فضاءات كائنات من جماد

 

جميل مفرح

يخطر في بالي ويمرق من يقيني أحيانا أن الكتابة لم تعد تستطيع أن تكون جسرا للتواصل.. أو أنها أصبحت طريقا ترابيا مكتظا بالحفر والعوائق والمتاهات..  ويتراءى لي كثيرا أن أغاني العشق لم تعد تستطيع أن تشبهنا أو تستفز انفعالاتنا.. لم نعد نستطيع أن نبكي حين يلزمنا البكاء، ولا أن نضحك حين يتاح لنا الضحك.. أشعر أحيانا أنني ساذج وكلاسيكي للغاية حين ترتجف مشاعري كعصفور وقع في شرك، وحين تدغدغني الحاجة المرحومة أم كلثوم، فأسبل رموشي وأتداعى معها.. وأخاف أن أبدي إعجابي حتى أمام نفسي بقصيدة عشق من زمن قديم، كان العشق فيه دستورا من دساتير الحياة.. أما حين أتخيل نفسي عاشقا من أولئك، فإنني أتلفت حولي لئلا يدرك أحد ما يعتمل بداخلي.. ولكي أتخلص من كلاسيكيتي وجاهليتي أنشئ حسابا افتراضيا في الفيسبوك لحبيبة افتراضية وأظل أراسلها وأملأ حائطها بمقطوعات الغزل وربما أستعين بأغنية لحليم أو فيروز أو نجاة أو ميادة لم أستمع إليها من قبل جيدا، لألقي برابطها مشفوعا بآهتين ونهدة ورموز وطلاسم مما تتيح أيقونات التواصل الحديثة، أو أستخدم هاتفي المحمول الحديث وأبتكر عليه رسائل العشق العصرية جدا، لأبدو حديثا كما يجب!! ويبدو لي أحيانا أن كتابة الشعر لم تعد عصرية كما يجب، وأن “بوستا” قصيرا مملحا بالأخطاء سيكون أكثر جدوى من ملاحقات اللغة والإملاء والموسيقى داخلا وخارجا، ومطاردات شرطة النقد والفحص والتقييم في نص وجداني متقن.. و يخطر في بالي أحيانا أخرى وأنا أبحث عن رموز تعبيرية من صور وأدوات وملحقات، أنني عدت آلافا من السنوات قادما من عصور حجرية إلى عصر غابر نسبوه فرية إلى الحجر.. غير أني مضطر لأن أغض التفكير عما ساورني لأنجو بمشاعري من تهم الكلاسيكية والرجعية.. وأشعر كثيرا بأننا في زمننا هذا المجحف لم نعد بحاجة إلى أشياء الإنسان القديم المتخلف لنحب، من عاطفة ومشاعر وصدق ووفاء وإيثار وانتحاب وشعر، بقدر ما نحن في أمس الحاجة إلى تقنيات اتصال حديثة تسد مسد كل ذلك العناء.. صدقوني إننا لم نعد نحب كما يجب ولم نعد نعشق كما ينبغي للعشاق…، بل وربما لم نعد نستطيع أن نحافظ على شيء من بشريتنا.. فقط لنكون معاصرين ومسايرين لزمن الآلة والجماد المطلق.. لقد صرنا كائنات جمادية، تطورت فقط حين استطاعت أن تتنفس فيما كان الجماد القديم لا يتنفس!!

قد يعجبك ايضا