العبقرية القيادية المحمدية

هناك إجماعٌ بين المُفكِّرين والفلاسفة وخبراءِ التاريخ على أن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تميّز وتفوّق بصفاته ومؤهلاته القيادية بالشكل الذي أثار دهشة المراقبين

تتفق أدبيات الإسلام وفلسفات المفكرين والمنظِّرين على أهمية وضرورة صفات معينة في القائد الناجح والفعال، ومن تلك الصفات والمؤهلات الشعورُ بأهمية الرسالة التي يتحرّكُ القائدُ من أجلها، والثقة بالقدرة على العمل، والذهنية الفذّة والخصبة التي تزوِّد صاحبها بخياراتٍ متعددة، ومنها الشخصية القوية، والإخلاص، والنضج الواعي، والقدرة الإدارية، والطاقة والنشاط، والحزم والتضحية ومهارات الاتصال والتخاطب.
ولا شك أن رسول الله كان له منها القدح المعلى، والقلم الأعلى؛ فقد تميز محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمؤهلات خِلْقية وأخلاقية عظيمة أهّلته لأن يكون أزكى البشر عقلا وقلبا وعملا وأفضلهم نتيجة وجزاء، وهيأ الله له أن يكوِّن أمة قوية من اللاأمة، وأن يجمع شتات القبائل المتناحرة في كيان واحدٍ قضى على امبراطوريات ذلك العالم، وتحرَّكتْ ثقافتُه وحضارتُه المتنوِّعة وقوته الذاتية التي حافظت على روحِ الإسلام عبر القرون، رغم تلقِّيها ضرباتٍ خطيرة وقاتلة من سلطة الملك الغشوم التي تسلَّلَتْ إلى موقعِ السلطة فيه.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النموذج الحي والواقعي لمميزات القائد الناجح والعبقري؛ حيث كان (قرآنا يتحرك) على حد قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهذه بعض العناصر التي ستركز عليها المقالة مما تميّز بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قيادته العبقرية للأمة ..
حمود عبدالله الأهنومي

رؤية استراتيجية وخطط فعالة
كان صلى الله عليه وآله وسلم ينطلق في حركته النبوية الرسالية عبر رؤية استراتيجية قضت بتقسيمِ مراحلِ الدعوة في مكة إلى قسمين سرية وجهرية، ومرحلتي مكة والمدينة، والتحرك داخل الحجاز وخارجه في الجزيرة العربية، ثم التحرُّك خارجَها ومخاطبة زعماء العالم، وعملية الهجرة التي أعقبت إحداثَ عمليةِ بناء الأمة، وكيان دولتها العادلة على الواقع العملي، ومن يتأمَّلْ حركةَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المُتصاعدة يجدها حركة منطقية مترتبة تعمل على تطوير الذات، وتطوير المحيط، ومواكبة التغيرات، ويُدْرِك أن واضعَ هذه الخطة الاستراتيجية كان عبقريا فذًّا في التخطيط، وذا عقلية خصبة مكّنته من صناعة الأحداث التاريخية على النحو الذي يريده، وهذه هي البطولة التاريخية للقائد.
ما يجب أن نعرفه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتحرك عفوا وارتجالا؛ بل كل تحركاته وخطواته تَعْكِسُ تخطيطَه ورؤاه المُستمِرَّة، وكان قبل ذلك يجمع المعلومات ويبحث عن المكان والزمان والعنصر البشري وثقافته وطبيعة تحركاته؛ لكي تأتي خططُه منسجمة مع ما يريده، ومراعية لهذه المعلومات والإمكانات، فحين أرسل المسلمين إلى الحبشة كان يعلم أن هناك مَلِكًا لا يُظْلَم عنده أحد، وحين قرَّر الهجرة من مكة إلى المدينة كان قد أعد مخطَّطا كاملا لها، بما فيه الطريق التي سلكها، وقد رأى أن البيئة المدنية أصبحت مواتية لخططه، ومكانا طبيعيا لها، وحين كان يرسل الدعاة كان يضع لهم المخططات الفعلية التي عليهم أن يسلكوها، وهذا كان واضحا في وصيِّته لمُعاذ بن جبل حين أرسله واليا على (الجنَد) في اليمن، وكان يطلبُ منهم رفعَ التقارير عن نتائج عملهم؛ فهذا أمير المؤمنين علي عليه السلام لما وصل أيضا إلى اليمن ودعا همدان إلى الإسلام ونفذ تعليمات رسول الله فيهم، فأسلمت همدان في يوم واحد، أرسل الإمامُ علي تقريرَه عن نتائج مهمته بإسلام همدان في يوم واحد؛ الأمر الذي حدا برسول الله أن يسجد لله شكرا، ثم يقول: (السلام على همدان)، ثلاثا.
