موسى وابنتا شعيب .. دروس في الحياء والعِفَّة

 

أحمد عبدالله الكحلاني

القصص القرآني له خصائص تميزه عن غيره من القصص سواء من ناحية الهدف أو من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون، فإذا ساق القرآن الكريم قصة من القصص فله أهداف من وراء تلك القصة، التي يعرضها عرضاً يختلف عن كل قصص البشر مهما بلغت بلاغتهم.
فلم يرد القصص في القرآن بغرض الإلهاء أو لمجرد تحريك العاطفة كما تفعل الروايات وغيرها بل هناك أغراض يساق لأجلها هذا القصص فقد قال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾[يوسف:111]، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ﴾[هود:103]،﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرً﴾[طه:99].
فالاعتبار والاستبصار وتثبيت القلوب من أهم الأغراض التي لأجلها قص الله علينا ما قص في كتابه الكريم.
ومن هنا نفهم لماذا القرآن الكريم في أسلوبه العظيم والراقي كان يغفل كثيراً من الأسماء أو الأشخاص أو الأماكن التي لها بعض الأدوار وذلك في الظاهر لأنه لا يتعلق بذكر الاسم أو الشخص أو المكان كثير فائدة أو مزيد عِظة أو اعتبار فترى بعد ذلك كثيرًا من المفسرين يختلفون في اسم هذا الشخص أو هذا المكان أو هذا العدد وما شابه ذلك وصرف بعضهم جل اهتمامه لإثبات ما تعمد القرآن إغفاله غير متنبه إلى الفائدة أو الفوائد العظيمة والدلالات القيمة التي عليه استخراجها مما ذكر في القصة.
ومن طبيعة القرآن في قصصه أن يترك مساحات فنية بين مشاهد القصة يتجول فيها الخيال ويتحرك فيها العقل من خلال الدلائل المذكورة، فلا يفوت القارئ شيء من الأحداث والمناظر المتروكة بين المشهد والمشهد مع الاستمتاع الفني بحركة الخيال الحية وبين كل مشهد ومشهد فجوة كبيرة أو صغيرة كما يسدل الستار ويرفع عن المنظر أو المشهد بما يناسب أهداف السورة أو أهداف القصة وبما يناسب السياق الذي ذكرت فيه ([1]).
وفي القصة هذه التي يتكلم فيها القرآن عن نبي الله موسى مع ابنتي الشيخ الكبير شعيب في مدين نسلط الضوء على ما في هذه القصة من العبر والعظات والمعاني السامية والقيم الرفيعة التي يتحلى بها أفراد هذه القصة، كما صورها القرآن في مشهد حيٍّ يمثل صورة واقعية عن حالة اجتماعية من زمان غابر ينفعنا في زماننا.. وذلك لأن القيم لا تموت ولا تتبدل بتبدل الأزمان أو تغير الأشخاص ومكارم الأخلاق قانونٌ ثابتٌ، رغم تغير الزمان والمكان، فالكرم والمروءة، والنجدة والشجاعة، والعفة والحياء، والإحسان، معانٍ ثابتة لا تقبل المراوغة بشأنها أو التنصل عن مضمونها، فالظاهر أن الهدف من سرد هذه القصة في سورة القصص هو أن يبين لنا الله سبحانه عظيم رعايته وجليل رأفته بعباده المستضعفين وكيف يسخر لهم عوامل القوة وهم في أشد لحظات الضعف، وكيف يقوض سلطان الجبابرة والفراعنة وهم في أعتى لحظات القوة.
ولهذا جاء في أوائل هذه السورة (سورة القصص) قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾[القصص: 5، 6].
هذا هو أحد الأغراض الهامة التي سِيقت أحداث وقصص هذه السورة للتدليل عليها.
وهنا أيضاً هدف آخر وهو أن يبين لنا الله النفسية التي يحملها نبيه موسى عليه السلام والروحية السامية التي كان يتمتع بها ألا وهي الإحسان إلى من حوله قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾[القصص:14] أي وكذلك نجزي كل محسنٍ نؤتيه علماً وحكما.
ثم أورد القرآن قصة القبطي مع الإسرائيلي وكيف بادر موسى إلى نصرة ذلك المستضعف، ثم قضية القتل الخطأ والتآمر على قتل موسى وكيف خرج موسى خائفاً يترقب وهو يعتصم بخالقه وربه قائلاً: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾[القصص:21] بعد ذلك قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل﴾[القصص:22] أي جهة مدين، والظاهر من التعبير القرآني أن موسى يعرف جهة مدين ولكن لا يعرف الطريق الموصل إليها.
فمثلاً يعرف أن مدين تقع إلى جهة الغرب ولكنه لا يعرف الطريق الموصل إليها بالتحديد، فقال سبحانه: ﴿تِلْقَاء مَدْيَنَ﴾ ولم يقل: (ولما توجه إلى مدين).
