التكوين التاريخي لأحكام الوقف الفقهية (1)

ارتكز التكوين المعرفي للوقف على مفهوم الصدقة الجارية¡ إذ هي النواة المعرفية الصلبة لنظام الوقف كله¡ وربما كانت صفة (جريان الصدقة) هي التي دفعت العلماء لحملها على معنى الوقف¡ حيث إن غير الوقف من الصدقات ليس صدقة جارية(2).
وبانتهاء العهد النبوي بدأت مسيرة التكوين التاريخي للأحكام الفقهية الخاصة بالوقف¡ ثم بدأت تظهر -تدريجيا◌ٍ- جملة من المعارف والمهارات الأخرى¡ المهنية والإدارية¡ التي ارتبطت به¡ أو تراكمت حوله¡ وفي مقدمتها معرفة أصول صياغة حجج (أو كتب) الأوقاف وتوثيقها وحفظها¡ ووجدت المعرفة الفقهية الوقفية طريقها إلى التسجيل المكتوب منذ بداية عصر التدوين في القرن الثاني الهجري¡ فظهرت أبواب (الوقف) أو(الصدقة) -أول ما ظهرت- مدرجة في كتب الحديث النبوي¡ وفي كتب الفقه والفتاوى.. وسرعان ما ظهرت مؤلفات فقهية قائمة بذاتها في مسائل الأوقاف. كان أولها كتاب أحكام الوقف للإمام هلال بن يحيى البصري¡ المعروف بهلال الرأي (ت245هـ)¡ وتلاه كتاب أحكام الأوقاف للإمام أبي بكر الخصاف (ت261هـ) وذلك في منتصف القرن الثالث الهجري تقريبا◌ٍ(3).

ومنذ عصر التدوين صار فقه الوقف من الأبواب الثابتة في جميع كتب الفقه الإسلامي بجميع مذاهبه السنية والشيعية. التي انتشرت بدرجات متباينة في المجتمعات الإسلامية.. ونما هذا الباب وتكاثرت فيه الاجتهادات والاختلافات بين الأئمة والفقهاء¡ حتى شملت جميع مسائل الأوقاف¡ وتشابكت مع كثير من نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية.
ويلاحظ أن عملية التأسيس المذهبي لفقه الوقف. قد تزامنت مع حركة المد في الفتوحات الإسلامية¡ ودخول العديد من الأمم والشعوب في الإسلام¡ ومنها شعوب الأمة العربية¡ إذ لم ينته القرن الأول الهجري حتى كانت جميع البلدان العربية قد انضوت تحت لواء الخلافة الراشدة¡ ومن بعدها الدولة الأموية ثم العباسية¡ وانتقلت إلى هذه البلدان الأفكار والنظم الإسلامية ومنها نظام الوقف. وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذا النظام قد حظي بالقبول لدى أهل البلاد المفتوحة(4). وإن نطاق تطبيقه قد اتسع¡ ومن ثم اكتسب خصائص وظيفية اجتماعية متنوعة¡ وأظهرت الممارسة العملية له مشكلات عديدة¡ وتحديات مختلفة¡ فرضتها أوضاع ما بعد فتح تلك البلاد¡ واقتضتها طبائع أهلها وعاداتهم الاجتماعية¡ كما اقتضاها التقدم الحضاري والمدني الذي شهدته هذه البلاد بعد دخولها في الإسلام.
وبنظرة عامة على مسار التطور التاريخي المعرفي لفقه الوقف يتضح أنه قد تغذى من تعددية تلك المذاهب منذ تأسيسها¡ وزاد ثراؤه مع انتشارها -بدرجات مختلفة- في أرجاء المجتمع الإسلامي¡ كما أنه تغذى من التطورات العامة الاقتصادية والسياسية والحضارية التي مر بها هذا المجتمع على طول تاريخه¡ ويتضح أيضا◌ٍ أن حرية الاختيار من بين آراء واجتهادات علماء تلك المذاهب قد ظلت متاحة أمام فئات المجتمع وطبقاته (من الحكام والمحكومين) إلى أن أقدمت الدولة العثمانية على تبني المذهب الحنفي¡ وجعلت له وضعا◌ٍ خاصا◌ٍ باعتباره المذهب الرسمي للدولة وللولايات العربية التابعة لها¡ وأدى هذا الوضع إلى الحد – نسبيا◌ٍ – من تلك الحرية المذهبية.. ثم إن سلطات الدولة العربية القطرية في مرحلة ما بعد الاستعمار بصفة خاصة -في معظم الوطن العربي- قد اتجهت نحو تقنين أحكام الوقف عبر منهجية قامت على أساس التلفيق الفقهي وإدماج التعددية المذهبية في قانون موحد وملزم لمواطني كل قطر¡ وبدأ هذا الاتجاه في مصر بصدور قانون الوقف رقم48 لسنة1946م ثم انتشر تدريجيا◌ٍ في عدد مؤثر من البلدان العربية¡ وفي مقدمتها سوريا والأردن ولبنان والعراق خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي¡ ثم في السودان وليبيا والجزائر واليمن بعد ذلك.
هوامش:
(1) التكوين التاريخي لوظيفة الوقف¡ مصدر سابق: ص94.
(2) محاضرات في الوقف للأستاذ محمد أبو زهرة:ص9.
(3) إبراهيم البيومي غانم¡ الأوقاف والسياسة في مصر:ص46.
(4) المصدر نفسه:ص444-457.

قد يعجبك ايضا