وفي ما يتعلق بخططه العسكرية فقد كان يسبق أعداءه إلى المعارك ليبحث طبوغرافيتها، ويختار المكان المناسب والجيد ويوظفه في صالح انتصار المسلمين، ويستخدم أسلوب المفاجآت لإرباك العدو، وإشغال العدو بنفسه، واختيار الزمان والمكان المناسب والقيادة المناسبة؛ كما يتبين من اختياره المكان في معركة بدر، وكان يختار مكان مركز القيادة بدقة، بحيث من خلاله يتمكن من إدارة جيشه بكل يسر وسهولة، وما تجلَّى من تخطيط بديع في أُحُد وفي الأحزاب وفي كل المعارك التي قادها بنفسه أو كلف آخرين بها فهو يشير إلى حُنكته الحربية وقدرته الهائلة على استغلال الظروف والبيئة لصالح مشروعه العادل.
لقد كانت لديه رؤية استشرافية دقيقة حول الأمور ومستجداتها وتطوراتها، وكان قائدا عظيما يستحضر إمكاناته وكيفية وضعها في متناول تحرُّكه المثمر، وكيفية استخدامها بالشكل الذي يعطي النتائج الأفضل، لقد كان خبيرا بتجنيد كل قوة في يديه، قوة الرأي، وقوة اللسان، وقوة النفوذ، وقوة الحجة، وقوة الموقف، وقوة الحق.
صراع الأدمغة
تعدَّدتْ طبيعةُ مهمةِ الرسول الكريم القيادية، وتبدو مؤهلاته في ما يتعلق بهذا للوهلة الأولى كأنها متناقِضة؛ فهي تهدي العقول، وتهذب الطباع، وتنشر الرحمة وتبشر بها من جانب، لكنها قوية تواجه الإنسان المنحرف الذي تمرد على العقل والمنطق، وتباغت القوى التي تكيد للإسلام بكل قوة وجهوزية من جانب آخر، لقد كان الرسول عبقريا في القيادة الروحية مثلما كان عبقريا في القيادة التشريعية، والقيادة العسكرية والقيادة الاقتصادية والقيادة الاجتماعية والقيادة السياسية الداخلية والخارجية، لقد كان سلطانا على العقول والقلوب مثلما كان سلطانا على الجوارح والأعمال.
في مكة يوم كان الرسول وحيدا يدعو إلى دين الله ويواجه العالم بمفرده، كان يتحرك بفعاليةٍ ناجحة وبجرأةٍ كبيرة وبتحدٍّ عظيم، وحين كانت تضع قريش كل إمكاناتها في مواجهته والضغط عليه لم يقدروا على أن ينالوا منه تنازلا واحداً عن مبادئه وأسسه، صحيح أنه كان يضحي ببعض الأهداف التكتيكية؛ لكن كان ذلك من أجل الحصول على هدف استراتيجي أكبر؛ ولهذا أعيى خصومه عن القيام بشيء يوقفه عن تحركه.
وفي غار ثور اثناء الهجرة كان يصارع أدمغة قريش التي أعلنت عن جائزة ثمينة لمن يقبض عليه حيا أو ميتا، وهو لا يزال في محيطها، وكان صراع الأدمغة حاضرا بقوة في كثير من محطات حركة الرسول في الصراع مع الصلف القرشي، وفي مواجهة كل أنواع القيادات والقوى العالمية التي تناصبه العداء، وكان في كل مرة يهزمهم هزيمة مؤلمة.
