المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية في كتاب “فكرة الثقافة”

خليل المعلمي

يمثل كتاب “فكرة الثقافة” بشكل مجمل سيرة حياة الثقافة كمبحث وكموضوع للبحث العلمي ورؤية ومصطلح على مدى ثلاثة قرون سجل حياة الثقافة وما اشتملت عليه من صراعات وتناقضات وتوافقات وتحولات حتى مطلع القرن الواحد والعشرين.
ويعرض الكاتب تيري ايجلتون في هذا الكتاب المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية لكلمة ثقافة ويقدم تحليلاً وشرحاً فكرياً عميقاً للنظريات الثقافية في ارتباط بالتيارات السياسية والاجتماعية في عصرها وحتى وقتنا الراهن، مما يساعدنا على صوغ رؤية لحركة التاريخ الاجتماعي الثقافي واحتمالات المستقبل ويحرص في عرضه على ان يكشف عن السياق التاريخي والفلسفي والسياسي ويصور المعاني والدلالات المتغيرة لفكرة الثقافة في ضوء مسح شامل للطرق المتعارضة المتقاطعة التي يمكن بحثها وتحديد واستخدام الفكرة لتفسير العالم والتفاعل معه وجدير بالذكر أن تيري ايجلتون آثر إهداء كتابه القيم إلى اسم مفكر عربي يتميز بطول باعه ورسوخ قدمه في الدراسات الثقافية ألا وهو ادوارد سعيد.
وقد اعتمد المؤلف على مصادر كثيرة جداً ونظريات ومباحث علمية متعددة ومتباينة بل ومتعارضة في تأليفه للكتاب.
روايات ورؤى
جاء الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان “روايات ورؤى” يوضح بداية أن كلمة ثقافة كلمة معقدة ويعرض أصل ومعنى وتاريخ الكلمة -أي المبحث الايتومولوجي لها- وبين أن كلمة الثقافة في دلالاتها السيمانطيقية تمثل نقلة تاريخية إنسانية خالصة من حياة الريف إلى حياة الحضر ولكن النقلة الدلالية تحمل في طياتها مفارقة إذ يقال إن سكان الحضر هم المثقفون بينما سكان الريف ليسوا كذلك .
ويضيف المؤلف إن ثمة علاقة جدلية نشطة بين الطبيعة والثقافة يتجلى فيها البعد التكويني الإنساني أو الفعالية الإنسانية ، الثقافة وليدة الطبيعة، وهب أداتها لتغيير ذاتها وإعادة تغييرها مجددا والطبيعة أداة فاعلة ولكن الثقافة – والتراث الإنساني أداتان فاعلتان والعمل الإنساني هو الذي يهيئ الفرصة للتأثير، ودون الطبيعة لا ثقافة، ودون الثقافة لا تغيير للطبيعة، والعمل الإنساني لحمة وسدى العلاقة الجدلية ويكشف جدل الثقافة والطبيعة عن رفض مزدوج، رفض للحتمية العضوية، ورفض للاستقلال الذاتي أو الإرادة الذاتية الحرة المطلقة.
ويمضي المؤلف في عرضه للآراء والتطبيقات المتباينة والمتناقضة للثقافة إذ يرى أن الثقافة في مبتدئها تعني تهذيب النفس وهو معنى يحمل وجهين إذ هنا توحي بانقسام داخل الذات بين كيان يشذب وآخر أشبه بمادة خام مهيأة للصقل والتشذيب وهاهنا تكون الثقافة انتصاراً على النفس بقدر ماهي تحقق للذات حيث يتحد الفعل النشط بالانفعالية.
الحضارة والثقافة
لقد تطابقت حيناً كلمتا الحضارة والثقافة خلال القرن الثامن عشر حيث تعني عملية عامة للتقدم الفكري والروحي والمادي ويشير ايجلتون في هذا الصدد ساخراً ويقول: أن يكون المرء متحضراً يعني من بين أمور أخرى ألا يبصق على السجادة وأيضاً ألا يقطع رأس أسير أو أن يعذبه.
ويوضح أن كلمة ثقافة كمرادف للحضارة تنتمي إلى روح عصر التنوير وعقيدته في التطور الذاتي العلماني المتقدم والمتطور مرحلياً وكانت كلمة حضارة إلى حد كبير كلمة فرنسية بمعنى التشذيب مع الازدهار الحضاري ولكن بينما اشتملت كلمة “الحضارة” الفرنسية على الحياة السياسية والاقتصادية والتقنية نجد كلمة “الثقافة” الألمانية لها مدلول ديني وفني وفكري.
ومع نهاية القرن التاسع عشر طرأ على الفكرة ثلاثة أحداث أولاً بدأت تخرج عن كونها مرادفاً “للحضارة” لتصبح النقيض وهذا حدث نادر في التحول الدلالي “السيمانطيقي” وهو تحول له دلالة تاريخية مهمة أضحت الحضارة ذات دلالة وصفية معيارية جزئية بمعنى أن تشخص في حياد صورة الحياة (حضارة الأنكا) أو أن تمتدح ضمناً إحدى صور الحياة الإنسانية مثل التنوير والتشذيب في حضارة الغرب.
مبدأ التنوع
