الزَّمَن في الصُّورة الشعرية .. في شعر البردوني

متابعة/محمد أبو هيثم
(الزَّمَن في الصُّورة الشعرية، دراسةٌ لسانيةٌ في شعر البردوني) هو عنوان كتاب صدر مؤخراً في بيروت من تأليف الشاعر والباحث اليمني /عبدالعزيز الزراعي، ويتضمن الكتاب دراسة لسانية حديثة لموضوع الزمن اللغوي في الخطاب الشعري عند الشاعر الكبير الراحل عبدالله البردوني ، حيث يتناول بنيات الزمن اللغوية وعلاقاته ودلالاته وإحالاته، وذلك على المستويات التركيبية والدلالية والتداولية، بحثا عن إسهامات الزمن في تحقيق جماليات الصورة الشعرية وانسجام الخطاب الشعري.
والكتاب كان رسالة ماجستير للشاعر/عبدالعزيز الزراعي والذي قدم من خلال هذه الرسالة اطروحه علمية جديدة وإضافة نوعية للمكتبة النقدية اليمنية والعربية مما يسهم في إضائه الكثير من الجوانب الإبداعية في تجربة الشاعر الكبير عبدالله البردوني.
جاء الكتاب في 392 صفحة من القطع الكبير وتوزعت فيه الدراسة على ثلاثة فصول.
خَصَصْ الفصلَ الأوّلَ للصورة الشعرية وتناولاتها اللسانية؛ فتَناوَل مفهومَ الصُّورة الشعريةَ وإشكالاتِهِ المختلفةَ، ثم عرض الباحث التناولاتِ اللسانيةَ للصورة الشعرية على مستوى المعجم والدلالة، وعلى مستوى التركيب، وعلى مستوى التداول، ليخْرجَ من كل ذلك بخلاصةٍ وتركيبٍ حَدد فيها التعريفَ الإجرائي للصورة الشعرية، وأنساقَها اللغويةَ ونصيبَ المكونات الزَّمَنيَّة فيها، وإجراءات تحليل الصور الشعرية لسانياً والقرائن اللغوية الدالة عليها.
أما الفصل الثاني فخصصه للزَّمَن وتناولاته اللسانية، باتجاهاته الثلاثة التركيبي، والدلالي، والتداولي، على مستوى الجملة وعلى مستوى النص، خارجين من كل ذلك بافتراضات لتشييد النَسَق الزمني للصورة الشعرية.
أما الفصل الثالث فهو فصل التشييد والتطبيق؛ فقد تم فيه تشييد النَسَق الزمني للصورة الشعرية من خلال نماذج تطبيقية من شعر البردوني، على المستوى المعجمي- الدلالي، وعلى مستوى التركيب و على مستوى التداول وفقاً لما اذَّخره الباحث من اتجاهات التناولات اللسانية في الفصلين السابقين، حيث تناول في كل مستوى البنى الزَّمَنيَّة الصغرى المكوِّنة لنَسَق الجملة، والبنى الزَّمَنيَّة الكبرى المكونة لنَسَق النص، خارج من كل ذلك بتصور شامل للنَسَق الزمني للصورة الشعرية.
ظلَّتِ الصُّورة الشعريةُ محلَ اهتمامِ علماءِ الشعريةِ زَمَناً طويلاً، وظلَّ الزَّمَن محلَ اهتمامِ الجميعِ؛ علماءِ الشعريةِ، والفلاسفةِ، وعلماءِ المنطقِ، واللسانيين، غيرَ أن هؤلاء الأخيرينَ استطاعوا في السنوات الأخيرة أن يُحدِثوا ثورةً لسانيةً ألقتْ بظلالها على مجالاتٍ لم تكنْ لتصل إليها، والتقتْ في كنفِها ظواهرُ لم تكن لتجتمع من قبل، ومنها الزَّمَن والصُّورة الشعريةُ موضوعُ هذا الكتاب.