عزم الرسل
تميز صلى الله عليه وآله وسلم بصفة قيادية عظيمة هي العزيمة والثبات، كان يثبت على موقفه الحق والعادل، حيث النبوة والرسالة لا يقبل الحقُّ فيها أنصافَ الحلول، ولا شطور الأعمال، وحين تحيط به الأزمات، وتُحدِق به المؤامرات يثبُتُ لها ثباتَ الرواسي، ويديرها إدارة حكيمة وهادئة برويةٍ وفكرٍ وتأنٍّ، لا يعجَل ولا يتأخَّر، كلُّ حركةٍ ففي وقتها، وكلُّ قرارٍ ففي حينه، ولما ضغطت قريشٌ على عمِّه وناصرِه أبي طالب عن التوقُّف عن عيبِ آلهتِهم وانتقاصِها أعلنها مدوِّية قويةً: (والله يا عم لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلَكَ دونه)، ولما تحزّب الأحزاب من اليهود والكفار وأهل الأهواء يريدون استئصالَ الإسلام في المدينة والقضاء على أهلها قابل ذلك بثباتِ موقفٍ ونفاذِ بصيرةٍ وتحركٍ جادٍّ وهادئٍ، وكان عاقبةُ ذلك حفرَ الخندق والعملَ على تخذيل جبهة العدو وإنشاء العداوة في ما بينها، والإرادة الصلبة، والهمة العالية، والعزيمة القوية، هي الدوافع الرئيسة للعمل حتى تحقيق الأهداف، فالقائد الذي لا يملك هذه الأمور لا ولن ينجح في حياته، ولن يُحقِّق من أهدافه شيئاً.
القدرة على امتصاص الضربات
فكلَّما كاده الأعداءُ بشيء عظيم يريدون إسكاته، أو شلّ حركته من خلاله، ظهر من خلفهم منتصرا، وأظهر أنه أكثرُ جدية من ذي قبل، رجمه أهل الطائف حين دعاهم إلى دين الله حتى أدموه، فاستند إلى عرضِ حائطٍ يرد عن نفسه غائلة أحجارِ غلمانِهم وسفهائهم، ثم ناجى ربه بالمغفرة والهداية، وكأن شيئا لم يَحدُث، وحين خاض المنافقون في حديث الإفك الذي يستهدف عِرضه وشرفه تغلب على هذه الشائعة وانتصر عليها ليخرج منها أكثر براءة وطهارة وتألقا.
الصبر
وحديث الصبر طويلٌ في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، صبر على العبادة لله، وصبر على أعباء الدعوة، وصبر على ثقلها، وصبر على مكابدة الأعداء، وصبر على انتظار النتائج حُلوِها ومُرِّها، وصبر على إيذاء الأعداء والمنافقين، وصبر على نزاعات الصحابة واختلافاتهم، وصبر على تهذيب الأعراب وتعليمهم، لقد كان واسع الصدر حليما كريما، قادرا على تحمُّل ما لا يتحمَّله غيرُه، والصبرُ صفةٌ محمودةٌ ومطلوبة وأساسية في القادة العظام، فآفة أعمالهم العجلة والخِفة والحُمق والطَّيش، لكن الصبرَ في الرسول الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان في مكانة عظيمة، وكان في موقع العمل، والمصابرة، وهناك محطَّاتٌ وقصصٌ تُبرْهِنُ عظيمَ صبرِه صلى الله عليه وآله وسلم وكبيرَ تحمُّلِه.
الشعور بالمسؤولية
لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بالمسؤولية العظيمة التي كلَّفه الله بها، بل كاد أن يَبْخَع نفسه أسفا إن لم يؤمن الكفار بالدين، وحرصا على هدايتهم، وسلوكهم السبيل المرضي لله، ليس هذا الشعور شعورا مترفا يمكن الاستغناء عنه، بل كان واقعيا وذا مسؤولية عظيمة، بحجم العالم والأمة كلها، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشعر أيضا أنه قادر على تحمُّل تلك المسؤولية، وظل يطلب من كل مكلف في أمته أن يتحمل مسؤوليته كما ينبغي، واعتبرها أمانة على الإنسان وعليه أن يقوم بها بجدارة.
