنصب ما يقارب السبع سنوات إلى أن قرر أن يعود كمحاضر في جامعة عدن بكلية العلوم الإدارية وبقي في هذا العمل العلمي إلى يوم وفاته رحمة الله عليه.سنحت لي الفرصة في العام 2009م والعام 2011م من مرافقته إلى جمهورية مصر العربية وزرنا معاً العديد من الجامعات المصرية وكذلك التقينا بالخبير البريطاني البروفيسور/ عمر، وهو أستاذ الصحة العامة في جامعة ليدز البريطانية ووقعنا نيابة عن جامعة عدن اتفاقية شراكة مع مكتب منظمة الصحة العالمية الإقليمي بالقاهرة وكان الفضل بعد الله يعود للبروفيسور/ الراعي والدكتور/ عبدالله الصاعدي نائب مدير مكتب المنظمة.وفِي العام 2012م سافرنا معاً إلى جمهورية إثيوبيا (أديس أبابا) لحضور نقاش فريق الخبراء بين جامعة عدن ومنظمة الصحة العالمية وجامعة ليدز البريطانية بشأن إنشاء مركز للعلوم الصحية بجامعة عدن يخدم في مخرجاته الإقليمية للجزيرة العربية والقرن الأفريقي، ونجحت الورشة بجهود البروفيسور/ الراعي رحمة الله علية وأسكنه فسيح جناته.هؤلاء العلماء المجتهدون والجادون الذين أفنوا حياتهم خدمةً للعلم والمعرفة ينبغي علينا عدم نسيانهم مع مرور الزمن وخاصة ونحن في هذا العام مقبلون على الاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس جامعة عـدن، أَي إنها ذكرى اليوبيل الذهبي الأول لجامعتي عدن وصنعاء، وبالتالي هناك العديد من أسماء العلماء ينبغي تخليدهم في ذاكرة حية في الجامعتين وبالذات من أسهموا إسهاماً كبيراً في خدمة العلوم الطبيعية والإنسانية والمعرفة، هذا دَين أخلاقي ودِيني وإنساني على جميع الأحياء من منتسبي الجامعتين ليحافظوا عليه وينقلوه بأمانةٍ وصدق إلى الأجيال اللاحقة في الجامعات اليمنية، لنتعلم من تجارب الجامعات بالعالم في هذا المضمار,هناك أسماء علماء كبار مروا عبر مختبرات وردهات وقاعات المحاضرات في الجامعتين وعلينا أن نفخر ونعتز بهم ونعتبرهم ثروة الشعب اليمني المتجددة غير القابلة للنضوب والانتهاء، وهم بالتالي سيكونون عناوين كبيرة ومحترمة في قادم الزمان للجامعات اليمنية الجادة.وأحسب أن صديقي البدوي البروفيسور/ محمد غرامه الراعي، أحد هؤلاء العلماء الكبار، وندعو ربنا أن يتولاه برحمته ويسكنه الجنة الواسعة ويلهم أهله وذويه وأصدقاءه وطلابه ومريديه الصبر والسلوان والحمد لله رب العالمين، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله أعلم مِنّا جميعاً.
وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم
*رئيس مجلس الوزراء

قد يعجبك ايضا