ثورة 14أكتوبر الانتصار في زمن الانكسار

محمد ناجي أحمد

 

قٌدِّر لليمن تاريخياً أن تنهض من بين ركام هزائم المنطقة .فحين انهزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ،وتم تقسيم المنطقة وفقا لمنافع ومصالح الاستعمار البريطاني /الفرنسي-سقطت المنطقة العربية بعد تقسيمها إلى خرائط جيوسياسية ملتبسة الحدود بغرض إشعالها بين الفينة والأخرى،في اشتباك محكوم بالعقل البدوي ومطامعه المنطلقة من مقولة (البدوي وهاب نهاب)ينهب ثم يجود بما ينهب بعقلية استهلاكية لا تبني معماراً ولا حضارة،بل تظل دوماً في نزاع وجودي مع نهوض العمران ،وثبات استقرار الأمم.
حين سقطت المنطقة العربية بعبث موظفي بريطانيا ،الذين قرروا مصير المنطقة بشخبطاتهم على الجسد العربي ،بطريقة أدمت الأمة وأعاقت نهوضها بديمومة الصراعات البينية .
من هنا كان اليمن شطرين ،أحدهما نال الاستقلال حين هزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ،فكان استقلال اليمن في نوفمبر 1918م.ولتبدأ محاولات المملكة المتوكلية ومطالباتها باستعادة الجنوب المحتل ،بطرح القضية في عصبة الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية،وبدعم للتمردات القبلية التي كانت تتفجر بين الحين والآخر.
ومن اتفاقيات الحماية والاستشارة ظلت بريطانيا تسيطر على جنوب اليمن مقابل رواتب شهرية ،واستضافات رسمية في عدن لسلاطين ومشايخ الجنوب.
شاءت الأقدار أن تكون ثورة 26سبتمبر 1962م ردا عروبيا على نجاح المخطط الإسرائيلي /السعودي في فصل وحدة سوريا ومصر ،والتي تحققت وحدتها عام 1958م وتم الانفصال في عام 1961م.
وكان التاريخ المقاوم مرة أخرى في اليمن ،حين أصيبت الأمة العربية بنكسة 5 يونيو 1967م- كان الرد من اليمن بطرد آخر جندي بريطاني من عدن في 30نوفمبر1967م،فكأن اليمن بنهوضها الثوري هي البلسم الذي يطبب جراح الهزيمة في المنطقة العربية.
مع منتصف خمسينيات القرن العشرين بدأ النضال السلمي ضد الاستعمار البريطاني في عدن ،باختلاط النضال المطلبي الحقوقي بالنضال السياسي ،فكان المؤتمر العمالي هو الواجهة المطلبية والحقوقية للعمال ،وكان حزب الشعب الاشتراكي هو واجهتهم السياسية للمطالبة والصراع السلمي لدحر بريطانيا من الجنوب.
ومع عودة الأبطال الذين قدموا من محافظات الجنوب اليمني ،ومن قمم جبال ردفان ،للدفاع عن ثورة 26سبتمبر 1962م –أرادت بريطانيا أن تكسر في نفوس العائدين روح الثورة ،بكسر وإذلال كرامتهم ،وذلك بمطالبتهم بتسليم أسلحتهم ودفع غرامات مالية بسبب مشاركتهم في الدفاع عن الثورة اليمنية الأم ،ثورة 26سبتمبر.فكان رفض نسور ردفان تسليم أسلحتهم ،ودفع الغرامات المالية ،ثم كانت المقاومة ،واستشهاد بطل ومفجر ثورة 14 أكتوبر الشهيد راجح لبوزة وعدد من رفاقه.
من هنا كانت شرارة التحول الثوري من النضال السلمي إلى النضال المسلح ،فقد ظلت الأيدي والأصابع على الزناد حتى خروج آخر جندي بريطاني من عدن.
انطلقت شرارة الثورة من أعالي جبال ردفان ،في شموخ الإرادة الثورية الموازية لقمم الجبال اليمنية العصية على الخنوع والتركيع والتطويع.
بدأت الجبهة القومية في نضالها المسلح بتبني المقاومة التي تفجرت في جبال ردفان ،والتأسيس للثورة من دماء راجح لبوزة ورفقائه،الذين عمدوا طريق الثورة بدمائهم الزكية.
كانت الجبهة القومية تجمعا جبهويا للفدائيين والطلائع التي اختارت الكفاح المسلح ،وحين خرج بعض مؤسسي الجبهة القومية واستقلوا بنضالهم مثل الشيخ عبد الله المجعلي ،فكان تأسيس التنظيم الشعبي الذي ضم العديد من الفرق الفدائية ،ثم لحقهم بالكفاح المسلح حزب الشعب بمنظمة التحرير.
وكانت فكرة ضم الجبهتين الذي تم في يناير 1966م لكنه لم ينجح ،فالجبهة القومية قد اختارت طريق إدارة الجنوب اليمني كدولة مستقلة ،يصهر الشعب كله باعتباره جبهة قومية .ويوجهه وفق رؤيته للتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي ،دون شراكة ،وإنما بتنظيم سياسي يوحد الفصائل المتماثلة في خطابها وموقفها الاجتماعي والسياسي.وصولا إلى ضم جميع الفصائل اليسارية في الحزب الاشتراكي اليمني ،كطليعة للعمل الثوري.
انطلق الكفاح المسلح في الجنوب اليمني بعمل طوعي من حيث التسليح والتمويل والتنظيم ،مع دعم والتحام نضالي قدمته مصر العروبة للثورة اليمنية 26سبتمبر و14أكتوبر.
ومن الريف اليمني في جنوب الوطن كانت جذوة الكفاح المسلح ،الذي حقق انتصار ثورة 14أكتوبر بالتضحيات العديدة ،فلم تتوقف بندقية الكفاح المسلح إلَّا بعد إنجاز الاستقلال الكامل ،وطرد الاستعمار من الجنوب اليمني ،ليبدأ اليمنيون نضالهم الوحدوي ،منطلقين من وحدة النضال في الثورة اليمنية التي أنجزت وعدها الثوري في الشمال ،لتكتمل مسيرة الثورة في الجنوب،وصولا إلى ذروة العمل الوحدوي الذي تحقق بالتوقيع على اتفاقية الوحدة في 30نوفمبر 1989م، لتتجسد اللحمة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م، تتويجا لوحدة السيادة والإرادة والاستقلال، في يمن التاريخ والحضارة، والنهوض الذي ظل يتعثر بفعل عدم إنجاز الوحدة اليمنية في مشروعها الثقافي والاقتصادي ،كجناحين تحلق اليمن بهما في سموات العُلا وأفق العروبة الوحدوي الضامن للاستقلال الكامل والسيادة الوحدوية والمشروع الحضاري العربي.

قد يعجبك ايضا