في كتاب “الإسلام والحداثة والعلوم الإنسانية”: الكشف عن إمكانات الحوار الثقافي بين العالم الإسلامي والغرب

 

خليل المعلمي

غالباً ما يتم التركيز على الجوانب والأبعاد السياسية في العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، أما الجوانب المعرفية والثقافية وهي الجوانب الأهم والأعمق، فقليلاً ما يتم الانتباه إليها ويخطو الكتاب الذي بين أيدينا خطوة مهمة في التعرض للإشكاليات المعرفية في الحوار بين الحضارات بشكل عام وبين العالم الإسلامي والغرب بشكل خاص.
يناقش المؤلف علي زايدي الأستاذ بجامعة “ويلفريد لوري” بكندا في كتابه “الإسلام والحداثة والعلوم الإنسانية” قضايا وتساؤلات عدة أبرزها إمكانية أن يحل الحوار الثقافي والمعرفي بين الحضارات محل الصدام السياسي المتمثل في أطروحة صدام الحضارات؟ وكذا إمكانية أن يجتمع الإيمان والمعتقدات الدينية مع العلوم الإنسانية الحديثة؟ وأيضاً إمكانية إيجاد أرضية مشتركة أو منطقة وسطى في العلوم الإنسانية بين الاتجاه الذي يرى أنه لا مكان للميتافيزيقا في العلوم الإنسانية وبين الاتجاه الذي يرى أنه لابد من وجود الميتافيزيقا بشكل ما في العلوم الإنسانية؟.
الحوار الثقافي
يكشف الكتاب عن إمكانات الحوار الثقافي بين العالم الإسلامي والغرب من خلال قراءة مقارنة لموقف المفكرين المسلمين من العلوم الإنسانية الحديثة من ناحية، واستبعاد الغرب للميتافيزيقا والدين من العلوم الحديثة من ناحية أخرى.
وقد اختلفت مواقف المفكرين المسلمين من الحضارة الغربية بشكل عام ومن العلوم الطبيعية الحديثة والعلوم الإنسانية الحديثة بشكل خاص، وقبل الدراسة التفصيلية لنماذج بارزة من الفكر الاجتماعي الإسلامي يعرض المؤلف سريعاً أبرز مواقف المفكرين المسلمين من الغرب وعلمه وحضارته، فقد بدأ انشغال المفكرين المسلمين بالحضارة الغربية منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ولعل الموقف السائد حينذاك كان هو محاولة توضيح مدى التقاء وتوافق مضامين العلوم الطبيعية الحديثة مع الرؤية الإسلامية للعالم.
فقد حاول كل من داعية الإصلاح جمال الدين الأفغاني والشاعر والفيلسوف محمد إقبال التوفيق بين أفكارهما الإسلامية المناهضة للإمبريالية وبين إعجابهما بالنماذج السياسية في أوروبا والعقلانية والعلم والتكنولوجيا وكل ما اعتبراه مصدر الهيمنة الغربية.
العلم مصدر الهيمنة
اعتبر جمال الدين الأفغاني أن مصدر الهيمنة والسيادة الغربية هو العلم، وكذلك اهتم محمد إقبال في كتابه تجديد الفكر الإسلامي (1934) بإثبات اتفاق التصورات الإسلامية عن الله  والزمان والمكان وطبيعة الإنسان مع المفاهيم الغربية، خصوصاً في أعمال “هيجل وفيشته وبرجسون ونيتشه” ويبرز كتاب إقبال باعتباره محاولة إسلامية مهمة نحو تحسين وتطوير شكل مقبول من الحداثة الفكرية الغربية ومن هنا فإنه “وفقاً للمصلحين المسلمين في مطلع القرن العشرين، مثل الأفغاني وإقبال فإن القيم الغربية الحديثة المتعلقة بالعقلانية والتقدم يمكن بسهولة التوفيق بينها وبين الإسلام، تماماً كما أن العلوم الطبيعية الحديثة كانت استئنافاً للعلم الإسلامي في القرون الوسطى وتطويراً إضافياً له”، ويضع الكاتب بعض علامات الاستفهام أمام المصلحين الأوائل وتأويلاتهم الليبرالية والحداثية للإسلام.