الصادق الأمين
وقلّ أن يكونَ هناك قائدٌ في البشرية لا تضطرُّه أحوالُ أوليائه وأعدائه إلى ارتكاب الكذب، لكن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان وظل (الصادق الأمين) منذ صغره، وإلى بعثته، وحتى مماته، فلم يجرَّب عليه كذبة واحدة، ولم تستجب نفسه الصادقة لضرورات الحاجة إلى قولٍ مكذوب أبدا، وهنا العظمة تتجلى في أجمل عناوينها وفي أفضل صفاتها، حين يتربّع قائد على عرش أمة تصارع الأمم الأخرى، وتتناقض علاقاتها في ما بينها، ولا يُسَجِّلُ عليه التاريخُ كذبةً واحدة، بل نراه يحثُّ على الصدق ولو ظهر ضارا، ويحث على الأمانة وإنكار قول الزور، ولا يعني هذا أن يقول الإنسان الصدقَ الضارَّ من غيرِ ضرورةٍ تُلجئُه فهذا شأنٌ آخر ينتمي إلى باب الحُنكة والاستنباط.
متواضع
وطالما أكسب القائدَ موقعُه الأبهةَ والعظمة فتخفَّفت نفسُه من قيم التواضع والبساطة، وراق لها أن تحتجب عن البسطاء، وأن تقلل من الاختلاط بهم، لكن قائدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان القائد العظيم الذي تهابه قاداتُ الأرض وتخافُ منه ملوكُها وأمراؤها؛ ومع ذلك كان يقف مع المساكين، ويتفقّد الفقراء، ويعيش عيشتهم، ويأكل أكلهم، ثم يدعو الله تعالى: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين). لقد كان متواضعا إلى حدٍّ مثير للعجب، فحين ارتعدت امرأة وهي تكلمه هوَّن خوفها، قائلا لها: (هوِّني عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة).
ماهر الإصغاء
وكان تواضعُه خلُقا أصيلا متمكِّنا في نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من لوازمه مهارة الإصغاء والاستماع للآخرين، حتى ولو كان أحدهم ممن يعاديه ويُؤلِّب عليه، فهذا عتبة بن ربيعة، جاء يفاوضه، وقال له: “ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، حتى لقد طار أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً”، فاستمع إلى عروضه، وإلى أسئلته، فلما أتم عتبة كلامه قال له: (أفرغت يا أبا الوليد)، قال: نعم، فلم يردّ على عروضِه، بل تلا عليه صدراً من سورة: (فصِّلت)؛ وهذا من باب إظهار التمسك العظيم بالموقف، بالشكل الذي يُحبِط العدو ويهزمه في دواخل نفسه.
قائد روحي
ولأنه القائدُ الإلهي المرسل رحمة للعالمين فلم يكن سلطانا على الدنيا، وعبقريا في الإدارة والسياسة والحرب بل كان سلطانا على العقول قبل أن يكون سلطانا بالحرب، وكان سلطانا على العاطفة والوجدان قبل أن يكون سلطانا بالقوة والمال، وكانت تأثيراته الروحية والإيمانية أقوى سبيلا وأشد وطئا من تأثيراته العسكرية أو الاقتصادية، وفي كلِّ ذلك يتحرّكُ في منظومةٍ واحدة وبخياراتٍ مُتعدِّدة، تضمنُ له تحقيقَ الأهدافِ بأيِّ خيارٍ منها، لقد كان سلطان المهابة والجلال والاحترام والكفاءة والمهابة، لقد كان سلطان الرحمة قبل أن يكون سلطان العدل؛ فلا يذهب إلى العقوبة إلا حين تنغلق أبوابُ الرحمة، وحين يكون ترك العقوبة عاملا في نفي الرحمة.
قائد يصنع القادة
وإذا كلّف أحدا من أصحابه لعملٍ ما فإنه يُكلِّفُه بتلك المهمة في الوقت الذي يدرِّبه بها ليكون قائدا من قادة الإسلام، فتخرّج ذلك الرعيل العظيم من القادة العظماء من أهل بيته وأصحابه، وكان يوزِّع المسؤوليات والمهام في ما بينهم، فيختار بعضهم للقيادة العامة، وبعضهم للصلاة بالناس، وبعضهم للدعوة، وبعضهم للقضاء، وبعضهم للحكم والسياسة، وبعضهم لحفظ سره، ولحفظ أسماء المنافقين، وقد يكلف بعضا منهم لبعض تلك الأعمال أو كلها، هذه هي المدرسة النبوية التي تخرج منها القادة العظماء.
