الصورة الحركية والبعد الموضوعي في ديوان ” كاذي شباط” لـ”علي عبد الرحمن جحاف” (2-2)

 

عبد الرحمن مراد

لاشك أن ما احتواه ديوان الشاعر جحاف ” كاذي شباط ” ما هو إلا النزر القليل مما قاله كون الشاعر غزير الإنتاج لكنه مضياع لشعره , والمتصفح للديوان يجده في أبعاده الموضوعية لا يخرج عن البعد الاجتماعي , فالغزل يأخذ النصيب الأكبر تليه الإخوانيات والحكم والرثاء وما سوى ذلك .
واعتقد أن النسيب يحتل 90 % من انتاج الشاعر , فالحب عنده عبارة عن قيمة إنسانية علياء , وهي مفقودة في بيئة الشاعر كونها تتعامل بمبدأ الرصاص والكراهية والحقد مع الغير , وغزارة إنتاجه في هذا الباب يعود في اعتقادي الى إيمانه بضرورة رفد مجرى الحب في تلك النفوس الجافة التي فقدت التراحم والإحسان والحب وترى في الحب والتواد ضعفا ينزل الرجل من منازل الرجولة وهذا الاتجاه الثقافي في بيئة الشاعر فرض عليه نوعية المعاني وسبل التعامل معها وحدد إطارا اسلوبيا وثقافيا لها .. ألا تراه يقول :
هبيت فيك المستحيل
وانته على امعاشق بخيل
أحايلك وانته تحيل
هويل ما تهب هويل.
***
فالعناد سمة غالبة في طبائع أفراد المجتمع الذي يعيشه , فهو قد استخدم كل الطرق وتحايل بكل الوسائل لكن محبوبه كما عبر :
وانته لأثواب امعناد تحزب
أمصنف أمحالي وفروة أمدب
و”فروة الدب ” عبارة وافدة على النص وليست من خصائص بيئته بل من نتاج التواصل الثقافي مع البيئة المصرية التي قضى ردحا من الزمن فيها للدراسة وهذه البيئة كما يؤكد النص بسمتها في رفض التعامل مع “الوصل ” لكونه منقصة وخروجاً عن التقاليد , لذلك فالقضية تصبح نضالا لإحداث متغير ثقافي يقول :

احسب جهادي في وصالك احسب
بامكنك من كل مهر تطلب
فقصائد الغزل في البناء النصي لا تخاطب محبوبا بعينه بقدر ماهي معالجة ساخنة تتغيا تفكيك البناءات الثقافية في التصور الاجتماعي لإحداث بدائل عنها , لذلك فحين يقول الشاعر :
وانته كمزراق أمنخيل ….دايم تعرض لمسبيل
فهو يصور الحال الذي عليه العاشق في الريف , فهو يعترض محبوبته في الطرق ولا يمكنه عمل غير ذلك , والصورة هنا تمثيلية بارعة الدقة والهندسة , فالمزراق عبارة عن شعاع يتخلل أغصان الأشجار عند الضحى تصعب رؤيته لشدة نفاذ ضوؤه , وقد أخطأ شارح الديوان حين قال مزراق النخيل طويل النخيل .
وقد عبر عن هذه الحالة الاجتماعية في الريف في مكان آخر حيث يقول :

مسكين من كان مثلي ما يجاد امفتيل
يحب لكن ما يجزم أبوه
يوقف على امبير ولا يعترض لمسبيل
أهل البلاد يضربوه
***
وبرغم الصعاب الوجدانية المترسخة في طبائع المجتمع الريفي , إلا أن الشاعر يتعشق حياة الريف , وقد عبر عن ذلك في أكثر من مكان في ديوانه حيث يقول :
ريف اليمن جنة الدنيا ومهد الجمال
من يعشق الريف يتعشق صفات الكمال
وإذا تساءلنا ماهي صفات الكمال التي يتعشقها في الريف ؟ يجيبنا بقوله :

