الفساد والإرادة السياسية (3)

أحمد يحيى الديلمي
الفساد السياسي
بدعوى توطين الخيار الديمقراطي والتمهيد لبناء الحكم الرشيد وتحديث الدولة اليمنية ، استطاع الفكر التآمري للدول المعادية لليمن على المستويين العربي والدولي اخماد جذوة الحركة الوطنية وتقزيم دورها باستقطاب اليمنيين إلى مجاهل الخيانة والعمالة وانتقال التناقضات وتعدد الولاءات القبلية للتحكم في مسار الأحداث واخضاع كل شيء لرغبات الأطراف الخارجية بما في ذلك تحديد شكل الحكم واختيار القيادات الحاكمة بشرط ضمان الولاء والتبعية المطلقة للحاكم كما هو حال السعودية.
أحس اليمنيون بالزهو بعد إعادة اللحمة وانتشال وحدة الوطن بأفقها التاريخي وبعدها الحضاري من براثن الاعداء التاريخيين المتربصين بالوطن وابنائه وتضاعف أمل الانعتاق لأن الدولة الجديدة اقرت التعددية السياسية وفتحت المجال أمام القوى السياسية للمشاركة الفاعلة في بناء يمن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية استناداً إلى آليات الدستور وبنوده الوطنية.
تلك الآمال والتطلعات الصادقة سرعان ما تبخرت وذهبت ادراج الرياح بفعل عدة عوامل أهمها :
أولاً : التآمر الداخلي
استطاعت السعودية توحيد ادواتها القبلية والدينية ودفعتها لتوجيه ضربة قوية إلى خاصرة الدولة من خلال الدعوة إلى اسقاط الدستور واعتباره بنوده مخالفة لروح الشريعة الإسلامية وتحريض الجماهير ضد منجز الوحدة باعتباره كفراً وإلحاداً وأن النظام في الشطر الجنوبي مطالب بتجديد الإسلام ما لم يقم عليه الحد وهي المهزلة التي انساق إليه جناح الإخوان المسلمين في حزب الإصلاح وظلت قائمة واقتضت ممارسة الكثير من الاغتيالات من جانب ومن جانب آخر اقتضت تعديل الدستور.
استطاع رأس النظام أن يلعب على خطين متناقضين من جهة أعلن التمسك بالدستور ورفض ادخال أي تعديلات عليه ومن جهة ثانية دفع بالاخوان والقوى التقليدية إلى تصعيد الاحتجاجات والمطالبة بإسقاط الدستور واعتباره معولاً للهدم وتمويل بعض الفعاليات مادياً لا من أجل المادة موضع الاحتجاج بل لتحقيق غايتين.
أ – بث الرعب في نفوس المواطنين والتأثير على معنويات قيادات الحزب الاشتراكي الشريك الفعلي في إنجاز إعادة الوحدة عبر المبالغة في اظهار قوة حضور الممانعين مع ما رافق العملية من تصاريح نارية لقيادات الإخوان والقوى التقليدية اتهمت الاشتراكيين بالكفر كما أسلفنا ، فكان للرجل ما اراده بحيث ساد الاعتقاد لدى القوى السياسية أنه صمام أمان وبدونه ستصبح حياة الكوادر القادمة من عدن مهددة ولكي تكتمل الصورة صوب سهام الغدر نحو بعض القيادات ومنها محاولة اغتيال الرمز الوحدوي الكبير الأستاذ عمر الجاوي –رحمة الله عليه- والتي ذهب فيها الشهيد المهندس حسن الحريبي ومحاولة اغتيال عبدالواسع سلام وزير العدل وتوالت العمليات المماثلة بشكل كبير إلا أني أكتفي بذكر النموذجين للتدليل وفضح الأساليب الماكرة ووحشية للنظام التي غلف بها الجرائم بأن أدعى النقاء الكاذب.
