الفساد.. والإرادة السياسية (7)

أحمد يحيى الديلمي
الفساد في مجال القضاء (ب)
كان الشهيد المرحوم ابراهيم محمد الحمدي أول من تنبه إلى خطورة المؤامرة ودورها في إضعاف جهاز القضاء اليمني كأهم عامل للهدم وعدم اكتمال بناء الدولة اليمنية الحديثة، لأنه منحدر من أسرة قضائية وسبق أن عمل بالقضاء نيابة عن والده القاضي المرحوم محمد الحمدي فقد رأى ما يجري بعين القاضي الحريص على إشاعة العدل وتوفير التشريعات واللوائح الناظمة لسلك القضاء الكفيلة بالإنصاف وحماية الحقوق ومنذ تولى زمام الأمور في البلاد عقب حركة 13 يونيو 1974م بادر إلى الاهتمام بهذا المجال الحيوي الهام وكان أول ما لفت انتباهه هو:
1 – تقدم سن العاملين في سلك القضاء.
2 – عدم وجود مؤسسات لتأهيل قضاة جدد يمكن من خلالهم إيجاد البديل.
3 – المحاولات الجادة من قبل السعودية للتدخل في هذا الجانب.
وعلى ضوء هذه الرؤية شهد القضاء تحولات هامة شملت التقنين لأحكام الشريعة الإسلامية وتنظيم آليات التقاضي وبلغت عملية التطوير الذروة من خلال الآتي:
أولاً: في جانب التشريع والتنظيم:
• اعادة تنظيم المحكمة العليا وتحديد مهامها.
• انشاء النيابة العامة.
• اعتماد مهنة المحاماة وإصدار قانون لتنظيم المهنة.
• رفع رواتب القضاة وفق كادر خاص.
• اصدار قانون إعادة تنظيم وزارة العدل وتحديد اختصاصاتها.
إلى غير ذلك من التحولات المكملة بما مثلته من نقلة نوعية للقضاء.
للآسف التحولات السابقة تعرضت للإجهاض بفعل التدخل السافر والمباشر من قبل النظام السعودي الذي أطلق عليه الأستاذ البردوني “رحمه الله” المستعمر السري.
ثانياً: في جانب التأهيل:
1 – التوجيه بإعادة فتح دار العلوم العليا بالجامع الكبير بصنعاء.
2 – انشاء المعهد العالي للقضاء.
3 – صدور القرار الجمهوري رقم (74) لسنة 1975م والذي قضى بتشكيل الهيئة العلمية لتقنين احكام الشريعة الاسلامية من كبار العلماء الذين بلغوا مرحلة الاجتهاد وأوكلت إليهم مهمة إعادة النظر في القوانين الموجودة وموائمتها الحياتية والقوانين الحديثة.
حيث باشرت الهيئة أعمالها لانجاز المهام المؤكلة إليها وأصدرت عدة قوانين إلى أن تم إلحاقها بمجلس الشعب التأسيسي عام 1979م.
منذ حادثة اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي برزت معادلة جديدة اقتضت التعاطي مع الواقع بأفق ضيق أهم محاوره تبعية النظام المطلقة للديوان الملكي في الرياض، وبدوره أسند مهمة السيطرة والمتابعة والتحكم فيما سُمي بمكتب اليمن إلى الأمير سلطان الذي أمسك بملف اليمن وجند لذلك عناصر يمنية في كل مفاصل الدولة وفي المقدمة سلك القضاء، فقد تم التعاطي مع هذا المجال الحيوي الهام باتجاهين:
الأول تخريبي: وتضمن:
أ ) التقليل من أهمية الخبرات المتراكمة بأفق وطني وإرادات مستقلة وإقناع الجانب اليمني بضرورة استقدام خبراء واختيارهم من قبل الجانب السعودي إضافة إلى القيام بأعباء الاستقدام ودفع الرواتب ومقومات المعيشة كما أسلفنا.
ب) محاولة التقليل من أهمية القضاء وإضعاف فاعليته في إطار الخطة الممنهجة لاستهداف النظام في اليمن بشكل عام وترجمة المقاصد الخفية للنيل من المورورث المتراكم المستند إلى أصول منهج العقيدة القويم وتوفير المقومات الكفيلة بتفتيت وتمزيق اليمن وصولاً إلى التأثير وإحباط مقومات المشروع الحضاري لبناء الدولة اليمنية.
