الذات والحضور.. البحث في مبادئ الوجود التاريخي

 

خليل المعلمي

يتبين من فصول ومحتويات كتاب ” الذات والحضور.. البحث في مبادئ الوجود التاريخي” للمفكر العربي ناصيف نصار أنه كتاب فلسفي بامتياز بحسب آراء الكثير من المفكرين والنقاد، وأنه مقالة فلسفية متفردة تؤرخ لميلاد الفلسفة العربية المعاصرة سواء من حيث الموضوع أو اللغة أو الاستدلال أو الرؤية.
ويناقش الكتاب في سبعة أبواب وثمانية وعشرين فصلاً مع مقدمة وخاتمة مواضيع (الحاضر والانوجاد والحضور العقلاني والحضور والقيمة والقيم الأساسية والحاضر وما قبله والحاضر وما بعده).
جاءت صياغة الكتاب في شكل فقرات مرقَّمة على الطريقة نفسها التي كتب بها “منطق السلطة” على أن الأسلوب المستعمل في كتاب “الذات والحضور” مختلف نسبياً من حيث نزوعه إلى ذلك الشكل الذي يوصف في الغالب بـ”السهل الممتنع” مع استكثار للأمثلة، ولكن مع ذلك بقي الطابع النظري المجرد هو الغالب كما هو الحال في مختلف كتابات هذا المفكر.
ويتميز هذا الكتاب على غير العادة بعد الإحالة نصيا إلى الفلاسفة وفي حالات معدودة ضمن تلك الإحالات في متنه، كما لم يستند إلى دراسات نظرية أو تاريخية أو غيرهما وإنما اكتفى بالإشارة إلى الأقوال العامة للفلاسفة أو آرائهم المشهورة، مع تركيز غير مسبوق على التحليل اللغوي من جهة اشتقاق الكلمات والتمييز والفصل بين المعاني المختلفة، كما تميز هذا الكتاب بحجمه الضخم إذ بلغ عدد صفحاته 636 صفحة من الحجم المتوسط مقارنة بمختلف كتبه التي نشرها.
الإنسان يصنع نفسه
يعتبر الكتاب تكملة لما طرحه “ناصيف نصار” في كتابين سابقين وهما منطق السلطة وباب الحرية، ويحاول الإجابة عن سؤال مركزي هو: ماذا يعني أن الانسان يصنع نفسه؟ وللإجابة عن هذا السؤال حلل المؤلف في الباب الأول موضوع الحاضر لأنه “الحقيقة الأولى في الوجود التاريخي”، وبعد تحليل لغوي للحاضر من جهة الزمان والديمومة ومن خلال مناقشة آراء بعض الفلاسفة على رأسهم أرسطو وكانط وبرغسون، طرح السؤال الآتي: كيف يكون الزمان حاضراَ؟ وللإجابة عن هذا السؤال أجرى عملية تقسيم بين الزمن الطبيعي والذات أو بحسب عبارته الزمن الكوني والزمن الكياني، وخلص إلى اعتبار الزمن الحاضر بوصفه زمنا للذات يتحدد في التفاعل الموضوعي بين الذات وغيرها من الذوات ومن واقعات الطبيعة فيكون لحظة أو برهة أو فترة أو مرحلة.
وتحديد الحاضر يستلزم بالطبع تحليل الماضي والمستقبل، وبعد تحليل هذين البعدين وصلتهما بالحاضر يخلص المؤلف إلى أن الحاضر يتقدم على الماضي والمستقبل في الرتبة الوجودية لا يتقدم عليها في الرتبة القيمية، وطبيعة المغامرة في الوجود التاريخي تمنع الحاضر من الانغلاق على نفسه والاكتفاء بنفسه، وأن معنى الحاضر موجود فيه وفي حكم المستقبل عليه.
ولأن هدف المفكر هو تأسيس فلسفة في الحضور فإنه عمد إلى تحليل مفهوم “الانوجاد”، أي تلك الحركة التي تنقل الإنسان من حالة الوجود المجرد الى حالة الحضور مع ذاته ومع الآخرين وهذه الحركة تتميز بكونها ذاتية يدل عليها لفظها وهو “الانوجاد” وقد حلل المؤلف علاقة “الانوجاد” بالماهية والهوية وصناعة الذات.
صناعة الذات
ويتساءل المؤلف: ما معنى صناعة الذات؟ ويجيب قائلاً: إن مفهوم صناعة الذات لا يقاس على غيره لأن الصانع والمصنوع فيه واحد، الكائن الذاتي يصنع ذاته بذاته وبالعمل على ذاته وإن كان هذا العمل لا يقتصر على ذاته فقط.
وتتميز هذه الصناعة بكونها أصيلة لأنها محكومة بالإرادة وذلك وفقا لتحليلات الفلاسفة ومنهم: ديكارت، وشوبنهاور، ونيتشه، كما ميز بين صناعة الذات ومراتب هذه الصناعة، وخاصة من جهة النمو والتنامي والتنمية ليخلص إلى القول بهندسة الذات القائمة على ثلاثة اعتبارات “الاقتصادية والجمالية والأخلاقية”.