ب – التمهيد لإجراء تعديلات أخرى في نصوص الدستور وأهمها المادة المتعلقة بمبدأ الحكم الممثل بمجلس الرئاسة والذي سبق أن دخل في سجال حولها مع الاستاذ عمر الجاوي وعرض عليه مغريات كبيرة إن هو مهد لطرح الفكرة وأقنع المثقفين بضرورة التعاطي معها بإيجابية باعتبار أن البلاد لا تحكم إلا بفرد ، والحكم الجماعي يعيق كل شيء ، نتيجة التخلف وعدم الفهم لدى المواطن والتعود على نظام الإمام الواحد ، هذا ما قاله علي عبدالله صالح ، إلا أن الأخير رفض بشكل قاطع وهدد بفضح النوايا الخبيثة فكان الموقف سبب استهدافه ومحاولة اغتياله هذا ما قاله المرحوم قبل وفاته… مشيراً إلى انها اهم اسباب حرب 1994م التي استطاع بعدها أن يعدل الدستور ويجسد سلطة الحاكم الفرد مطلق الصلاحية بعد أن أعطى الإصلاح ومضة أمل مقابل دورهم الفاحش في حرب 94م فصعد الزنداني إلى عضوية مجلس الرئاسة ثم استدرجه ليقنعه بنفس الأسباب التي تستدعي وجود حاكم واحد ، وفي نفس الوقت استطاع التأثير على البسطاء باستغلال البراعة التي اكتسبها في فترة حكمة السابقة لزرع بذور الشقاق وإشعال نيران الفرقة وبث الفتن والدسائس وافساد الضمائر واهدار ثروة الشعب لتمرير عفن التسلط وتوظيف الطائفية بشقيها المذهبي والمناطقي كوسيلة لخلخلة النسيج الاجتماعي ومن أبشع الجرائم التي اقدم عليها النظام السابق الآتي :
1 – شرعنة الفساد حتى استشرى ووصل إلى جميع مفاصل الدولة.
2 – تشويه المضمون الديمقراطي: إذ حدثت عمليات من أكبر وأدق تزوير الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية والتركيز فقط على رضا ومباركة الدول الخارجية والمنظمات الدولية لتعطي شهادة لما جرى وإن كان الواقع يخالف كل ذلك ، إلا أن شهوة الحكم استطاعت أن تغرس مثل هذه المفاهيم وتحولها إلى ثقافة اقتضت الخنوع والاستسلام والتبعية المطلقة بل والاستسلام المُهين للفساد والمفسدين.
3 – التآمر على القضاء وإضعاف دوره مما أشاع الفوضى وعمليات السطو والنهب والمتاجرة بحقوق ومصالح المواطنين وتجنيد شذاذ الآفاق أصحاب السلوكيات غير المنضبطة لإشاعة القمع والفوضى وإرهاب وترويع المواطنين وكل الاعمال الاجرامية التي أثرت على هيبة الدولة وهزت مكانتها إلى جانب اعمال القهر والتهميش والتنكيل والتعذيب لكل من يرفع صوته للمطالبة بالتغيير وإزالة الظلم وتحقيق العدالة للجميع أو ملامسة الواقع الحياتي بأفق وطني صادق مثل اقتراح حلول عملية تبدأ بتشخيص الواقع وحصر الأخطاء والممارسات غير السوية ، وفي الأخير صوبت سهام الحقد والكراهية كل من يرفض مبدأ التوريث لأن كل شيء كان يُعد لتوريث نجل الرئيس في الحكم ومن خالف ذلك تعرض لكل أنواع التنكيل ، كما حدث مع المرحوم عبدالكريم الخيواني والمرحوم الدكتور محمد عبدالملك ، تلك أهم الثغرات التي استشرت في الواقع على مدى عقود من الزمن وتحولت إلى سلوك مألوف او مسكوت عنه حتى تراكمت وضاعفت الاختلالات التي مست منظومة الأخلاق والقيم ومستويات الالتزام بأحكام وتعاليم الدين القويم وتمثلها في السلوك لتصبح مخافة الله والخشية من عقابه أهم رادع يضبط السلوك وكل ذلك يوحي بأن الهدف كان ضرب المجتمع اليمني معنوياً والتأثير على النفوس لاحداث شرخ عميق في النسيج الاجتماعي.