وبقدر ما تبدو الحضارة في واقعها الفعلي أكثر اعتماداً على السلب والحط من أقدار الشعوب غير الأوروبية تكون الثقافة أكثر التزاما بموقف نقدي ونرى النقد الثقافي في حرب مع الحضارة وليس في تكامل معها ولهذا شهدت نهاية القرن التاسع عشر تشاؤماً ثقافياً ضد الحضارة ويتجلى هذا في كتابات العديد من المفكرين أمثال :شبنجلر” في كتابه “أفول الغرب” لم ترتد الثقافة إلى معناها السلفي التهذيب والكياسة بل أخذت بعداً اجتماعياً جديداً كانت الحضارة مجردة مغتربة، مجزأة ميكانيكية نفعية.
وأصبحت الثقافة ابتداءً من المثاليين الألمان فصاعدا تفترض شيئا من معناها الحديث عن أسلوب حياة متميز، ورأى “هردر” في هذا هجوماً واعياً ضد عالمية التنوير ويؤكد أن الثقافة لا تعني سرداً كلياً أحادي الخط عن الإنسانية العالمية بل تنوعاً في صور الحياة وربط “هردر” صراحة الصراع بين المعنيين لكلمة ثقافة بنزاع أوروبا والآخر المتمثل في مستعمراتها، وانبرى لمعارضة المحورية الأوروبية.
وتداخل مفهوم التعددية والتنوع مع مفهوم الهوية الذاتية والتهجين الثقافي وهنا يبرز ايجلتون نظرة إدوارد سعيد إذ يقول: “جميع الثقافات متداخلة في بعضها بعضاً لا ثقافة فريدة نقية، الكل هجين متغاير الخواص، متباين على نحو استثنائي ولا يمثل بنية متجانسة أحادية التكوين”.
تطور ثلاثي للثقافة
يشير المؤلف إلى أن الثقافة تطورت إلى ثلاثة أشكال مهمة في تاريخ تنوع دلالتها، الأول: الثقافة نقد مناهض للرأسمالية، والثاني: تضييق نطاق الكره مع إضفاء التعددية عليها للدلالة على أسلوب حياة في صورته الكلية الشاملة، أما الثالث: تخصصها التدريجي في الفن.
ويمثل الشكل الثالث في التنوع الدلالي للثقافة تخصصها في الفن ويلاحظ هنا أن الكلمة يمكن أن يضيق نطاقها أو يتسع بحيث يمكن للثقافة أن تتضمن نشاطاً فكرياً عاماً مثل التعلم والفلسفة والدراسة وما شابه ذلك ويمكن أن يضيق ليقتصر على الدراسات الموصوفة بأنها الإبداع أي الدراسات المعتمدة على الخيال مثل الموسيقى والرسم والأدب وهكذا يصبح المثقفون هم من نالوا حظا من الثقافة بهذا المعنى ويفيد هذا بأن القيم “المتحضرة” نجدها فقط في الخيال أو الفانتازيا وليس في العلم والفلسفة، ويعود هذا الفهم إلى سردية الحداثة وأثرها على الفنون.
نحو ثقافة مشتركة
يتخذ ايجلتون من مفهوم الثقافة عن “تي.اس.اليوت” محوراً لرؤيته التحليلية النقدية في الفصل الأخير الذي يحمل عنوان “نحو ثقافة مشتركة” أي جامعة بين ثقافة النخبة -العليا- وثقافة العامة ويرى أن “اليوت” خبير بالثقافة العليا واعٍ في الوقت نفسه للثقافة كأسلوب شعبي، وليس ثمة تناقض بين الحالتين على الرغم من ادعاءات النظرية بعد الحداثة.
وتعني الثقافة عند “اليوت” ما تعنيه عند الأنثروبولوجيين: أسلوب حياة عشيرة بذاتها ولكنه احياناً يرى أن الثقافة هي ما تجعل الحياة جديرة بأن يحياها الإنسان والثقافة عند “اليوت” هي الأسلوب الشامل للحياة، حياة عشيرة ما من المهد إلى اللحد، من الصباح إلى المساء، وحتى في الأحلام. وهنا نجد دوراً مهما للا شعور أو الخلفية اللا شعورية، كما يفيد هذا بأن الثقافة التي تشغل وعينا بالكامل ليست هي كل الثقافة، موضحاً الاختلافات بين آراء “اليوت وغيره من الفلاسفة أمثال “رايموند ولايمز” وغيره حيث يتبنى “اليوت” رؤية خاصة بشأن مشكلة الثقافة العليا.
أهمية الثقافة
ويؤكد الكاتب تيري ايجلتون أن الثقافة ليست فقط ما تعيش به إنها أيضاً وإلى حد كبير ما نحيي من أجله الوجدان، العلاقة، الذاكرة، القرابة، المكان، المجتمع المحلي، الإشباع العاطفي، البهجة الفكرية، الإحساس بمعنى أساسي وجوهري، فهذه أقرب إلى النفوس من مواثيق حقوق الإنسان أو المعاهدات التجارية، ومع هذا يمكن للثقافة أيضاً أن تكون وثيقة جداً بالرفاه وهذه الحميمية ذاتها مهددة بأن يتزايد طابعها المرضي والوسواسي ما لم يتم صوغها وتستقر ضمن سياق سياسي مستنير وحيث أن الثقافة اكتسبت لنفسها أهمية سياسية جديدة، إذن حان الوقت لأن نعيدها إلى سيرتها الأولى.

قد يعجبك ايضا