لقد أعطت اللسانياتُ لنفسها منذ دوسوسير الحقَّ في أن تنظم الكون كلَّه وفقَ نظام سيمولوجي، تكون هي جزءاً منه، ثم ما لبثت على أيدي الأجيال اللاحقة أن تجعل النظام الكوني جزءاً في نظامها السيمولوجي، باعتبار أن كل علامةٍ غير لغويةٍ يُعبَّرُ عنها بعلامةٍ لغويةٍ، وتُفسَّرُ بها أيضاً()، ومن هنا اتخذَتْ شرعيتَها في دراسة الزَّمَن، وكذا دراسة الصُّورة الشعرية، بوصفهما تعبيراً باللغة.
ويقول المؤلف في مقدمة كتابه:  بالرغم من ضبابية مفهوم الزَّمَن، كان سهلاً على الإنسان أن يدمجَه في العلامات اللغوية، ويَسِمَهُ صرفياً ومعجمياً وتركيبياً، ذلك أن الزَّمَن يجسد علاقاتٍ منطقية(السبق، التواقت، التعاقب)، لكن ما لم يكن سهلاً عليه هو أن يسم التعابير المجازية؛ لأنها لا متناهية من ناحية، ولأن الإنسان في تخاطبه ميَّالٌ إلى الإيجاز من ناحية أخرى. لذلك كان سهلاً على اللساني ادعاء أحقيته في دراسة الزَّمَن لغوياً برغم أنه تتنازعه حقولٌ عدة، ولم يكن سهلاً عليه أن يدعي الدراسة الشاملة للصور المجازية أو اللغة الشعرية؛ لأنها غير موسومة لغوياً، برغم أنها من صميم اللغة وهو الأحق بدراستها، ولذا ظلت الصُّورة الشعرية دائماً تعترض طريق البحث اللساني وتحرجُهُ؛ فهي منه وليست منه، منه لأنها تعبير باللغة، وليست منه لأنها خَرْقٌ لسَنَنِهِ وقواعدِه، وقد حاولت اللسانيات منذ بدايتها على يد دوسوسير أن تجد مدخلاً للتصالح بينها وبين لغة الشعر وضمِها إليها، سواء من خلال التمييز بين مستويين من العلاقات التي تقوم بين العلامات، وهما علاقتا الحضور والغياب، أو من خلال التمييز بين وظائف اللغة بالنظر إلى عناصر التواصل الستة عند جاكبسون، والتأكيد على الوظيفة الشعرية، وتناولها إجرائياً وفق محوري الاستبدال والتأليف، أو من خلال قواعد التوليد والتحويل، وصولاً إلى التداولية التي فسرتها ضمن خرق بعض مبادئ التعاون، وانتهاء إلى نحو النص ومناهج تحليل الخطاب، وفي كل ذلك كان الزَّمَن إشكالية قائمة في اللغة الشعرية، وفي الصُّورة على وجه الخصوص باعتباره مكوناً من مكوناتها المعجمية والتركيبية والدلالية، التي تتقاطَعُ وتتعَارَضُ مع مكونات النص الأخرى، محقِّقةً قواعد اتساقها وانسجامها الخاصة داخل الخطاب الشعري.
ويضيف المؤلف الباحث:   ولأن اللسانيات علمٌ يطمح إلى أن يُفَسِر النظامَ اللسانيَّ المتكامل للإنسان فإن دراسته للنَسَق الزمني -داخل أي لغة- ستظل قاصرةً مالم تتجاوز نَسَق الجملة إلى أنساق النصوص أولاً، وتتجاوز –ثانياً- الخطاب العادي إلى أجناس الخطابات الأخرى، ومنها الخطاب الشعري على وجه الخصوص. وفي المقابل فإن أي دراسة لسانية لوظيفة اللغة الشعرية ستظل قاصرة ما لم تتجاوز أولاً الانزياح في الجملة إلى الانزياحات في النص وتعالقاتها، ومن ثم تتجاوز- ثانياً- الانزياحَ في الدلالة إلى الانزياح الزمني، باعتبار أن كل العلامات اللغوية- وخاصة الأفعال- مَوْسُومةٌ زَمَنِيَّاً، وأن أيَّ انزياحٍ في بنيتها الدلالية سينسحبُ على بنيتها الزَّمَنيَّة والجهية المعجمية والتركيبية.