وكل الاختلالات التي اسلفت وغيرها تؤكد أننا بحاجة ماسة إلى مقاربة جديدة تتعاطى مع الواقع بأفق حضاري وإرادة وطنية صادقة خيارها الوحيد اليمن فوق الجميع وفوق المصالح الضيقة والرغبات المشبوهة ، ويتم ذلك من خلال :
1 – الاستفادة من الموروث الحضاري ودروس التاريخ الناصعة.
2 – الاستنباط الواعي للآليات من نصوص الشرع القويم بعيداً عن التوظيف النفعي وثقافة أطع ولي الأمر وإن سلخ جلدك وكسر عظمك.
3 – استحضار التجارب الإنسانية والاستفادة منها بإرادة البحث عن الأفضل لا بطريقة المنبهر الخاضع الذليل.
إن الإصلاح وتطوير النظام السياسي مطلب هام يتطلع إليه كل يمني لكنه بحاجة إلى قواعد وبنية أساسية تحتية تجعل الإصلاح عاماً وتشمل (الثقافة ، الاقتصاد والاجتماع بهدف تحفيز العمل الجاد والدفع به باتجاه الارتقاء بالواقع ومعالجة الخطط في كل جوانب الحياة ، وهنا لا بد من دستور نشأته يمنية وهواه إيماني ، دستور يلزم الجميع بالخطوط الحمراء للدولة التي لا يمكن تجاوزها أو الاقتراب منها ، دستور يجمع عليه كل اليمنيين ليصبح الضمير العام للدولة ، وشوكة الميزان الذي ينظم العلاقة على أساس العدل والمساواة والاحتكام إلى أصول العقيدة ، كما أن الشعب اليوم يريد ديمقراطية بناؤها قوي لا مكان فيها لخداع الذات أو إيهام الآخرين ، لا يريد الشعب ديمقراطية كلامية ترفع الشعارات البراقة أو تحظى بمقالات الثناء والمديح في صحافة الغرب وأجهزة إعلامه ، المطلوب ديمقراطية حقيقة تنمي الوعي السياسي العام ، وتشيع ثقافة الاختيار وتعرف بمعاني الحرية المنضبطة ومبدأ أن تكون السيادة الفعلية للشعب لا للحاكم ، كما أشار لذلك الشهيد الخالد الرئيس صالح الصماد ، حيث قال “نريد دولة للشعب لا شعب للدولة” ، وهي كلمة خالدة تخلدت في سجلات التاريخ ، وقيمة عظيمة المطلوب أن تخضع كل حكومة للمساءلة الدستورية وتضمن التداول السلمي للسلطة وإجراء انتخابات دورية حرة ومباشرة إضافة إلى السماح بتجديد أشكال الحكم وإصلاح الدستور كلما اقتضت الحاجة لذلك بدون اقتتال أو معارك طاحنة.
إن اكتمال العقد الاجتماعي لأسس الدولة اليمنية الحديثة بحاجة إلى إصلاح كلي يبدأ بمعالجة ظاهرة الفقر والحد منها من منطلق أن الناخب الجائع لا يمتلك قرار الاختيار الصائب ولا يستطيع التمييز بين البرامج ، كذلك الإنسان غير الواعي صاحب الثقافة المحدودة من السهل خداعه والتأثير عليه ، كل هذه المؤشرات الهامة تجعل الإصلاح عملية مشروعة لا بد أن تكون عملية كاملة تتحرك روافده بشكل متواز يستند إلى تفكير عقلاني يساعد على تعميق قيم المساواة والتسامح ويضمن عدالة التوزيع ويعمق الانتماء الصادق للوطن ، هذا في الجانب السياسي في الحلقة القادمة نتحدث عن الفساد في الجانب الاجتماعي إن شاء الله..

قد يعجبك ايضا