إعادة بناء العلوم
ينتقل زايدي على الفكرة التي راجت في السنوات الأخيرة والمعروفة بأسلمة العلوم أو أسلمة المعرفة، ويشير إلى أنه لم تظهر فكرة بناء علوم إنسانية قائمة على ميتافيزيقا أولية قبلية (سابقة على التجربة) ذات جذور إسلامية إلا في مرحلة متأخرة للغاية بداية السبعينيات ومنذ ذلك الحين وبإدراك أن العلوم الإنسانية الحديثة قائمة على ومشبعة بالميتافيزيقا “المحايثة أو الحلولية” الكامنة في هذا العالم، فقد دخل بعض المفكرين المسلمين في نقاش متحمس حول أفضل الطرق لتجديد وإعادة بناء العلوم الإنسانية الحديثة والتحرر من أسرها، هذا النقاش يشار عليه بشكل عام بـ”أسلمة المعرفة” ويشير هذا التعبير على وجه الخصوص إلى مشروع إسماعيل الفاروقي، حيث يفترض أن فروع المعرفة الاجتماعية الغربية إشكالية وغير ثابتة بسبب عجزها عن تناول المعتقدات الميتافيزيقية والقيم الأخلاقية بشكل كفء، ومع ذلك فقد اعتقد الفاروقي أنه من الممكن دمج العلوم الإنسانية الحديثة مع الرؤية الإسلامية للعالم، وتعبر دعوته على أسلمة العلوم الاجتماعية الحديثة عن الرؤية التي يشترك فيها مع المصلحين الأوائل مثل الأفغاني وإقبال، والتي تقول إن أي تناقضات بين فروع المعرفة الاجتماعية الحديثة وتصور العلوم الاجتماعية المنطلق من الإسلام ليست تناقضات أساسية فمن وجهة نظره يمكن التوفيق بسهولة في الإسلام بين العقلانية والإيمان، وكذلك فإن كل ما تتطلبه عملية التوفيق بين العلوم الإنسانية الحديثة من جهة والرؤية الإسلامية للعالم من جهة أخرى، هو إعادة النظر في المبادئ والأسس التي تقوم عليها هذه العلوم الحديثة أي تنقيح هذه المبادئ وتعديلها، ولكن هذا المشروع لم يسلم من النقد.
ابن خلدون والعلوم الإنسانية الحديثة
ينتقل زايدي لمناقشة فكر ابن خلدون وهو العالم المسلم الإشكالي الذي كثيراً ما استعاده المفكرون المسلمون في العقود الأخيرة، حيث يشير الكاتب إلى بعض التحليلات التي ترى أن استعادة المفكرين المسلمين لابن خلدون بوصفه مؤسس العلوم الإنسانية الحديثة هي ببساطة ممارسة لعبة الاستشراق في الاتجاه المعاكس حيث تحاول مثل هذه الاستعادة أن تجد سلفاً إسلامياً لكل ما هو حديث ليس إلاّ.
يرى علي زايدي أن عمل ابن خلدون مهم للغاية، لأنه على وجه التحديد يمثل رابطة مهمة في التوسط بين “الميتافيزيقا الإسلامية الأولية المفارقة” و”العلوم الإنسانية الحلولية” ومن ثم فهو يمكننا من تجاوز هذه الثنائيات الحادة وكل الأفكار المسبقة عن الرؤية الإسلامية للعالم (الرؤية المفارقة) والرؤية الحداثية للعالم (الرؤية الحلولية).