وعندما توجه موسى صوب مدين التجأ إلى مولاه الذي رعاه بلطفه وبرّه فقال وهو الخائف المطارد الذي لا يملك زاد السفر ولا راحلة الطريق ولا المعرفة الكافية بالطريق فقال بثقة العارفين ويقين العالمين ﴿عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل﴾[القصص:22] إنه يؤمل في الله الذي لم يرَ منه إلا الخير، ولم يخلُ من نعمه طرفة عين أن يهديه سواء السبيل، أي وسط الطريق، فلا ينحاز عن الحق في كل الأمور.
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير* فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾[القصص:23، 24]، بلغ موسى مدين وحضر إلى مكان الماء الذي يستقي منه أهل القرية ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً﴾ أي جماعة من الناس يسقون دوابهم ومواشيهم ﴿وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ أي بجانبٍ منفصل عنهم تذودان أغنامهما أي تمنعان وتدفعان أغنامهما من ورود الماء، وهذا أمر غريب يشاهده موسى فيشعر أن في الأمر شيءٌ وربما أن الفتاتين تحتاجان إلى المساعدة، يذهب موسى ويسألهما ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾ أي ما شأنكما ﴿قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء﴾ أي نحن من عادتنا المستمرة ومن قيمنا أنا لا نسقي حتى يصدر الرعاء (الرعاء جمع راعٍ) أي يخرج الرعاء بمواشيهم ويخلو المكان ثم نسقي، ومعنى (صدر) خرج، عكس ورد.
ثم قالتا: ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير﴾ وهذا القول اعتذار وتعليل منهما في ممارستهما لهذا العمل فلا يوجد معنا رجل يزاحم الرجال وإنما والد قد بلغ في السن عتيا ﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ موسى عليه السلام ولم يقل إني متعب من عناء السفر أو مرهق من شِدة الجوع لأن المسافة التي قطعها موسى ثمانية أيام كما يقال ولم يختلق لنفسه الأعذار والمبررات كما يفعل أكثرنا عندما تلوح له فرص فعل الخير بل سارع إلى السقي لهما في أدب جم فلم يكلمهما بكلمة ولم يطلب منهما مساعدته في غربته ولم يستغل ذلك الإحسان للتقرب والتزلف والتعارف كما يحصل هذه الأيام بل فعل الخير لوجه الله وانصرف ﴿تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ أي أن الجو كان حاراً ما يزيد من معاناته انصرف إلى الظل ليناجي مولاه الذي أحبه وفعل الإحسان لوجهه؛ لأن موسى قطع على نفسه عهداً بأن لا يعين الظالمين فقال ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِين﴾[القصص:17] بما أنك يا رب قد أعطيتني هذه القوة فلن أساعد المجرمين بل سأسخر ما أعطيتني لنفع المستضعفين والمحتاجين وهاهو يفي بعهده ويحسن إلى المحتاج قاصداً وجه الله قائلاً ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾[القصص:24] فأنت يا رب أنيس كل فريد وأنت ملجأ كل طريد وأنت مغني كل محتاج، هاهو موسى يستعمل السلاح الذي لا يخطئ ولا يخيب إنه يلجأ إلى الدعاء في كل موقع من مواقع حياته، فعندما قتل الرجل خطأ لجأ إلى التوبة قائلاً ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم﴾[القصص:16] وعندما خرج خائفاً قال: ﴿ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾[القصص:21] وعندما توجه إلى مدين قال: ﴿ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل﴾[القصص:22] وهاهنا يقول: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾[القصص:24].
حقاً ما شقى بالدعاء عبد من عباد الله لأنه قال: ﴿ وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾[مريم:4].
قال الإمام علي عليه السلام: إن موسى عليه السلام عندما قال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾: (والله ما سأله إلا خبزاً يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزالة وتشذب لحمه)، ومعنى كلام الإمام أن الجوع قد بلغ من موسى مبلغاً عظيماً، وكذلك التعب والإعياء بحيث أنه يأكل من بقل الأرض أي حشائشها، ومع ذلك ساعد من يحتاج إلى المساعدة دون أي مقابل، ومعنى (فقير) محتاج، وعدي بـ(اللام) لا بـ(إلى) لتضمينه معنى سائل وطالب، أي لم يقل (إني إلى ما أنزلت) فجيء باللام لتفيد معنى الافتقار، ومعنى الطلب والسؤال معاً، وهذا أسلوب من أساليب القرآن يسمى (التضمين)، وتحتمل الآية معنىً آخر، وهو إني فقير من الدنيا لأجل ما أنعمت به عليَّ من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، هكذا ذكره الزمخشري.