ج) دفع اليمنيين إلى التذمر والشكوى من انعدام العدل لضمان استمرار الفوضى والاختلالات الأمنية والاضطرابات السياسية بهدف الإمعان في اتهام القضاة بالفساد بقصد تعميق فكرة الإحباط واليأس من جهاز القضاء وتحويل العرف إلى خيار وحيد ومفضل لدى كل المتخاصمين.
الثاني أيديولوجي:
في هذا الجانب لعبت حركة الإخوان المسلمين ( حزب الإصلاح في وقت لاحق) دوراً تآمرياً حقيراً وخطيراً سعى إلى:
جعل الأثنية مدخلاً لاستهداف الآخرين عبر إثارة النعرات العنصرية والمذهبية والطائفية واتباع أساليب رخيصة تجاوزت كل القيم والأعراف وساندت النظام في ارتكاب أبشع الجرائم ضد المعارضين من القوى السياسية الأخرى تمثلت في: التعذيب والتنكيل في أقبية السجون – الإخفاء القسري – السحل – الاغتيالات السياسية – التصفيات الجسدية – استباحة الملكيات والحيازات العامة والخاصة كان القصد واضحاً في هذا الجانب وتمثل في:
– ترجمة رغبات النظام السعودي ببعده الأيديولوجي الهادف إلى إحلال الوهابية بمنهجها وأحكامها الشرعية بدلاً مما هو قائم في اليمن والمجسد للإجماع من خلال قواعد المذهبين الزيدي والشافعي.
– إثبات قوة الحضور وإدخال أكبر عدد من الإخوان للدراسة في معهد القضاء لتسهيل التحاقهم بسلك القضاء في المحاكم والنيابات العامة بما رافق العملية من غي وظلال تمثل في نعت الآخرين بالملكيين والروافض والمجوس واتهام أتباع القوى السياسية الأخرى بالإلحاد والكفر والردة.
في فترة لاحقة بالذات بعد اندلاع أولى حروب صعدة تمكن الإصلاح من إثارة حفيظة النظام والتوافق على خطة للتحكم في مدخلات معهد القضاء على أساس مناطقي ومذهبي والسماح لجهاز الأمن السياسي بوضع اشتراطات القبول وتوالت الاختراقات حتى وضعت المعايير المطلوبة في هيئة التدريس ومفردات المنهج الدراسي البديل مع التركيز على ضمان الولاء المطلق للنظام والارتباط المباشر بجهاز الأمن السياسي، هذه النقطة بالذات ترتبت عليها تداعيات خطيرة أهمها:
1) ضعف التحصيل وتحويل معهد القضاء إلى وسيلة فقط للحصول على وظيفة كأهم حافز للالتحاق به.
2) إسقاط فكرة الاستعداد النفسي والمؤهلات الذاتية والقدرات الذهنية المطلوبة في من يرتبط بسلك القضاء.
3) التركيز على الكم وإهمال الكيف.
المعالجات المقترحة
التأهيل والتدريب
1) الاهتمام ببناء القاضي على أساس سليم من خلال:
أ – تنقية المنهج من الشوائب التي علقت به.
ب – اتقان اختيار هيئة التدريس بالمعهد وإدخال مواد جديدة مثل – الاقتصاد – العلاقات العامة – الإعلام – الاتفاقيات الدولية ومواثيق الأمم المتحدة.
ج – وضع شروط القبول على أساس علمي تبدأ بمكونات الشخص وضمان توفر صفات القاضي الناجع المتوفر فيه سرعة البديهة – القدرة على الاستيعاب والفهم – اتقان اللغة العربية – اتقان عدد من أجزاء القرآن الكريم – حفظ عدد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويفضل ما يتصل بفقه المعاملات والفرائض والحدود بحسب ما تتفق عليه لجنة القبول.
د – إعطاء الأولوية لمن تتوفر فيه الشروط بعيداً عن الفرز السياسي أو الانتماء المناطقي ومن توفرت فيه الأهلية يُقبل للالتحاق بالمعهد حتى لو انحدر أفراد الدفعة من منطقة واحدة.