وبما أن الصورَ الشعريةَ هي الانزياحاتُ عن مَسْرَحِ النص، والتمدُّداتُ خارجَه وداخلَه رأينا أنها هي أحوج ما يكون إلى قواعد التماسك النصي، بل تكْمُنُ عبقرية النص الشعري في قدرته على إعادة هذه الصور الجامحة إلى فضاء النص عبر قواعد انسجامِه واتساقِه، والـمُلَاحَظُ أن الصُّورة الشعريةَ غالباً هي التي تمنح الأجزاءَ الأخرى في النص نظامَ تماسكِها، وتخلق لها منطقاً جديداً تنتظم فيه، ومن ثم فإن أزمنَتَها هي التي تمنحُ أزمنةَ النصِّ إحالاتِها، وتماسكَها النحويَّ والمعجميَّ، وتؤولها تأويلاً منزاحاً عن تأويلها الوضعي؛ لذا رأينا أن دراسةَ قواعدِ انسجامِ الزَّمَن الشعري ينبغي أن تنطَلِقَ من دراسِة أزمنةِ الصُّورة، لأن الزَّمَن الشعري زمنٌ لا يمشي إلى الأمام دائماً، إنه زمن غير متسلسل ولا سردي، إنه زمنٌ متكَسِّرٌ وحيثما تكسَّر الزَّمَن وُجِدَتِ الصُّورة غالباً؛ لأنها انتقالٌ من فضاءٍ إلى فضاءٍ آخرَ، ومن ثم انتقالٌ من زمنٍ إلى زمنٍ آخر.
أما عن اختيار عنوان الدراسة التي نشرها في الكتاب وموضوع هذا الكتابِ فيقول : (الزَّمَن في الصُّورة الشعرية، دراسةٌ لسانيةٌ في شعر البردوني)، وكانت لسانياتُ الخطابِ الشعري المدخلَ المناسبَ لدراستِهِ؛ حيث اتخذ الكتاب الخطابَ الشعري حقلاً له، وألقينا الضوء فيه على عنصر جوهري من عناصر هذا الخطاب وهو الصُّورة الشعرية، وحدَّدنا زاويةً من زوايا الصُّورة وهو الزَّمَن؛ فدرسنا بنياته اللغوية وعلاقاته ودلالاته وإحالاته، على المستويات التركيبية والدلالية والتداولية، بحثاً عن إسهامات الزَّمَن (زمن الصُّورة الشعرية) في تحقيق انسجام الخطاب الشعري، وتحقيق وظائفه الخطابية وعلى رأسها الوظيفه الشعرية، متخذين الخطابَ الشعريَّ لدى الشاعر اليمني عبد الله البردوني أنموذجاً للتطبيق.
وبالإضافة إلى الأهَميَّة النابعة من افتقار المكتبة العربية واليمنية –على حد علمنا- لدراسةٍ علميةٍ وافيةٍ تتناول الزَّمَنَ في الصُّورة الشعرية تناولاً لسانياً؛ تَكْمنُ الأهَميَّة العلميَّةُ لهذا الكتاب في أنه يحاولُ أن يقدم جديداً في النظر إلى الاستعارة والمجاز من ناحية الزَّمَن فيخدم بذلك علماء الشعرية، ومن جِهَة أخرى يضيف إلى أدبيات اللسانيات الزَّمَنيَّة موجهاً أو وجهاً زَمَنِيَّاً يُمْكِن مراعاتُهما في أثناء الحديث عن النَسَق الزمني في اللغةِ العربية، ألا وهو الموجه المجازي أو التصويري، ويُـمْكِنُ إدراجُه ضمن قواعد التوليد الدلالي، وحوسَبَتُهُ من خلال نظرية السِّمَات الجوهرية والعَرَضِيَّة للأفعالِ والمحمولات.
إن المهمَّةَ الصعبةَ التي اضطلع بها هذا الكتابُ تمثَّلتْ في التشييد والبناء لنَسَق لسانيٍّ مركبٍ من نَسَقين مختلفين نسبياً هما: النَسَق اللساني للزمن في اللغة العربية، والنَسَق اللساني للصورة الشعرية، وهما وإن كانا نَسَقين معطيين سلفاً في النظام اللساني للغات الطبيعية، إلا أن الباحثين-على الأقل في اللغة العربية- لم يتفقوا بعدُ على بنيات موحدة وثابتة لكل نَسَق على حدة، فضلاً عن تركبهما في نَسَق واحد هو الخطاب الشعري.