فيكون معنى الآية على الاحتمال الأخير أنه يحمد الله ويشكره على النجاة بدينه رغم فقره الدنيوي، وهذا يبين لنا عظمة نبي الله موسى، فقد كان في قصر فرعون في رخاء ودعة، ولو شاء لأستمر على تلك الحال، ولكن نفسه الأبية للظلم الرافضة للاستضعاف تأبى المداهنة في مصير أمة موسى وهم بنو إسرائيل.
ومن هذه الآيات نستطيع أن نلحظ من ثناياها شروط عمل المرأة خارج المنزل وواجب المجتمع الإيماني تجاهها، فأول شرط ذكرته الآية هو عدم الاختلاط بالرجال أو مزاحمتهم وذلك من قوله تعالى حاكياً عنها ﴿لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء﴾ أي أننا معتادتان على عدم السقي حتى يخلو المكان من الرعاء، وجاءتا بالفعل المضارع (نسقي) لتبينا أن ذلك عادة مستمرة لا حدث عابر.
الشرط الثاني: هو الضرورة، أي لا يوجد لديها من يعولها أو يقوم بعملها، ويستخلص هذا الشرط من قوله تعالى: ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير﴾ أي لا يستطيع أن يسقي لنا لكبر سنه وضعف بدنه، فهاهنا شرطان أساسيان لكل امرأة تعمل خارج بيتها ألا وهو الضرورة وعدم الاختلاط بالرجال.
أما واجب المجتمع الإسلامي تجاه هذه المرأة العاملة فهو مساعدتها والعمل على إيجاد حلول تكفيها مؤنة العمل الشاق ومشقة الطلب كما فعل موسى عليه السلام عندما ساعد هاتين الفتاتين.
ونستفيد من هذه الآية أن من آداب الدعاء أن يقدم الإنسان قبل دعائه إحسانًا ما يتقرب به إلى الله في استجابة دعائه فقد قدم موسى عليه السلام مساعدة الفتاتين ثم توجه إلى الله سبحانه بدعائه.
ومما نستفيده من هذه الآية أيضاً هو جواب الفتاتين عندما سألهما موسى ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾ فقد كان جواباً حازماً حكيماً يدل على رجاحة عقل وثقة نفس.

قد يعجبك ايضا