ثورة 14 أكتوبر

ذاكرة أمة وجغرافيا وحدوية خالدة

 

 

نشأت الحركة الوطنية في الجنوب اليمني من مواجهتها للاستعمار البريطاني الذي احتل اليمن منذ عام 1839م ، ولم يخرج منها سوى بالكفاح المسلح المنظم
قاد (المؤتمر العمالي ) الحركة الوطنية ضد المخططات الاستعمارية الرامية إلى تهنيد عدن وطمس الهوية اليمنية لها

“أنت موجود إذا رآك غيرك” ولن يراك الآخرون ما لم تحفر في ذاكرة التاريخ وتدون في جغرافيتها أنك الوحدوي المتماهي مع حقيقتك الوجودية .
«لقد قال سبنسر بوضوح إنه طوال حياتنا فإن الذاكرة لا تتوقف عن أن تدع أشياء تسقط، وتبني أشياء أخرى…فنحن نسترجع الذكريات التي يلذ لنا استرجاعها، ونحن نلقي إلى النسيان تلك التي تجرحنا، ونحن نحورها أولا بوعي ونصنع منها قصة أكثر جمالا وأكثر حيوية، وأكثر إثارة مما كانت عليه الأحداث الواقعية، والنجاح الذي تلقاه القصة المحورة يشجعنا على أن ننمقها، وشيئا فشيئا تصير هذه القصة هي مرجع ذكرياتنا وليست الأحداث التي جرت، وفي كثير من المرات يحل إبداع خيالنا محل الصور الأكثر شحوبا للواقع المختفي»ص102 – 103 فن التراجم والسير الذاتية –أندريه موروا –ترجمة أحمد درويش –المجلس الأعلى للثقافة 1999م.
محمد ناجي أحمد

كل ثورة تكتسب شرعيتها من أهدافها العامة المعلنة، وبرنامجها العملي، فإذا تحولت الثورة إلى مجرد شعارات وطموحات ولم تحقق شيئا من تلك الأهداف والأحلام فإنها تفقد شرعيتها وتترك مكانها لثورة أخرى تحل محلها، وهذا قانون اجتماعي ينطبق على كل الثورات. والثورات تبنى وتنطلق على أساس الوعي بأهداف الاستعمار، وجوهر سياسته في المنطقة، وهي السياسة التي سطرتها بريطانيا بشكل واضح، أي تفتيت الجزيرة العربية إلى دويلات ومشيخات صغيرة …
في «مذكرة سبق أن أرسلتها دائرة الشؤون الخارجية في حكومة الهند إلى وزارة شؤون الهند في لندن بتأييد من حكام عدن وبومباي وأماكن أخرى، وتقول هذه المذكرة :«ما نريده ليس شبه الجزيرة العربية موحدة، بل نريدها مقسمة وضعيفة، ممزقة إلى إمارات صغيرة خاضعة إلى أقصى ما يمكن لسيطرتنا –ولكنها عاجزة عن القيام بعمل منسق ضدنا، وتشكل حاجزا في وجه قوى الغرب»ص125-سلام ما بعده سلام-ولادة الشرق الأوسط -1914-1922-دافيد فرومكين –ترجمة :أسعد كامل إلياس ط3 – 2001م.
يقول الأستاذ علي سالم البيض في كلمة ألقاها في (الندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية 14 أكتوبر، والتي عقدت عام 1991م ثم عمل مركز الدراسات والبحوث اليمني على طبعها وإصدارها في كتاب طبع عام 1993م- «علينا أن نقول لهذا الجيل كيف قامت الثورة وكيف تحركت .تحركت عندما ارتبط أولئك الأوائل والرعيل الأول بالشعب .كانوا يعيشون معه، وكانوا قد جاءوا من بين صفوفه …وكانوا يعكسون آماله وطموحاته وآلامه أيضا .واليوم علينا أن نعيش بين صفوف الشعب لكي يكون مصدر إلهامنا في بناء اليمن، وأن لا تحصل هذه الفجوة بين من يتقدم التطور ومن يفكر في التطور، وبين صفوف الشعب عامة .فيمكن أن يقال للجيل هذا إن مناضلي سبتمبر وأكتوبر لم يكن لهم أحد يموِّلهم، ولم تكن معهم فلوس، ولم يكن لهم حتى جاه، أي أنهم لم ينطلقوا من جاههم وذاتهم وما لديهم من سند وإمكانيات وخزائن ووعود …وهم بأنفسهم قدموا أنفسهم. ويمكن في البداية كانت الأمور بشكل عفوي ولكن فيما بعد بدأت تنتظم في مسيرة الثورة ومسار التطور»ص12 – 13.