الحرية والشهامة والرضا بالحلال
والجود بالمال في الشدة وحل الغنى

وهذه الصفات مترسخة في ريف اليمن وربما وجد الشاعر فيها حالة من التناغم والتصالح بين المفهوم والواقع أي بين الصورة وبين الحقيقة .
ونجد الشاعر في قصيدته ” طائر أمغرب ” التي يغنيها الفنان ايوب طارش يتطرق الى عادات اجتماعية عقائدية متخلفة في جوهر التعامل مع الواقع , ويناقش قضية الاغتراب وهجرة الأرض . مثال ذلك قوله :
كنشي نحاكن ولي يزهد يوطي تمايم
يفتح لقلبي امكتاب.
وأيضا قوله :
دايم زماني وانا بين امجفا وامغلايب
ماذقت طعم امسعاده
ميان له امعز من فارق ديار الحبايب
وكيف يهناه زاده
من سيب امزهب وموادي وهوش امزاريب
وخيته وامقعاده.

فالشاعر هنا يتحدث عن قضية عقائدية في المثال الاول وهي سائدة في فترة زمنية في المجتمع الريفي زمن صوغ النص وهو عقد السبعينات من القرن العشرين وماتزال آثارها قائمة الى اليوم , وحين يطرق الشاعر هذه القضايا فهو يقترب من واقعه اقترابا كليا ليعرضه كما هو دون تضليل أو زيف وهدفه بيان المستوى الثقافي للمجتمع وبيان رفضه بصورة ايحائية، نلمس ذلك في قوله :
إلا عليل المهوى
ماشي لجرحه مداوي
ومقلب لاكد غوى
ناخوك ما هاتساوي
فعليل الهوى لا يمكن مداوته بالتمائم ولا بالاعتقادات الباطلة , وماذا عساها أن تفعل تلك التمائم التي يلجأ الناس اليها ويعتقدون فيها , ولكنه عامل التراجع الثقافي , وقد قيل أن وظيفة الشاعر ” هي أقرب الى وظيفة المصلح او المعلم وإن تمردت طريقته الإيمائية على الحض الصريح والتعليم المباشر خاصة والمجتمع الذي يعيش فيه الشاعر كما سبق الإلماح مجتمع نامي يتأثر بالكلمة الناقدة ولا يراها ترفاً ذهنياً كما عبر الدكتور المقالح .
***
هناك قضايا اجتماعية أخرى استدعت من الشاعر أن يبني موقفه منها , والفضل في ذلك يعود إلى المساجلة الشعرية بينة وبين زميلة الشاعر حسن عبد الله الشرفي وهي قضية المفاضلة بين بنت المدينة وبنت الريف ونرى الشاعرين يفضلان بنت الريف لأنها تحمل كل معاني البساطة والرضى بالقليل وايضاً لتميزها بالأنتاج ومشاركة الرجل في أعمال مزرعته ويرى أن الجمال هو في التحلي بروح طموحه قادرة على مصارعة الحياة وما سواه يراه كما قال :-
من يان له حسن ذي وسط الحرير مغمور
من يأكل الفاكهة إلا وهو قعره
ذي مامعه شغل غير عدة الديكور
قل له تفوك وحقره في العين والنخرة
ويرى أن الجمال موجود في كل شيء:-
من هاش في الارض يلقى حسنها منشور
في الحقل في الساقية في الشعب في الزهره
وليس من حق أي أحد ادعاء الحسن ولكنة كما يقول :-