لقد كان شحُّ المراجعِ والدراسات الـمُنْجَزَةِ في هذا النَسَق اللساني الـمُرَكَّبِ من أهم الصعوبات التي واجهتْنا في تأليف هذا الكتاب، الذي كان في أساسه رسالةً علميةً لنيل درجة الماجستير، بالإضافة إلى إشكاليات مفهوم الصُّورة واستخداماتها الملتبسةِ من جِهَة، و من جِهَة أخرى إشكالاتُ طبيعة النَسَق الزمني المركبة من مقولات زمنية مختلفة هي (الزَّمَنُ، والجِهَةُ، والوَجْهُ)،كلُّ تلك الصعوبات شكَّلتْ مجتمعةً تحدياً إجرائياً صعباً أمام مهمتنا في تشييد النَسَق الزمني للصورة الشعرية، وقد تطلب ذلك التحدي جهداً كبيراً منا، تمثل في الاستقراء لكل ما أُتيِحَ لنا حول الصُّورة الشعرية على حدة؛ لاستكناه بنياتها اللغوية أولاً والزمنية ثانياً، والخروج بتحديد إجرائي لها، وكذا استقراء كل ما أتيِحَ لنا عن لسانيات الزَّمَن من جِهَة أخرى؛ لاستنباط بنياته اللغوية وما تتقاطَعُ به مع بنيات الصُّورة الشعرية على مستوى الجمل الصغرى وعلى مستوى النصوص، وهو جهدٌ أَخَذَ منا الكثيرَ من الوقت والسهر والنظر، ومُدَافَعةِ رغبات الذات، والاعتزال عن الأهل والأصدقاء، عزاؤُنا في كلِّ ذلك اعتقادُنا أن هذا الكتاب يُقَدِّمُ إضافةً مهمةً وجديدةً في النظر إلى الاستعارة والمجاز من ناحية الزَّمَن، فيخدمُ بذلك علماءَ الشعرية، ومن جِهَة أخرى يضيف إلى أدبيات اللسانيات الزَّمَنيَّة موجهاً أو وجهاً زَمَنِيَّاً يُمْكِن مراعاته في أثناء الحديث عن النَسَق الزمني في اللغة العربية، ألا وهو الموجه المجازي أو التصويري، وهو يخدم فوق كل ذلك البحثَ اللسانيَّ للغته العربية واللغة البشريةِ على وجهِ العموم.
في الأخير يقول الباحث في مقدمة كتابه: أحب أن أوضح أن هذا الكتاب بحثٌ لقضية طالما أقلقتني شخصياً وأردتُ التوصلَ فيها إلى حلٍّ، فإن كنتُ قد أصبتُ فذلك بتوفيق الله وتوجيهات أستاذي الجليل المشرف الأستاذ الدكتور عبد الوهاب رَاوِح، الذي كان لي النهرَ الزمني الذي لا حد لعطائه، ولا كلمات تفي بشكره. وإن جانَبْتُ الصوابَ فحسبي أني اجترحْتُ درباً شائكاً، آثارُ أقدام السائرين عليه قليلة، وأنه لم أدخر جهداً إلا وبذلتُهُ في جمع مادة الكتاب وتحليلِها وتقصي خفاياها، وقد عاد ذلك بالنفع الكبير عليَّ شخصياً في فهم جانبٍ من عبقرية الإنسان اللسانية ألا وهي بنيةُ الزَّمَن وإمكاناتُها التعبيريةُ الدقيقةُ والمنظمةُ دقةً تضاهي دقةَ تنظيمِ هذا الكون واتساقِهِ المنطقيِّ في الذهنِ الانساني.
جدير بالذكر أن الباحث الشاعر عبدالعزيز الزراعي حاصل على المركز الأول ولقب أمير الشعراء في مسابقة أمير الشعراء في موسمها الرابع بأبوظبي، وصدر له حتى الآن ديوانا شعر هما: «انشطارات العقيق اليماني 2014م»، «يجرح العابرين 2018م)، ويعكف حاليا على إنجاز رسالة الدكتوراه في جامعة عين شمس في لسانيات الخطاب الشعري.

قد يعجبك ايضا