ويتحدث عن انتقال العمل النضالي العفوي إلى عمل منظم سبتمبري وأكتوبري «وهنا تأتي قيمة التنظيم في أخذ الفعاليات القصوى للعمل …وتأتي أهمية عملية التنظيم هنا لتحقيق كثير من الجهود وإعطاء فعالية أكبر وتأثير أقوى .عملية سبتمبر وأكتوبر أخذت هذا الطابع …هناك عملية تنظيمية رصت الصفوف وبحثت عن الإمكانيات من داخل الشعب اليمني، وأنا أذكر في تجربتنا –في ثورة أكتوبر- لم يكن لدينا شيء يذكر …نجمع تبرعات …نلتقط مسدس من هنا …نبحث بطريقة أو بأخرى عن وسيلة للنضال …وتجمعت الأشياء ولكن كان وراؤها إرادة …وراءها استعداد للتضحية والفداء من أجل الوطن .عندما يقتنع الإنسان بأنه يقدم أغلى شيء يستطيع إحضار الغالي ويستطيع أيضا أن يحقق شيئا، فكان لدى المناضلين هذا الاستعداد، أن يقدم ما عنده وأن يقدم حياته، وبالتالي كل الأمور تسهل …وهنا تتجلى المبدئية في السلوك»ص13-الندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية 14أكتوبر-إعداد وتوثيق مركز الدراسات والبحوث اليمني –صنعاء 1414هـ1993م.
كان للمنظمات والهيئات الشعبية ودورها الثقافي في عدن دور في نشر الوعي الوحدوي. فبحسب كتاب الدكتور علوي عبد الله طاهر (المنظمات والهيئات الشعبية اليمنية…1918 – 1967)فقد كان للمثقفين ومحاضراتهم التي ألقوها في (المنظمة المتحدة للشباب اليمني )التي تأسست في الشيخ عثمان عام 1959م، والذي كان تأسيسها كمكتب لمقاطعة إسرائيل، يتولى مراقبة دخول البضائع الإسرائيلية إلى عدن «ومن المثقفين الذين شاركوا في إلقاء محاضرات على الجمهور في مقر المنظمة، الواقع في مكتب مقاطعة إسرائيل، في قسم 9حارة الهاشمي في الشيخ عثمان، نذكر على سبيل المثال عبد الله عبد الرزاق باذيب وعلي محمد عبده …وغيرهما. فقد ألقى الأول محاضرة بعنوان (إضراب الطالبات الخالد )بتاريخ 6مايو 1962م .دار موضوعها حول إضراب طالبات كلية البنات بخور مكسر، احتجاجا على تعسف إحدى المدرسات الانجليزيات وهي (مسز بيثري)وما تبع ذلك من إجراءات تعسفية ضد الطالبات المضربات، وكانت من ضمنها محاكمة ست طالبات على تلك الإجراءات التعسفية «ص111-المنظمات والهيئات الشعبية …علوي عبد الله طاهر.جامعة عدن –دائرة التوجيه المعنوي -2009م.
لعبت عدن كميناء دورا رئيسا في تجارة المنطقة، وخاصة مع افتتاح قناة السويس، لكن هذا الازدهار «في نظر هوليداي لم يؤد إلى تطور الأراضي الداخلية الواقعة خلف عدن (المحميات)»ص173-ثورة الرابع عشر من أكتوبر في نظر الباحثين الغربيين-الأستاذ عبده علي عثمان-من كتاب (الندوة الوطنية التوثيقية )المنعقدة في صنعاء عام 1991م، والصادرة في كتاب عن مركز الدراسات والبحوث اليمني -1993م.
