تحدث عن أسباب ابتعاده عن الأضواء واستقراره في الظل وموقفه من التجديد

الشاعر حسن الشرفي: أحببتُ في الشعر وطني

كتبتُ بهدوء القرية كما كتبت بقلق المدينة

شاعر كثيرٌ، كبيرٌ، يكتب وينشر القصيدة بغزارة وتجاوز، منذ أكثر من أربعة عقود ،التزم ، في معظم ما كتبه ، شكل العمود مع بعض من شعر التفعيلة بالإضافة إلى شعر العامية، وتجلى من خلال قصيدته محمولاً بلغة مختلفة ورؤى أكثر اختلافاً وموضوعات أكثر تنوعاً استنطق فيها هموم القرية ومعاناة المدينة وأحزان الحاضر وأحلام المستقبل، بشعرية عالية، متجددة، ساحرة، متميزاً بقدرته على البوح من على منبر الحب والجمال، متحيزاً للإنسان والأرض والوطن…فكان الشاعر الكبير حسن عبدالله الشرفي نسيجاً وحده بين شعراء جيل سبعينيات القرن الماضي في اليمن.

حاوره/ أحمد الأغبري

 

” للقصيدة عشرات المآذن التي توصلك إلى الله وإلى الناس، ولكي تظل قوي الإيمان بالحق والعدل ،فقط ،يتوجب عليك أن تستجيب للأذان الذي يدعوك إلى فجرها الصادق صلاة وقبول توبة.. أحيانا تخدعك القصيدة فترى أن كل الأبواب وكل الشرفات مفتوحة أمامك إليها، ولكن تفاجأ قبل أن تبدأ التسبيحة الثانية أو الثالثة بأن تلك المواقيت مغلقة وبأن كل الشرفات مختومة بالشمع الممغنط” ..هكذا يقول الشاعر حسن الشرفي في هذا الحوار مختزلا رؤيته لعلاقة الشاعر بالقصيدة… انطلاقاً من تجربته الطويلة مع الشعر، وهي تجربة قالت له: “علاقتك بالشعر يجب أن تبقى عالية التوتر، لأن أي لحظة استرخاء لا تفيدك، بمعنى أن تظل مستشعراً الضعف خائفاً من التكرار والرتابة… عليك أن تظل في مقعد الاشتغال مشغولاً بنفسك، بالحضور المشترك مع النص مع تعاطيك المباشر للموضوع”…