الحسن قسمة مشاعه كالهوى والنور
مباهجه عمت المعمور والقفره
فالحسن من حق الفقير ومن حق الغني ومن حق البشر جميعاً ولكل حظه منه كما قال :
لصاحب التاج منه حظه المقدور
ما ستره يمنعه من صاحب أموزره
صاحب التاج كناية عن طبقة الاغنياء في المجتمع وصاحب “اموزره ” كناية عن الطبقة الفقيرة داخل المجتمع .
أما البعد الانساني ،فيتمثل في قصيدته ( حمام الدور ) ويكفي ما فيها من معان سامية وأخلاق عالية قلَّ أن تكون حية في شيم الناس في هذا العصر , موضوع القصيدة وتلقائيتها يغنيان من أي تقليد او توضيح أو تعليق ،يكفي أن نورد منها خمسة أبيات للاستدلال :-
أحزان كل الناس في مهجتي
فيا حمام الدور نامي
لا تقلقي بالله نوم إخوتي
وتزعجي نوم الصبايا
أنا قتيل الحب في قريتي
لكنني أخفي هوايا
إذ ليس من طبعي ولا من شيمتي
تحميل آلامي سوايا
ما اسخاش أقرب من أخي جمرتي
وفي يدي مني بقايا.
***
ولا يخلو الديوان من أبعاد التجربة الإنسانية ونقلها الى الآخرين لمعرفتها , وصياغتها في قالب من الحكمة مثل قصيدته ( وصية ) والتي أوحت بها إليه مقايله مع ( عامل كشر ) ودراسة تجارب الآخرين والاستفادة منها وعندما نقرأ القصيدة نشعر بمدى معايشة الشاعر للتجربة والصدق العاطفي وصفاء الفكرة ونقائها :-
وأحذر تظن أن عمرك مستديم
الموت يا زيد ما منه مفر
واستقبل الخصم مرخي الشكيم
مالان يعصر وما اشتد اكتسر
ومنها:-
وساير الناس بالطبع السليم
إن عشت في الشام ولا في قطر
فالناس يا بني تجب المستقيم
وتحفظ الود للشهم الأغر
***
أما البعد الوطني، فيكاد يخلو من الديوان بتاتاً اللهم إلا قصيدة من عشرة أبيات تحت عنوان ( هنا قاعدة المتفرطين ) يتحدث فيها عن نذالة وخساسة البعض في أجهزة الدولة يقول :-
دارين غث الجماعة والسمين
الناقصة عندهم والزايده
معروف سعر الرباعي والثمين
كل المعايير عندي واجده
ميزان شعبي بقسطاطه أزين
كل المقاعد بعقده واحده
ثم يصل إلى ذروة الانفعال والغضب قائلاً :-
يمين ما قلت لي إحلف يمين
لولا احترامي لجو القاعدة
لأفعل لمن حولنا جملة زنين
كلين يلبس بقدر الفائده
البعض بقلب كوافيهم جمين
والبعض كيسان فوق المائده
واكتب هنا قاعة المتفرطين
يا شعب باسمك نهني الوالده.
الأبيات في مجملها ثورة ساخرة من حال أولئك الذين يدعون الوطنية وهي منهم براء , ويصل الى قمة السخرية في بيته الأخير والذي هرب فيه الى التورية العفوية , فالوالدة مفردة تحتمل معنيين الأول اسم فاعل من ولد يلد والثاني هو الدلالة المباشرة للمفردة في منطقة الشاعر وما جاورها وهي الأم , والسخرية في الأبيات عبارة عن حالة تمرد على واقع غير مستساغ عند الشاعر , والصورة في الأبيات مغرقة في الكوميديا .
***
ثمة ملاحظات لا بد من الإشارة اليها في السياق تتعلق بتفسير بعض مفردات اللهجة في الديوان , قد يصل بها الحال الى الغاء جماليات الصورة الشعرية وتنال من القيمة الفنية للنص والقيمة الإبداعية للشاعر , مثال ذلك ما سبق لنا الإشارة اليه في السياق عند بيان ” مزراق النخيل ” وغيره كالتالي :
– هويل : فسرها شارح الديوان بالمرعب مستندا الى دلالتها بالفصحى والصحيح وفق المتداول في محافظة حجة هو الجميل أي جميل القد ومعنى الشطر جميل لكنك لا تعطي شيئا جميلا .
– تحزب : بمعنى تلبس
– أمشعيبة : هي مدرب السيل الى الحقول أي المكان الذي تنساب منه المياه الى الحقول وليست الحقل كما أشار شارح الديوان .
– احتسر : ليست من التحسر كما يقول شارح الديوان بل هي الالتفات أي لي العنق وفق المتداول ووفق دلالة النص أيضا .
– شبحتك : هي الانتظار في ترقب ومعناها يقوق النظرة كما فسرها شارح الديوان وشبح الشيء انتظره في ترقب كما هو متداول في محافظة حجة وفي منطقة كشر على وجه الخصوص .

قد يعجبك ايضا