في المرحلة العملية
عدم اعتبار كل خريج من المعهد قاضياً مؤهلاً لممارسة القضاء، ولا بد أن يظل تحت التجربة لفترة لا تقل عن ستة شهور ولا يصدر قرار التعيين إلا بعد إثبات الجدارة والكفاءة في التجربة العملية ومن ثبت عنه عكس ذلك يخضع لدورات تأهيلية ما لم فإنه يحال إلى الجهاز الإداري في الدولة.
تنظيم دورات تأهيلية لعدد من الدفعات إذا أمضت عامين أو ثلاثة في العمل الميداني لتنشيط الذاكرة وتكليف كل شخص بإعداد بحوث عن فترة عمله والتجارب التي اكتسبها من الميدان لمعرفة الإضافات النوعية التي اكتسبها القاضي خلال نفس الفترة.
في الجانب التنظيمي
أ – إعادة تشكيل لجنة تقنين أحكام الشريعة ورفدها بعناصر مشهود لها بالكفاءة وسعة الأفق وغزارة العلم.
ب –إعادة النظر في بعض القوانين للخلاص من النماذج المصرية بما هي عليه من الرتابة والاهتمام بالشكليات على حساب المضمون.
ج – إعادة النظر في بعض بنود القوانين المنظمة ومنها المادة (158) في قانون الإجراءات الجزائية التي اقرت رفع الأحكام العرفية إلى رؤساء محاكم الاستئناف في المحافظات، فلقد أعطت هذا النوع من الأحكام بُعداً قضائياً رغم أن معظمها لا تصل إلى هذا المستوى.
الهيئات العليا المعنية بإدارة القضاء
– مجلس القضاء الأعلى.
– المحكمة العليا.
– وزارة العدل.
– النيابة العامة.
مطلوب إعطاء أهمية خاصة للمكونات السابقة لأنها المعنية بإدارة جهاز القضاء والارتقاء بمهنة التقاضي بما يضمن إشاعة العدل والإنصاف ومنع الظلم وتبعاً لما تمثله هذه السلطة من أهمية يجب اتباع الآتي:
1 – إعادة النظر في اللوائح أو إصدار لوائح جديدة تنظم عمل كل كيان على حدة وبشكل خاص مجلس القضاء والمحكمة العليا بما في ذلك إعادة تشكيل المحكمة الدستورية وتحديد اختصاصاتها تبعاً لأهمية الدور المنوط بها.
2 – توفير الكوادر البشرية المؤهلة التي تمكن كل جهاز من أداء عمله على أكمل وجه خاصة مجلس القضاء الأعلى كونه محور السلطة الثالثة ولا بد أن يحظى باهتمام خاص من خلال عدم اقتصار التعيين في الأمانة العامة وجهاز السكرتارية على القضاة من خريجي المعهد العالي للقضاء ولا بد أن يكون لدى المجلس خبراء في السياسة والاقتصاد والاعلام والاجتماع كون أعمال القضاء تتشعب وتشمل كافة الجوانب الحياتية وفي المقدمة الاتفاقيات الدولية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية، وهذا هو أحد مصادر احتجاجات المنظمات الدولية ودول الغرب على التشريعات اليمنية، إذ يعتبرون أن القضاء اليمني يقتصر أداؤه على الجانب الفقهي فقط، لذلك يجب أن يكون العمل بنفس المعايير التي تكفل المشاركة الفاعلة في صياغة نظام قضائي دولي متوازن يراعي الخصوصيات ويحفظ التعايش والأمن والسلام في العالم، وهنا لا بد من الإشارة إلى اهمية وجود إدارة عامة للشكاوى والعلاقات والإعلام تتبع رئيس المجلس مباشرة ويتم رفدها بكادر متخصص قادر على تقديم رؤى لتقييم الأداء في كل مجالات القضاء وعلى مستوى كافة الدرجات مشتملة على آراء الموظفين والمواطنين وكل ما يقال في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لمعرفة رأي الناس عن القضاء أولاً بأول ووضع رئيس وأعضاء المجلس في صورة كل ما يجري.
3 – استلام شكاوى المواطنين والقيام بتقييمها ورفعها إلى رئيس المجلس مشفوعة بالرأي قبل إحالتها إلى هيئة التفتيش القضائي من أجل متابعة سيرها وضمان عدم الارتجال في العقاب أو تعمد إهمال شكاوى المواطنين.
البقية في الحلقة القادمة إن شاء الله..

قد يعجبك ايضا