الآفة الخطيرة، وعدم الاستيعاب

يحيى محمد الربيعي

الدول المتعاقبة والمنظمات المنتشرة حول العالم والهيئات العاملة والشخصيات النشطة والأقلام المحترفة في المجال الإنساني، يقولون الكثير والكثير من الكلام الجميل والمنمق عن “المواطنة والحريات والحقوق” ويتهافت الناس على الوسائل والوسائط العاملة في بث وتوزيع ونشر ذلك التراكم من الاحداثيات الأخبارية والتحليلية والخطابية المشحونة به.
هذا التهافت والاندفاع الجماهيري يأتي بقصد التحصيل على شيء من الوعود والبرامج والخطط والدساتير والقوانين والحقائق العلمية والحكم والأعراف، ذلك الرذاذ المنتاثر في الفضاءات بالهبل والذي لم تجن الشعوب والعربية منها خاصة من هذيانه غير الويلات وأصناف العذابات إن لم تشتعل الحروب ويحل الدمار.
كل ما يتلقاه المواطن العربي من حكوماته ونخبه من عبارات جميلة وأنيقة عن المواطنة والحقوق والحريات فضلا عن التنمية والاقتصاد لا يمت للحقيقة بصلة، وكل شيء في الكون يشبه بعضه بعضا ،بالإضافة إلى أن الصورة الحلوة التي يرسمها البعض عن برامجه ووعوده هي الأخرى مستعارة عن مشاهير الفن أو كما كان يحلو تشبيهها عند البعض بـ”الرقص على رؤوس الثعابين”.
إلى متى ستظل الجماهير في انتظار رؤية الحقيقة المجردة من أكاذيب العصر؟!.. إن الشعوب في اشتياق إلى الحقيقة المنتمية الى فطرة الإنسان وبراءته وحبه وعشقه للصدق والأمانة والوفاء، وكل ما اشرقت شمس من ضحى التفاعل مع قضايا المواطنة والحقوق والحريات لا بد أنها تصطدم بنظام عميق له ليل يتمدد في الغسق حداً لا يطاق, بل ويصيب بالعدوى بسرعة فائقة وبلا مقاومة تذكر إن لم تسهل الطريق إلى الامتداد.
ولعل الواسطة والمحسوبية هما ذلك الامتداد، وذلك لما يُسببانه في وقتنا الحالي في شتى الإدارات من عوائق تحد من الطاقات البشرية، وتُضعف الفكر وأصول التعاون والتفاهم البشري، وتكون لنا مجتمعا واهما بقلب غير نابض، معوز، معاق؛ مما يجعل بعض الإمكانات والطاقات الفذة تفقد طموحها، وتحد من آمالها؛ لمحدودية قدراتها، وضياع حقها سدى؛ مما ينشئ لدينا مجتمعا كسولا غير مقاوم إذا ما أحس بغياب الشفافية المطلقة.
وفي ظل ذلك يمكن تعريف المحسوبية على أنها تعني محاباة الأقارب أو الأصدقاء، لا بسبب كفاءتهم، وإنما بدافع القرابة، وتظهر جليًّا في المجتمعات الفقيرة من ثقافة احترام القانون، وأداء الواجبات؛ حتى أصبح من الصعب التخلي عنها في كل مطلب في الحياة، والمشكلة الحقيقية في ذلك هي قلة الإدراك لحجم هذه الآفة الخطيرة، وعدم الاستيعاب التام لما تسببه وتتركه من آثار جسيمة، باعتبارها مضيفة إلى الواسطة نوعا من العمى الوجداني الذي لا يرى الصورة الحقيقية لوضع العدل في مكانه؛ لانتشار شتى أنواع الإغراق في الذاتية بمنأًى عن الموضوعية الحقة.
ومنه تكتسب المحسوبية سمعتها السيئة وكذلك الواسطة، إضافة إلى سوء استخدامهما، فتصيران الشر الذي لا يمكن الاستغناء عنه؛ إذ تشربت الشعوب هذه السلوكيات، وانسلخت عن مبدأ الاعتماد على الكفاءة كمبدأ لتحميل المسؤولية ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب وتفعيل مبدأ نقد وتقويم سلوك الذات.
المجتمع السوي المتكامل هو ركيزة كل بلد يسعى للتطور بحضارته وثقافة شعبه، وبقيمه السمحاء السليمة التي تستمد قوتها من القيم الدينية والاخلاقية والعرفية الفاضلة، فتعرضها بشكل منظم ودقيق، وتعطي لكل صاحب حق حقه وفقا لما يستحق لا أكثر، ولا أقل من ذلك قيد شعرة، ومتى تم زحزحة هذا النظام، انقلبت الموازين سلبا، ومتى تم تقديم المنفعة الخاصة على الصالح العام، تَكّون لدينا ذلك المجتمع الأناني بتفكيره، الظالم بأفعاله، والمشتت بقيمه ومبادئه.

قد يعجبك ايضا