نشأت الحركة الوطنية في الجنوب اليمني من مواجهتها للاستعمار البريطاني الذي احتل اليمن منذ عام 1839م، ولم يخرج منها سوى بالكفاح المسلح المنظم، الذي استمر منذ 14أكتوبر 1963م إلى أن تم طرده من اليمن في 30نوفمبر 1967م .وقبل هذا التاريخ لم تخل الساحة اليمنية في الجنوب من حركات تمرد قبلي وشعبي يرفض وجود هذا الاستعمار في عدن والمحميات. وذلك منذ المواجهات الأولى بين سلطان لحج وابنه من جهة وقوات الكابتن هينس من جهة أخرى .
وكذلك استمرت التمردات الشعبية والقبلية في المحميات الشرقية والغربية تعبر عن رفضها للمستعمر البريطاني وأدواته منذ أربعينات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولكن دون أن تكون هذه التمردات فعلا ثوريا منظما ومحدد الأهداف، وإنما تمردات قبلية وشعبية تثور ضد ظلم تتعرض لها من الاستعمار وأدواته، فيقوم المستعمر وأدواته بمواجهة تلك الانتفاضات والتمردات بالقمع المفرط.
ومع نهاية الأربعينيات، وتحديدا عام 1949م بدأت عدن تتعرف على الفعل السياسي المنظم والمحدد الأهداف، فتأسست الجمعية الإسلامية على يد محامي باكستاني الأصل هو (محمد عبدالله) والشيخ محمد سالم البيحاني وعلي محمد باحميش وسالم الصافي وعبد الله صالح المحضار ومحمد علي الجفري. وقد حددت الجمعية الإسلامية أهدافها بـ:الاهتمام بتدريس اللغة العربية والمواد الدينية، والمطالبة بأن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية في المعاملات الحكومية بدلا عن الانجليزية، وتحقيق الإخاء بين المسلمين في العالم الإسلامي، وأن عدن والجنوب شأنا إسلاميا .فلم تكن القضايا الوطنية من اهتمامات هذه الجمعية ولا أولوياتها. ولم يطرحوا هدف التحرر من الاستعمار والوحدة اليمنية والعدالة الاجتماعية من أهدافهم. بل إن بعض مؤسسي هذه الجمعية كمحمد سالم البيحاني استخدمه الاستعمار في الفتوى ضد الكفاح المسلح والمظاهرات، وكان يطلع على الإذاعة في عدن ليعلن تسفيهه لهذه المظاهرات وبصقه عليها وحرمتها .
ثم تكونت (الجمعية العدنية )عام 1950م بشعار (عدن للعدنيين)أي لم يكن هدف الجمعية فصل عدن عن اليمن الشمالي فقط وإنما فصلها عن لحج كذلك، منادية بالحكم الذاتي، والارتباط بالكومونولث البريطاني .ومن (الجمعية العدنية )وكان عماد هذه الجمعية أبناء الأسر التجارية العدنية وكبار الموظفين .ومن أهدافها :احتكار الوظائف والأعمال للعدنيين، مع تأكيدهم استبعاد أبناء المحميات وأبناء شمال اليمن.
كان كل ما هو خارج دار سعد يعتبر أجنبياً، وفقا لمواقف ورؤية (الجمعية العدنية ) وأما بالنسبة لأبناء الشمال، وهو الذي يطلقون عليه اليمن، فقد كتب عبد الرحمن جرجرة في (فتاة الجزيرة) لسان حال الجمعية قائلا «ثلاثة أخاف منهم كالموت :السباحة في الشواطئ الملآنة بكل آفة، ومبرد طبيب الإسنان، وتقاطر المرض عن طريق باب السلب» الذي يمر منه الآتون من الشمال»ص150-نشأة الصحافة في اليمن-أ.عبد الباري طاهر-بحث نشر في كتاب (ندوة الثورة اليمنية) الصادر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني – صنعاء 2008م.
والعجيب أن صحيفة (فتاة الجزيرة ) فتحت صفحاتها لكل الأحرار اليمنيين الذين هربوا إلى عدن، فمع أول القادمين، الشيخ مطيع دماج، وعقيل عثمان، يتحدث صاحب (فتاة الجزيرة )محمد علي لقمان « في يوم 14مايو وصلت إلى عدن أولى طلائع رجال الإصلاح الهاربين من الإمام يحيى وحكومته، وكان على رأس هذه الطلائع الشيخ مطيع دماج .وعن يوم وصوله إلى عدن يحدثنا الأستاذ محمد علي لقمان قائلا: كان الوقت ظهرا حين طرق هذا القادم الكريم باب بيتي في (حافة حسين)لم أسمع به من قبل، ولم أكن أعرفه ولم يأتني بتوجيه من أحد أصدقائي.