عبقريته الإدارية
تجلَّت عبقريتُه الإدارية صلى الله عليه وآله وسلم في إنشائه وحثه على الإدارة الفعالة التي تَعْرِف النظامَ، وتعرف التبعات، وتعرف الاختصاص بالعمل، وظلَّ يُعلّم أمته الإدارة وأهمية الانتظام تحت الرئاسة، فدعا الاثنين المسافرَين إلى تأمير أحدهما، وكان حريصا على إقرار التبعات على من فعلها، يُوضِّح المهمات، ويعطي الصلاحيات، ونجح في الإدارة العليا بتدبير الشؤون العامة لا سيما حين تصطدم بالأهواء والنزاعات الداخلية، والتي كانت قريبة عهد بالجاهلية المُثخنة بالعصبيات، والمعمَّقَة جروحُها بالثأرات.
وهو في كل ذلك لا يكتفي بإدارة الشؤون والأمور، بل أيضا بإدارة المشاعر وتوجيه الشعور نحو ما يجب وما ينبغي، ومع كل ذلك كان يتحرك بالنفوس والقلوب نحو التربية المطلوبة، والغاية السامية.
عبقريته العسكرية
وفي قيادته العسكرية تجلت عبقريته متميزا على كثيرٍ من القادة بإصابته في وضع الخطط الناجحة، واختيار الوقت المناسب، وتسيير الجيوش، وإصابة الحساب، وكان إذا علم أن عدوا يريد مهاجمته بادر إلى القضاء على قوته تلك حتى ولو كان في حالة غير مواتية مثلما حدث في تبوك حيث كانت الإمكانات المادية للمسلمين ضعيفة جدا، وكان أعداؤهم الرومان دولة عظمى، وفي كل ذلك كان يعتمد على القوة المعنوية والدافعية الروحية أكثر من سواها، ووظفها توظيفا بالغا، وخرج الأسود من أصحابه يزأرون بسلاح اليقين، وينطلقون بعِدَّة الإيمان وذخيرة التقوى والجهاد.
وبهذا الخصوص .. في الحرب العالمية الثانية كان الجيش الإيطالي مُسلّحا تسليحا قويا، وحديثا، وكان عديدهم كثيرا، ولكنهم كانوا بلا روحية معنوية، فكانوا يُشكِّلون عِبئا على حلفائهم الألمان، وكانت جيوش الحلفاء (بريطانيا وفرنسا ومن إليهم) يعتَبِرون مواقعَ تمركز الجيش الإيطالي فارغة، ولا يعتدُّون بوجودهم، وقد كان نابليون وهو أحد أشهر القادة العسكريين في التاريخ الحديث، يرى أن القوة المعنوية بالنسبة للكثرة العددية تكون بنسبة 1 إلى 3، ولكننا وجدنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يقاتل جيش المشركين بجيشٍ يقل عدده عن جيش المشركين بأربع مرات، وكان ينتصر عليهم، وهذا دليل على تفوق الجانب المعنوي في جيش الرسول على جيش المشركين، بل إن القرآن أوجب على المسلمين في بداية الأمر أن يصبِر كل واحد منهم لعشرة من المشركين، ثم خفف الله عنهم إلى أن يصبر كل مقاتل لاثنين من الأعداء.
ومن عبقريته أنه كان يستهدف مراكز العدو الاقتصادية التي يستمد منها قوته وبقاءه وتمويله، وهو ما يسمى الآن بقانون المصادرة في القانون الدولي، من غير أن تطال هذه المصادرة مظلوما أو مَن لا علاقة له بالحرب، وتميَّزتْ قيادتُه العسكرية بقدرته الفذة على معرفة أعداد الأعداء، ولم يحدث أن أخطأت تقديراتُه عن العدو يوما، مثلما وقع فيه قادة الحروب في العصر الحديث، وكان إذا أراد مهاجمة عدوٍّ ورّى عنه بغيره.