القصيدة..وأجنحة الأسئلة

في البدء كان المرعى… في البدء كان الشعر…ففي المرعى كانت بدايته في كتابة الشعر، ومع كتابة الشعر كانت ولادته كانسان…بدأ كتابة الشعر نظماً وبعد قراءات متعددة الاتجاهات، وبخاصة بعد أن حفظ القرآن وهضم علوم اللغة، تبلورت لديه قناعات جديدة تجاه الشعر؛ فتجاوز مفهومه للشعر من كونه كلاماً موزوناً مقفى إلى ما هو أبعد وأرقى، وذلك مع بداية عقد السبعينيات، حيث بدأت علاقته بالشعر تنحو منحى جديدا متجاوزاً ما كتبه في الستينيات، فارتقت تجربته في كتابة شعر العامية، وهو الشعر الذي كانت معه البداية، انطلقت من خلاله القصيدة مختلفة نشتم ونتذوق ونتأمل ونتحرك مع الشاعر في تنقلاته وتصوراته في ربوع الطبيعة والريف بين المواسم والوديان، وننشد معه على مشهد الراعيات في الوادي الخصيب :”يا ليتني كوز بار كلهن يشربنه على شوية صعيف”(من قصيدة بالعامية للشاعر مغناة بصوت الفنان الكبير أيوب طارش )..
في الشعر كان للشاعر دينه الأقوم وكان له صراطه المستقيم… هكذا يقول بلغة شعرية :”في البدء كان اللوح والقلم وكانت القصيدة في المرعى ونشأتها الأولى في تلك الشعاب مع نشأتها الأولى مع العشر الأولى من العمر كيف لها أن تدري؟! تشكيلة من الأحاسيس الملونة ..عالم من اللغات المبهمة محمولة جواً على أجنحة الأسئلة وكلها قاب نهدين أو أدني من مراهقته المتربصة، وفي تلك الشعاب المسكونة بالنعمة والمعروشة بالبساطة رأي فيما يراه الناموس كيف يتبرعم الشذى وينفلق البحر ، لكنه ظل وإلى ما شاء الله بين القرب وبين البعد كلما أضاء له السر خامرته الهيبة… وبمشيئة الكائن الوديع ارتضى لمشواره دين الحب، ولكي لا يظل الشعر دولة بين مسميات ما أنزل الذوق بها من سلطان كان له دينه الأقوم وكان له صراطه المستقيم”.
بقيت قصيدة الشرفي ،في مراحل تطورها، متجددة سواء بشعر العامية أو بشعر الفصحى، وفي الأخيرة كتب كثيراً وبرز ممسكاً بصولجان البوح عبر لغة ورؤية وصورة تتجدد ويتولد سحرها ملتزما في معظم ما كتب جانب العمود كشكل…:”التزمتُ في الغالب جانب العمود كشكل لا يمثل إلا وعاء محدود الأهمية … لقد كان ما وراء الشكل هو ما أبحث عنه في المعنى وفي الصورة وأهم ما وقر في نفسي هو ضرورة الوقوف على أرض ليس فيها موطئ قدم للاجتهادات العاجزة مع الإيمان المطلق أن ملكوت الشعر لا نصيب فيه ولا مكان للنظم بمعناه المجرد…لقد علمت مبكراً أن بين الشعر وبين النظم برزخ من المسامير واللهب، وذلك هو حالي مع القصيدة الناجحة التي اكتبها “.
وفي كل ما كتبه بقي الشاعر ملتزماً التعبير عن المجتمع في القرية والمدينة وبنفس القلب كتب للحزن والفرح وللناس والوطن، ولم يلتبس عليه الأمر حتى وإن كتب أكثر من قصيدة في موضوع واحد بالفصحى وبالعامية…يقول :”لكل نص عندي وجهه ولكل نص في وجداني وجهته في الشكل وفي الدلالات، كما أن للقارئ ثقافية وذائقته، أما أنا فبين نص وآخر أكون أنا وأكون سواي تماماً…كتبت بهدوء القرية كما كتبت بقلق المدينة بالفصحى، بالعامية، ولم يلتبس عليَّ الأمر لا في المعنى ولا في المبنى “.
وبعد ما يقارب أكثر من خمسة عقود من كتابة الشعر… نجد الشاعر وهو يتأمل ما كتبه لا يخفي تحفظاته…:”عشرات النصوص مما كتبت لم تعد تعجبني بعد ولكنني احتفظت بها وظهرت فيما طبعت من أعمال، وكم أتمنى أن لا يجد المتلقي ما أجده في نفسي منها…وإنها لأمنية بعيدة المنال”..

الاستقرار في الظل

صدرت الأعمال الكاملة للشاعر في ثمانية مجلدات ضمت ما أصدره من مجموعات منذ عقد السبعينيات…صدر منها خمسة مجلدات عن وزارة الثقافة عام صنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004م..وأصدر الشاعر لاحقاً ثلاثة مجلدات ومازال لديه عدد من الأعمال المخطوطة …في دليل على غزارة إنتاجه:
* على الرغم من علاقتك الطويلة والمتواصلة والمتميزة مع الشعر لأكثر من أربعة عقود.. بقيت مكتفياً بالنشر تنأى بنفسك عن أضواء المشهد الثقافي اليمني مستقراً في الظل، عازفاً حتى عن المشاركة في الأنشطة الثقافية…هل هو موقف منك تجاه المشهد الثقافي في اليمن..؟
– الحقيقة هذا موقف محدد ومدروس تجاه القصيدة…أنا أصدرت ثمان مجموعات وأنا في القرية بعيدا عن كل الأضواء الخافتة واللامعة … وليس في محيطي من يقول لي ما هو الشعر…الأغلبية هناك لا ترى فائدة في الشعر … كنت ارسل قصائدي إلى الصحف بالعاصمة صنعاء .. كما كنت ارسل للأصدقاء والزملاء ونسخا مما تم طبعه.. قلت إن موقفي من القصيدة محدد ومحسوب ومدروس … كنت أتعب فيها وأسلمها للمتلقي هنا أو هناك وأنا صامت وأقول لها إذا نجحت في الوصول والتخاطب مع الآخر بصوت عالٍ فأكون من اسعد الناس ..وبما نسبته تسعون بالمائة حتى الآن نجحت القصيدة… أما المشهد الثقافي في بلادنا فليس المسؤول أعلم به من السائل، وجودي في الظل كان برغبة صادقة مني ..وهذا ما جعلني أكتبُ بعيداً عن الصخب الذي لا فائدة منه.