قال لي :إنني أتيت لك لأقابلك .
فقلت له :أهلا وسهلا ومرحبا.
كان يلبس سترة بيضاء قصيرة وإزارا يمنيا قصيرا يصل إلى الركبتين، ويحمل على رأسه مشدة أهل شمال اليمن وحذاء من الجلد الذي يلبسه البدوي عادة، وكانت تبدو على سيمائه المتغضنة وعثاء السفر في الصحارى، ولكنه شديد الحماس، كثير الألم، وكانت كلماته عنيفة حزينة (نحن شعب مظلوم، مالنا حق ومالنا حرية )قالها وهو يكاد يبكي ويتمزق من شدة الغيض والألم، وبهرتني صراحة الشكوى .ويضيف لقمان قائلا:
لم أكن قد تعودت من أبناء اليمن مثل هذه الصراحة .كان كثيرون يشكون، وكانوا يكتبون تحت أسماء مستعارة وكان بعضهم يشكون من الحاكمين وهم يلتفتون حواليهم ولسان حالهم (للجدران آذان).
ويطلب منه لقمان أن يشرح نوع المظالم التي يشكو منها الشعب في الشمال .فيجيبه مطيع دماج قائلا» إن العدل في اليمن ظلم .ولهذا لا يستطيع اليمني أن يميز بينهما فقد تعود الظلم إلى درجة أنه لم يعد ينتظر غيره !صدقني ولاشك في قولي، فما أنا بخائن ولا أنا ذو غرض دفين، ولكنني ضقت بالحالة التي نعيشها كالسوائم )وطلب لقمان منه أن يكتب ما يحس به من ضيم وظلم وآلام بخط يده تحت اسمه الصريح، فكان ما طلب وظهرت له أول مقالة على صفحات (فتاة الجزيرة )تحت عنوان (آمال في الإصلاح في اليمن) ثم مقال (اطلبوا العلم )ص37 – 38المنظمات والهيئات الشعبية اليمنية ودورها في الحياة الثقافية ونشر الوعي الوحدوي -1918 1967الدكتور علوي عبد الله طاهر –جامعة عدن –دائرة التوجيه المعنوي -2009م.
كان محمد علي لقمان من البيوتات العدنية، وقد اشتغل بالتجارة وبالمحاماة، واتصاله بقضية اليمن في الشمال يعود إلى بداية عشرينيات القرن العشرين، حين أرسل إلى الحديدة لكتابة تقرير يصف فيه الحالة هناك، وقد التقى به الزرانيق هناك، وشيخهم الفتيني، يشكون إليه من مخاوفهم ورفضهم عودة الحديدة وميناءها إلى سلطة المملكة المتوكلية، فنصحهم بتقديم شكوى لعصبة الأمم، وحين عاد إلى عدن، بدأ بتقديم تقرير تفصيلي عن مهمته في الحديدة إلى والي مستعمرة عدن !
وعند تأسيس (حزب الأحرار) كان محمد علي لقمان من ضمن المؤسسين، وبعد حركة 17فبراير 1948م انتقل إلى تعز مع سيف الحق إبراهيم بن يحيى، وهناك التقوا بمحمد البدر، وبسبب الأمطار وعدم القدرة على الإقلاع بطائرة إلى صنعاء عادوا ومعهم البدر إلى عدن، وهناك استأجروا طائرة أثيوبية إلى صنعاء، قد عرض الإمام الهادي عبد الله الوزير على محمد علي لقمان تعيينه وزيرا، بل وإعادة أملاك عائلته في قاع لقمان إليه إذا قدم دعوى استعادة أملاكهم هناك، لكن لقمان كان قد شعر بزوال الحركة وأنها ستسقط لا محالة، فجمع متعلقاته وشنطة ثيابه، ليقلع مع أول طائرة تتوفر في مطار صنعاء، عائدا إلى عدن، تاركا السقوط الكبير لحركة 1948م خلفه!