ومع تلك الانتصارات والقيادة الفذة له صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يلتزم قيم الصدق والأمانة والرحمة والمبدئية العادلة الواعية، تغلِب عليه الرسالية الرحموية على العسكرية الصارمة، ويلتزم المبادئ حتى ولو أضرَّتْ به، فقد رفض صلى الله عليه وآله وسلم أخْذَ الخُمُس من سرية عبدالله بن جحش حين هاجمت قافلةٌ لقريش في اليوم الأخير من الشهر الحرام، وكان يكتفي من الحرب بما كان ضرورةً منها، مع قلهِ هيبةٍ لها، وعدمِ اكتراثٍ من مواجهتها، فقد كان القائد الذي يَحمي أفرادَه حين يحمى الوطيس كما أخبر عنه الشجاع البطل الإمام علي عليه السلام، وهكذا “تجمعت فيه أطيب صفات الحنان وأكرم صفات البسالة والإقدام”.
عبقريته السياسية
لقد كان يُحقِّقُ الانتصارَ السياسيَّ بأقلِّ كُلفةٍ وجُهد ومالٍ؛ وذلك لمؤهِّلاته وخِبراتِه وحسن تخطيطه ودقة استشرافه لتطورات الأحداث ومتغيراتها، لقد بدا لبعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غُبِن في صلح الحديبية وأنه تنازل عن أشياء كثيرة، ولا سيما في النص القائل: (ومن عاد من محمد إلى قريش فليس عليهم أن يردوه، ومن أتى محمدا من قريش بغير إذنِ وليِّه أعاده إليهم)، وحينها عاد مفاوِضُ قريشٍ سهيل بن عمرو منتفشا بالانتصار الشكلي؛ لكنه سرعان ما اصطدم القرشيون بهذا النص الذي خلق لاعبين جُدُدًا مُتمرِّدين على هذه المعادلة التي أرادت قريش إقرارَها لصالحها، لقد استطاع رسول الله ص بذلك توظيف نتائج عمل هؤلاء اللاعبين الجدد لصالح انتصارٍ واقعيٍّ حقيقي.
خرج كثير من أبناء القرشيين الذين أسلموا من مكة ليُشّكِّلوا مجموعاتِ ضغط على قوافل قريش وطرقها، وظهر الرسول خلوا من أي مسؤولية عليهم، وإذا بقريشٍ تأتي لتستجديَ الرسول محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وتطلب تنازلها عن هذا النص، وأن يضم هذه المجموعات المُتمرِّدة، وحين أدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابُه عُمرةَ القضاء في العام القابل، انتصروا انتصارًا سياسيًّا قويا، وأصبح المسلمون يحققون الانتصارات الاستراتيجية ليس من باب الحرب فقط، ولكن أيضا من باب السياسة والمفاوضات، فقد أصبحوا منذئذ قوة لا يستهان بها في الجزيرة العربية اضطرت للاعتراف بها قريش الجاهلية؛ وفي عمرة القضاء لما كانوا يطوفون حول البيت أوصلوا رسائل دينية وسياسية ونفسية استطاعت أن تزلزل كبرياء القرشيين ولا سيما حين كانوا يرددون: (لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)؛ الأمر الذي أفسحَ المجالَ للمسلمين في التحرُّكِ جنوبَ وشمالَ الجزيرة العربية، وآتت نتائجَ سياسية ودعوية وعسكرية مهمة على أصعدة مختلفة، وأحس المستضعفون أن بإمكانهم الدخول في الإسلام بدون خوف.
إن هذه ليست سوى سطورٍ ضئيلةٍ في سِفْرِ الرسول (ص) الوضَّاء والكبيرِ والعظيم؛ وما أشد حاجة الأمة إلى اقتفاء أثره، وطرقه، ومناهجه، وأساليبه، وسيره، وسننه، فإن فيه الخير الكثير، والهدى العظيم، ليس هناك من مناص لتجاوز الجاهلية الأخرى، إلا بذات الهمة والأخلاق والقيم والمبادئ والسير والهدى الذي تحرك بها صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على تلك الجاهلية الأولى..

قد يعجبك ايضا