الحداثة وضياع المعنى
ولكن ما هو موقف الحداثة من العلوم الإنسانية الحديثة؟ ينطلق زايدي في دراسته لوضع العلوم الإنسانية الحديثة في الغرب من السؤال: هل من الضروري استبعاد المعتقدات الدينية والاسئلة الكبرى عن المعنى والوجود والحياة من دائرة العلوم الإنسانية الحديثة باعتبار أن هذه الأمور تمثل نظريات بالية زائدة لا قيمة لها؟ أم أنه يمكن الجمع والتوفيق بين الجانبين؟ ويبدو أن العلوم الإنسانية تمثل ذروة الحداثة العلمانية الثقافية وانقطاعاً واضحاً مع التفسير الديني والميتافيزيقي للعالم، وذلك من خلال استلهامها واستفادتها من الأساليب الحديثة في المعرفة والتفسير والمتأصلة في الاتجاهات العقلانية النقدية والوضعية والتجريبية والتاريخية والتفسيرات المختلفة.
بنية الكتاب
يقع الكتاب في ثلاثة أقسام تتضمن مقدمة وخاتمة وخمسة فصول يناقش الفصل الأول علاقة النقد بالفهم الحواري باعتبار أن الحوار قيمة أساسية في العلوم الإنسانية لذا يدافع المؤلف عن مبدأ الحوار باعتباره الخيار الأفضل للمقاربات النقدية والتفسيرية في العلوم الإنسانية.
ويركز الفصل الثاني على الجدل الدائر بين المفكرين المسلمين حول العلوم والمعارف الحديثة، وفي الفصل الثالث يناقش زايدي استعادة المفكرين المسلمين المحدثين لابن خلدون باعتباره مؤسس العلوم الإنسانية الحديثة ولكن الجزء الأكبر من الفصل مخصص لتحليل المسلمات الأونطولوجية والمعرفية عند ابن خلدون والتي مكنته من تطوير نظرية تجريبية واقعية لقيام وانهيار المجتمعات وذلك في بيئة دينية ميتافيزيقية.
وخصص المؤلف الفصل الرابع لتصور “دلتاي” للعلوم الإنسانية ونظريته في التأويل والتفسير بالرغم من قبوله بفكرة نهاية الميتافيزيقا الفكرة التي فرضت نفسها مع تطور العلوم الإنسانية الحديثة.
ويناقش الفصل الخامس فلسفة العلوم الإنسانية عند “ماكس فيبر” ويركز بشكل خاص على إصرار “فيبر” على أن العلوم الإنسانية تماثل العلوم الطبيعية تماماً من الناحية المعرفية والمنهجية أي عليها أن تتبع المناهج التجريبية مثلها مثل العلوم الطبيعية.
وفي خاتمة الكتاب يعود المؤلف للفكرة الأساسية التي بنى عليها ما قام به من تحليل مقارن فكرة الحوار ويفترض المؤلف أنه من الممكن أن يكون هناك حوار قوي بين التصورين الغربي الحديث والإسلامي للعلوم الإنسانية، مع ضرورة تجاوز الفروق الجزئية والاختلافات الثانوية والتفكير بشكل أكثر شمولاً واتساعاً.
نداء للباحثين والمفكرين
وأخيراً يمكن القول إن هذا الكتاب هو نداء للأوساط الأكاديمية بأن تتحول من الاهتمام والانشغال بالأبعاد السياسية للعلاقة بين العالم الإسلامي والغرب إلى الانشغال بأسئلة وقضايا وأبعاد أوسع مدى كالثقافة والمعرفة، إنه نداء إلى الباحثين والمفكرين بأن يخرجوا من دائرة التقاليد الثقافية الثابتة التي أفرغت الحوار من مضمونه، وذلك باسم التخصص أو عدم التفرغ أو إنه ليس هناك الجديد ليقال وما إلى ذلك من أعذار تحول دون الشروع في حوار ثقافي ومعرفي جاد بين المفكرين من الطرفين.
ومن الضروري أيضاً إعادة النظر في مقولات مثل الإسلام والحداثة والغرب، المقولات التي تم تنميطها وقولبتها وأصبحت ذات بنية ثابتة معروفة مسبقاً وهنا تأتي أهمية الخروج من هذا الإطار الضيق الذي يحكم العلاقة ين العالمين الغربي والإسلامي إلى آفاق أكثر رحابة وقبولاً بالآخر.

قد يعجبك ايضا