والحقيقة أن العلاقة المتشابكة للانجليز ودوهم في حركة 1948م، خاصة وأن نشاط حركة المعارضة كان يتحرك من مصر وعدن وكلتيهما مستعمرتين بريطانيتين، يدعو إلى البحث أكثر في هذا الدور .
وفي عام 1954م حل حزب (المؤتمر الشعبي ) محل الجمعية العدنية، وحافظ على خطها السياسي .ولأن أفق الحزب ضيق بجغرافيته المناطقية المحددة بعدن فقد انقسم الحزب إلى : الحزب الوطني الاتحادي، الذي واكب التوجهات الاستعمارية بضرورة ربط عدن باتحاد فيدرالي يضم المحميات .ومن المؤتمر الشعبي جاء الحزب الدستوري الذي ظل امتدادا للجمعية العدنية في الدعوة إلى الحكم الذاتي لمستعمرة عدن، وربطها بالكومونولث البريطاني .
لقد كان هدف الحزب الوطني الاتحادي ضم عدن ومحمياتها في إطار اتحاد فيدرالي، على أن يكون لعدن وضعا مميزا، ومن مؤسسي هذا الحزب :حسين علي بيومي وعبد الرحمن جرجرة، وقد كانا ضمن من تولى مناصب وزارية في حكومة (اتحاد الجنوب العربي)ولأن الحزب الوطني ظل بقياداته محصورا بالأسر العدنية، ومرتبطا بالخط السياسي لبريطانيا، فقد نشأت (رابطة أبناء الجنوب العربي) ليعبر عن خط سياسي أوسع، يعبر عن عدن والمحميات، وكان تأسيس الرابطة عام 1951م، لتمثل مصالح الأرستقراطية الريفية من أغنياء وسلاطين، ولهذا تأسست الرابطة لتضم شخصيات من مختلف مناطق المحميات وعدن، فقد كانت الرابطة إطارا جبهويا، احتوى في البداية على شخصيات مثل عبدالله باذيب وقحطان الشعبي، ورئيسها محمد علي الجفري، وأمينها العام شيخان الحبشي، وبعض السلاطين .لكن الرابطة سرعان ما فقدت هذا التكوين الجبهوي بانسحاب العديد من أعضائها وقياداتها بسبب موقفها من انتخابات المجلس التشريعي، وإقرارها توجه الاستعمار في حرمان أبناء الشمال من دخول الانتخابات ترشيحا وانتخابا. فانسحب الوحدويون من الرابطة، لتبقى الرابطة إطارا سياسيا للجهويين.
ومن النقابات والأندية الرياضية والجمعيات والاتحاد اليمني الرافضين للانتخابات التشريعية، والداعين لمقاطعتها، تشكلت (الجبهة الوطنية المتحدة ) التي ترأسها محمد عبده نعمان وعبد الله الأصنج وعبد الله باذيب ومحمد سعيد مسواط وعبده خليل سليمان، ومحمد سالم علي وعلي حسين القاضي، إلخ. وقد استمرت الجبهة في نشاطها السياسي الوحدوي المناوئ للاستعمار حتى نهاية الخمسينيات، متأثرا بالفكر القومي البعثي والمد الناصري المنبعث من ثورة 23يوليو في مصر، مؤكدة في أهدافها على الوحدة اليمنية والعربية، والوقوف ضد الاستعمار والرأسمالية، والدعوة إلى نظام جمهوري ديمقراطي متحرر من الاستعمار والاستبداد في إطار الوحدة اليمنية.
ومع وجود النشاط النقابي الفاعل، أسهمت الجمعية الوطنية المتحدة في توحيد النقابات تحت اسم (المؤتمر العمالي ) عام 1956م، وأصبح المؤتمر العمالي يجمع بين الصفة المطلبية العمالية والصفة السياسية، وحاضنا للحركة الوطنية، ففيه نشط حزب البعث وحركة القوميين العرب، وقد أصدر المؤتمر العمالي صحيفة اسمها (البعث) ورفع شعار حزب البعث في الصحيفة (وحدة –حرية –اشتراكية ) ومن أبرز قادته :عبد الله الأصنج، ومحمد عبده نعمان، وزين صادق الأهدل ومحمد سعيد مسواط وعبده خليل ومحمد سالم علي، وحسين القاضي وعبد الله علي عبده وعلي عبد الرحمن الأسودي، وأحمد حيدر وعبدالله عبد المجيد السلفي وصالح محسن ومحمد أحمد نعمان، ومحسن العيني .