مواكبة الواقع اليومي

* بعد علاقة طويلة مع الشعر ما الذي يريده الشاعر من القصيدة…هل يكفيه منها أنها عبرت وتعبر عنه…أم انه يفترض أن يحقق من خلالها حضوراً وتأثيرا في مسار عملية التحول والتجديد المواكب لحركة الواقع الاجتماعي؟
– أنا والقصيدة صديقان حميمان …وصداقتنا تأسست على ثوابت متينة في علاقتنا بالآخر…أنا لم أكتب أي نص إلا وأمامي هذا الثلاثي المشكوك في صحة نواياه ( أنا ، القصيدة ،المتلقي)..القصيدة ربما قطعت شكها باليقين في يوم ما فقالت إنني خذلتها حين تعاملت معها ساعة الخلق بغير ما هو مطلوب من حسن الاختيار لمفردتها لطريقة بنائها .. أنا ربما خذلت نفسي ساعة خامرني الشك في قدرتي على الإثبات بما هو مطلوب رؤية وصورة ودلالات …المتلقي عندما قرأ القصيدة وصل إلى ما يشبه اليقين بأنني لم أكن جاداً وهو يعرف أن مساحاتي في اللغة وفي القاموس اللغوي مشهود لها بالنجاح… أنا احرص على أن يكون حضوري في النص مقيدا في مواكبة الواقع اليومي والبعيد الأمد ..ولدي بعض الأعمال الكاملة وأكون ممتناً لو عثرت على ما فيه أي جديد أو مفيد..
* كيف نقيس شعرية القصيدة ..وما دام الشكل مجرد وعاء للقصيدة ما الضير من تعدد الأوعية والأشكال التي تستوعب رؤية الشاعر….إنني بهذا السؤال أحاول قراءة موقفك من التجديد الشعري..؟
– أنا كتبت الشعر العمودي والتفعيلة وباللهجة العامية … لا مشكلة عندي في أي من هذه الأشكال الثلاثة ولست مع المدارس في الشعر ولا مع التنظير له وقد حرصت على ألا أقع في حبائل التنظير للشعر في الشعر بمختلف مدارسه ومذاهبه …نعم، الشكل وحده لا يكفي لتكون شاعرا ..إذا كان القالب وليكن جامداً لا يخبئ أسراراً ولا يقود إلى فائدة جميلة وإلى صورة أجمل وإلى معنى حاضر لافت ودائم فإنه ،(أي القالب)، ليس أكثر من (طوبة)..كتب عن أعمالي أكثر من خمسة وعشرين أستاذا من اليمن ومن الوطن العربي…وحصلت على خمس رسائل ماجستير وقليلون هم الذين التفتوا لغير ما كتبته في العمود، ولقد اقتنعت مبكراً أن الأطر ليست حاجزاً ولا تمثل أي مشكلة.. لكنني أتعب نفسي وخاطري ساعة الكتابة أن تكون لقصائدي مضامين تستحق التحية.
* هناك من يري أن معاصرة المضمون لا تكفي ..لأن كل شيء في حياتنا يتغير مضموناً وشكلاً…ولأن الشاعر يرافق عملية التحول الاجتماعي ويعبر عنها فينبغي له البحث عن أشكال جديدة تنسجم مع حركة التحول والجديد…؟
– لا يوجد في الشعر الجيد والبديع قديم ولا معاصر…ما ولد جميلاً وبديعاً،ولو قبل ألف عام، يظل كذلك وذلك ما اقصده في المضامين..
في ” كتاب الأغاني” على سبيل المثال إبداع وشعر صالح لكل عصر ولكل معاصر…في الناتج الإجمالي لما كُتب وطبع من دواوين خلال القرن العشرين في الوطن العربي مما وصل إلى يدي نسبة قد تصل إلى أربعين في المائة ليست لا من الماضي ولا من الحاضر وقد يكون من أسباب ذلك كوننا في حياتنا تغيرنا في الشكل وفي المضمون بدون بصيرة وعلى غير هدى.