ولهذه الذات بما أنها صناعة وهندسة أشكال حضورها المختلة ومنها الحضور العقلاني، حيث حلل العقل والمفاهيم المشتقة منه والعقل وعملياته ومكانة العقل والحضور من جهة القيمة، حيث ناقش موضوع القيمة والتعامل العقلاني مع القيمة، وموقف المثالية من القيمة والقيم والتفاعل الاجتماعي والقيم الأساسية أي الخير والكرامة والعمل والصحة والحقيقة والجمال والمحبة والعدل.
الحضور والذات
ويستلزم تحليل الحضور والذات النظر في مضادات الحضور، حيث قسَّم المفكر ناصيف نصار هذه المضادات إلى نوعين أساسيين أطلق على النوع الأول اسم الحاضر وما قبله بمعنى الماضي وناقش فيه مواضيع أساسية هي: الغياب والذكاء والوفاء، وفي هذا السياق يرى ضرورة حصر الغياب في مجال الادراك ولا يجوز الدفع به إلى الغياب المطلق أو اللاوجود متفاديا استعمال مقولة العدم.
يرتبط الغياب بالذات من جهة الواقع الخارجي كغياب الأشياء، كما تعاني الذات من الغياب في ذاتها لأنها هي في الأصل مسرح الحضور والغياب وبعد تحليل لأشكال غياب الذات ومنها الغياب بحكم الواقع والغياب بسبب الإهمال والنسيان يخلص المؤلف إلى أن الغياب عن الذات ينتج من كون حضور الذات إلى ذاتها ليس حضوراً كاملاً ومطلقا لأن الذات لا تتمتع بشفافية كاملة ومطلقة في وعيها المنعكس على ذاتها ولأنه محكوم عليها بأن تكتشف ذاتها بحضورها إلى العالم حولها وبانخراطها فيه بكيفية تمنع على وعيها بذاتها الانغلاق التام على نفسه.
لينهي تحليله لهذه المسألة بجُملة من الملاحظات: الحضور متوقف على الوعي، الصراحة لا تلغي مناطق الظل والغياب في العلاقات البينية، يمثل الخداع الوجه الصريح للغياب، هنالك توسط ما بين الصراحة الصارمة والخداع السافر، كل شيء خاضع للتحول وذلك بحكم الزمن.
الحاضر وما بعده
اطلق المؤلف على النوع الثاني من المضادات اسم الحاضر وما بعده أي المستقبل ،حيث حلل مواضيع الطموح والتخيل والأمل وميز في تحليله الأمل بين التمني والرجاء رابطاً بين الأمل والعمل، لأن العمل شرط ضروري لقيام الأمل، ولأن الأمل خارج العمل مع الاهتمام بالمستقبل لا ينتج سوى التمني والانتظار، وحلل هذا المعنى وغيره في فلسفة هيغل وماركس، منتقداً ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي اندريه كونت سبونفيل في كتابه: “الرسالة في اليأس والغبطة” وأنهى تحليله بالحديث عن مبدأ المسؤولية كما صاغه بوناس قائلاً: “المسؤولية عن المستقبل تتجذر في الطموح، والطموح الجدير بالاحترام والعناية هو الطموح المسؤول”.
ملاحظات وانتقادات
ومع أن الكتاب بحاجة إلى المزيد من الدراسة والبحث فقد واجه بعض الانتقادات من قبل الباحثين والنقاد منها غياب عنصر التاريخ عن كتاب يتحدث عن الذات والزمن والحضور، كما أن كلمة الصناعة تثير لبساً عند حديث المؤلف عن صناعة الذات من الجهة الوجودية أو المعرفية، وتساءل البعض كيف يمكن ربط الذات بالصناعة، والقول في الوقت نفسه بجوهرها، إن هذ الربط بين الذات بوصفها هوية جوهرية وصناعية يبدو أنه ربط يحمل مفارقة إن لم يكن تناقضا ولا يحسب البعض أن الجدلية الصورية والصارمة التي يعتمدها المؤلف تكفي لحل هذه المفارقة وغيرها من المفارقات.
وأخيراً يؤكد الكثيرون أن الكتاب غني بتحليلاته ومعماره اللغوي الارسطي القائم على وضع الحدود بين المعاني والدلالات وخاصة ما تعلق بالباب الرابع “الحضور والقمة”، فالوضوح المنهجي في تحليل مختلف القيم لا يمكن أن يغفله القارئ.

قد يعجبك ايضا