كان عمال مصفاة عدن التي بدأ تشغيلها عام 1955م هم الركيزة الرئيسية للمؤتمر العمالي الذي ضم عمال ميناء عدن وعمال الفنادق والمطاعم وعمال وموظفين الطيران…ولأن المؤتمر العمالي كان بغالبيته من شمال اليمن فقد كان الخطاب الوحدوي خطابا جوهريا وأصيلا في أدبيات وصحافة (المؤتمر العمالي).
قاد (المؤتمر العمالي ) الحركة الوطنية ضد المخططات الاستعمارية الرامية إلى تهنيد عدن وطمس الهوية اليمنية لها، بالمطالبة بإيقاف تدفق المهاجرين كسياسة بريطانية تهدف منها إلى طمس الهوية اليمنية لعدن، وتغيير التركيبة السكانية للمدينة، من خلال غلبة العنصر الأجنبي الذي ليس له من هوية سوى خدمة المستعمر .وناضل المؤتمر العمالي ضد القوانين التي تمنع العمال من التظاهر، وتستبدل ذلك بالتحكيم بين العمال وأرباب العمل .وناضل ضد الانتخابات التشريعية الجهوية التي تخدم الاستعمار عام 1959م، التي استبعدت أبناء الشمال منها. ورفض المؤتمر العمالي إقامة (اتحاد الجنوب العربي ) وأيد حركات التحرر الوطني والقضية الفلسطينية .وخوفا من أن يقوم المستعمر بحل المؤتمر النقابي لتزايد نشاطه السياسي فقد تأسس (حزب الشعب الاشتراكي )كإطار سياسي للعمال عام 1962م .
ومع اندلاع ثورة 14أكتوبر 1963م، والتوجه نحو الكفاح المسلح بدأ الانقسام السياسي بين القوى الجديدة التي تؤمن بالسلاح لدحر الاستعمار، وكانت حركة القوميين العرب في صميم هذا التوجه، وبين (حزب الشعب الاشتراكي ) الذي ظل مؤمنا بالنضال السياسي السلمي)ولم يلتحق الكفاح المسلح إلا في مارس من عام 1965م، ويؤرخ عمر الجاوي في رسالته المرفقة في كتاب(الاستقلال.. والوحدة) وهو الاستبيان الذي شارك فيه عام 1989م، ولم يطبع في كتاب إلاَّ في عام 2013م-يؤرخ لالتحاق منظمة التحرير بالكفاح المسلح بعام 1964م، وكان التنظيم الشعبي قد بدأ مبكرا من خلال اتحاد القوى الاشتراكية، وهو تنظيم ناصري، وكان التنظيم الشعبي بقيادته العسكرية الفدائية مرتبطا شكليا بجبهة التحرير، لكنه عمليا وتنظيميا وعسكريا كان تنظيما ذا بنية وقيادة مستقلة، يغلب على فصائله الفدائية التوجه الناصري.
أعلن التنظيم الشعبي «أنه يتبع جبهة التحرير تنظيما ومستقلا في فكره ونضاله، وكان معروفا أن التنظيم هو الجناح العسكري لجبهة التحرير، ويستنتج من طرحه في تعميم في أكتوبر 1966م أنه يضم قطاعات الشعب، من عمال ومثقفين وفلاحين وطلبة وموظفين، وانضم إلى التنظيم الشعبي للقوى الثورية منظمة سرية، كانت تعمل باسم اتحاد القوى الاشتراكية، وهو تنظيم ناصري ولا يدين بالولاء للحزبية، يعمل على انتصار الثورة، وتحقيق آمال الشعب في الاستقلال، في إطار جبهة التحرير، ووجد الفدائيون الذين أخلت الجبهة القومية سبيلهم عندما انفصلت من جبهة التحرير، فشكلوا التنظيم الشعبي، وعُرِف ذلك التنظيم بالناصرية، أي أنه تنظيم ناصري، لما وجد من دعم كبير من قبل أجهزة القيادة المصرية ذات العلاقة بالثورة في جنوب الوطن، حيث مقرها «ص176-من إجابة سعيد الجناحي على أسئلة استبيان كتاب-(الاستقلال ..والوحدة )يحيى بن حسين العرشي –طبع عام 2013م.