التجديد الشعري

*ومن أين يأتي التجديد الشعري…في ظل تيار يرى ويؤكد على أن التجديد الشعري يبدأ من جدة في الرؤية ومن ثم يأتي الشكل غير المحدد سابقا..؟
– التجديد الشعري يأتي من القدرة على البوح قبل كل شيء والموهبة أساس في هذا. القصيدة الناجحة والنص المتميز حين يأتي يكون قد ضمن لنفسه الموقع المحترم في الابتكار والإبداع.. والتفكير يأتي انسيابيا مaع كل جملة ومفردة وحرف.
*وما رأيك فيما قد يقول أن التزامك العمود فيما معظم ما تكتب يؤكد عدم قدرتك على التجانس وملائمة عملية التجديد..؟
– هذا كلام تفنده الأعمال الكاملة المطبوعة والمخطوطة وقد أسلفت أنني قادر كامل الاقتدار على الكتابة بالجميع… الشعر لا يصح القول انه من الخلق أو من التنزيل ويصح القول انه من الإلهام … والوحي في الصحف الأولى وفي الصحف الأخرى هو الهام كما هو عند الأنبياء والشعراء…وما كان اعتماد الزمخشري على الشعر في الاستشهاد في التفسير إلا خير دليل…لأن النص الشعري الناجح معبأ بإسرار البلاغة وإعجاز القول في الكنايات والاستعارات…وهو كذلك كنز اللغة بما فيها من الغنى والإمتاع… ومن هنا أحببت الشعر .. وقلت للقارئ إنني لا أقبل منه التساهل معي بالقدر الذي أرفض قسوته أو تجنيه ما لم يكن على بينه من الأمر في وضوح الرؤية وفي صحة الحكم…
لقد قلتُ للدنيا وأيامها ما شئت لا ما شاء الذين قالوا إنني أكثرت من القول فذلك حقهم ولهم أعذارهم، كما أن لي عذري مثلهم تماما في (هوى النفس) وفي (مذاهب العشق) بمعناه الواسع وفي “ضيق العيش وفسحة الأمل”.. وأنا هنا من الذين جاؤوا إلى الدنيا من زمنها القاسي…أنجزتُ ثمانية مجلدات مطبوعة وعندي سبعة أعمال مخطوطة بما فيها كتاب ((على راحة السؤال)) وهو كتاب جمعته من المقابلات واللقاءات الصحفية معي طيلة عشرين عام قلت فيه أنني نجحت كثيرا وفشلت أكثر، وفي كل الأحوال لقد أخلصت للشعر إخلاصا لا حدود له…أحببت في الشعر وطني وأبنائي وأصدقائي والحرية والحياة”.

تقرأون كذلك :

حكايةُ نص

تأملات في كتاب “رحلة خلف القضبان”

امتزاج المعقول اللامعقول شعبيا

بين وميض الاسئلة .. وتوهج الذات

أمريكا الشيطانُ الأكبرُ

شاعر الموقف والرسالة

فنانونا والتراث ..

الإبداع هو التميز والابتكار وما ليس مألوفاً وهو سمة فكرية إنسانية: المبدعون صانعو الدهشة، وحالات الإهمــــال والتهميش

تماسك السرد والإخلال بالتاريخ

المجلات الأدبية بين الاستمراريـة والانقطاع

الصنعة الشعرية

الأصبحي في عمل سردي جديد يستقرئ مشهد تقدم ورفاهية الصين بعيون عربية

خيالك .. يلهو مع تمرّده

الغموض الأدبي

سوسيولوجيا المفكر

الروائي/وجدي الأهدل: مجتمعنا لا يفرَّق بين دور الأديب ودور الـمـــهرَّج!!

لعبة الظلال.. رواية فلسلفة الحب بصدق فني باذخ

الشعر في مواجهة العدوان

قد يعجبك ايضا