كان لجبهة التحرير حضور ودور فاعل في عدن ولحج وبعض الأرياف، إلا أن نفوذ الجبهة القومية في غالبية الأرياف كان هو الأقوى .وحدث الصدام بين جبهة التحرير على شكل حرب أهلية محدودة في المنصورة وعدن والشيخ عثمان، وبعض الأرياف مع إعلان بريطانيا عن نيتها لتقديم موعد انسحابها من جنوب اليمن بدلا عن عام 1968م إلى 30نوفمبر 1967م، بعد أن أبرمت اتفاقا سريا مع الجبهة القومية، ووجهت الجيش الاتحادي والكتائب البريطانية للوقوف مع الجبهة القومية ضد جبهة التحرير، وانتهت المواجهات إلى إنهاء وجود جبهة التحرير، والتنظيم الشعبي، ورفع شعار (كل الشعب جبهة قومية ).
لقد ساهم الاستعمار البريطاني من خلال مندوبه السامي (همفري تريفليان )وقائد الجيش النظامي (داي )في أن تكون كل السلطة بيد(الجبهة القومية ) فبحسب شهادة الأستاذ علي السلامي، التي أوردها في ورقته المقدمة إلى (الندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية –التي عقدت عام 1991م وطبعت في كتاب صادر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني-صنعاء عام 1993م –إذ يؤكد في ورقته على أن المندوب السامي وقائد الجيش البريطاني سابق الذكر اجتمع بكبار الضباط في الجيش الاتحادي بتاريخ 7 /11 /1967م أي قبل موعد الجلاء بأسابيع- وأبلغهم أن حكومة صاحبة الجلالة قررت أن تسلمكم الاستقلال فاعترض الأخ سالم أحمد العتيقي، وقال الثوار (أيش مصيرهم ) وتكلم قائد الجيش الاتحادي محمد أحمد موقع، وقال يا صاحبي هذه مفاجأة، وانقسم الضباط .فتم اجتماع آخر استثني منه سالم احمد عتيقي واستبدل عبد الله احمد عتيقي (من أعضاء جبهة التحرير)وفي هذا الاجتماع أبلغ قائد جيش الاتحاد النظامي البريطاني أن على الجيش الاتحادي أن يساند الجبهة القومية، وأن يعمل على إخراج (جبهة التحرير )من المنصورة والشيخ عثمان، بعد أن كانت قد سيطرت على المنطقة من لحج إلى المنصورة. وتم إقالة الضباط الذين اعترضوا على ذلك وكان رأيهم أن الاستقلال ينبغي أن يسلم لجبهة التحرير والجبهة القومية معا.ص201 – 202 علي السلامي –الندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية.
إن أزمة «الجبهة القومية» في إدارتها للشطر الجنوبي من الوطن اليمني هو أنها مضت في الحكم بذات منطق الكفاح المسلح في مواجهة الاستعمار البريطاني، بمعنى أنها لم تع متطلبات مرحلة الاستقلال والبناء الوطني الديمقراطي، الذي يقتضي الشراكة مع مختلف الفرقاء السياسيين، لهذا فحين عملت على التخلص من كل نقيض سياسي، انتقل الصراع والتناقض إلى داخل بنيتها التنظيمية، لتبدأ مشوارا تجريفيا تحفه جثث الرفاق، ورايته مقصلة الثورة، ابتداء من الحرب الأهلية مع جبهة التحرير، ثم الصراع الذي راح ضحيته قحطان الشعبي، الذي وضع تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته، ومقتل فيصل عبد اللطيف الشعبي، وصولا إلى تصفية سالم ربيع علي(سالمين)وتراكمت الجماجم والدماء لتصل ذروتها بكارثة 13يناير 1986م.
إن الحركات السياسية التي تتميز بالحيوية هي تلك التي تعي مقتضيات مرحلة البنادق ومقتضيات الصراع السياسي، على أرضية تحشيد العقول وتوسيع قاعدتها الجماهيرية…
دون ذلك تتكرر مهازل التاريخ وحماقاته، ويعيد إنتاجها كل من تعمي قلبه وعقله شهوة.

قد يعجبك ايضا