السجع في التراث العربي

 

لقد احتل السجع مكانة مهمة في تاريخ الأدب العربي، والإتيان بالكلام المسجوع عدته العرب وجهًا من وجوه البلاغة، وقد تبارز أشراف العرب وفصحاؤهم في إتقان السجع في القول والخطابة نظرًا للقيمة الاجتماعية العالية لمن يمتلك تلك القدرة. وقد أولت كتب الأدب العربي السجع عنايتها به نظرًا لكونه مرحلة فنية في تطور الأدب العربي، ولأجل ذلك سعى جملة من النقاد إلى تعريفه، وحفظ نوادره وتوضيح أسسه، وأنواعه، وتمييز الجيد منه من المبتذل. وقد جرى السجع على ألسنة الكثير من فصحاء وأدباء العرب، وكاد أن يصبح قالبا لنخبة من نصوص الأدب العربي على مر قرون متلاحقة من تاريخ العرب.
ونظرًا لخصوصية السجع من حيث وقوعه في منطقة متاخمة بين الشعر الذي يعد ديوان العرب بدون منازع والنثر، فقد أبقى البلاغيون العرب في بدايات نشأة الدرس البلاغي العربي على السجع على حاله دون محاولة إلحاقه بفنون البديع التي قعد لها ودرسها علماء البلاغة العرب. لكن الباحثين يشيرون إلى تحول هذه النظرة إلى السجع مع بداية القرن السابع الهجري حيث تم تهميش مكانة السجع في دراسات البلاغيين لا سيما أن تماسه مع البناء الشكلي للقرآن قد أثار جدلًا بين الإنكار لوجوده والإثبات، وشكل محورًا مهما في الدرس البلاغي عمل على إيجاد مصطلح جديد هو الفواصل، ليصبح السجع منقسمًا بين مصطلحين تتنازعهما النظرة والمفهوم، وذلك ما قد يكون قد دفع إلى تحويل السجع إلى مجرد أداة جمالية، يعزى إليها وظيفة التحسين اللفظي.
ولأجل إعادة الاعتبار إلى القيمة الفنية للسجع يقدم الباحث العماني بدر بن مصبح الجابري دراسة علمية حملت عنوان “السَّجع العربي بين النسقية النوعية والنظرة البلاغية” وتقوم الدراسة كما يدل عنوانها على دراسة ظاهرة السجع في فضاء الثقافة العربية وذلك عبر محورين هما النسقية النوعية والنظرة البلاغية؛ حيث يقصد بالنسقية النظر إلى السجع باعتباره بناء ذا صفات نوعية تجعله مستقلًا بنفسه بحيث يكاد يختلف عن الشعر والنثر بقدر ما يتداخل معهما. في الشق المتلعق بالنظرة البلاغية نجد الباحث يحاول تحرير السجع من التقييدات البلاغية التي طرأت على الدرس البلاغي العربي في القرن السابع الهجري حيث تم إقصاء دور السجع للهامش.
وعن هذه الدراسة نجد الأستاذ الدكتور محمد الهادي الطرابلسي يقول: ” في هذا الكتاب مغامرة، لا تخلو من مخاطرة ؛ لأنه يقوم على مراجعة السائد بشأن السجع في العربية، مراجعة جذرية، دفعنا الباحث إليها، وشجعناه على خوض غمارها؛ لأنها- فيما قدّرنا- مضمونة العواقب، وقد برهن صاحب البحث على أنها مغامرة مثمرة، مدهشة، عندما اكتشف أن البلاغيين العرب جنوا –زمن تحجر البلاغة- على نقد الأدب، بأن حصروا السجع في قمقم علم البديع، فعدوه محسنا من محسنات الكلام”.
ويتكون الكتاب من مقدمة وأربعة فصول، فالفصل الأول يدرس مفهوم السجع، والفصل الثاني يدرس تاريخ السجع وأطواره وتحولاته، وينظر الفصل الثالث في نسقية السجع، ويقدم رؤية في تجنيس السجع، أما الفصل الرابع فيتطرق إلى بنية السجع الشكلية ونظامه الإيقاعي كما يقدم دراسات تطبيقية على نصوص للحريري والجاحظ.
في الفصل الأول يدرس الباحث بدر الجابري مفهوم السجع، من حيث التعريف اللغوي والاصطلاحي وتعريف السجع في الخطاب البلاغي وتعريف السجع عند النقاد، كما أكد هذا الفصل على أن اختلاف التصورات التي نظر بها إلى السجع قاد ذلك إلى وجود تصورين للسجع التصور الأول ينظر إليه على أنه ظاهرة نقدية والتصور الآخر ينظر إليه على أنه أداة بلاغية، هذه الاختلافات قادت إلى اختلاف في صياغة تعريف مناسب له، مما خلّف فوضى متجددة في ترسيم حدوده وثبيت قيمته. ويشير الباحث كذلك إلى وجود مفهومين للسجع قديم ومتأخر، فالمفهوم القديم كان من السعة بمكان حيث كان يعتبر نظاما فنيا مقوما ومميزا للنص الأدبي من أوله إلى آخره. بينما المفهوم المتأخر فقد قام بتجريد السجع من صفته النسقية وحصره في مستوى الجمل، أو في مستوى الكلمة في أسوأ حال، وبحد لا يتجاوز الاشتغال في التقفية ولا تتعدى وظيفته منطقة الفواصل، فبدا نتيجة لذلك مظهرًا لفظيًا محدودًا، سوغ للبلاغيين فيما بعد أن يصنفوه ضمن فنون البديع اللفظية التحسينية.
وتاريخ السجع بين الأصول والتحولات هو موضوع الفصل الثاني من الكتاب حيث بتتبع هذا الفصل تطور الكلام فنيًا وفق النظرية التاريخية، منذ الارتجالات الإيقاعية في مجتمعات العرب البداية، ثم انتقال ذلك إلى استغلاله كقوة تأثيرية عند زعماء الوسط الديني، ثم بعد ذلك إلى حضوره الطاغي في المجتمع الجاهلي حيث عد استخدام السجع من ملامح الوجاهة في المحافل الاجتماعية والمواقف الحاسة. لكن مع مجيء القرآن حدث تحول بل هزة عمقية في نفس العربي الذي اعتاد على السجع، كما دفعت المقارنة بين النص القرآني والسجع خصوصًا سجع الكهان الباحثين إلى البحث عن السجع في القرآن فانقسم الباحثون إلى فريقين مثبت ونافٍ، وهذا ما أوجد الاضطراب في النظرة إلى السجع، ثم أتت مرحلة التدوين التي اتخذت النثر الفني محل السجع، ولكن الأخير مع محاولات تجاذبه بين الشعر والنثر في هذه المرحلة إلا أنه بقي في حالة من الاستقلال على مستوى التنظيرات الفرعية التي تتكئ على الواقع التطبيقي الحقيقي للسجع.
وأما عن نسقية السجع ورؤية الباحث للتجنيس فهذا ما نقرؤه في الفصل الثالث من الكتاب، فيبتدئ بالنظر إلى العلاقة بين السجع والبلاغة من حيث إن البلاغة على رغم شموليتها تنزع إلى التفكيك والاشتغال في الأجزاء على مستوى الجملة والجملتين وتحليلها الإجرائي للنصوص، أما السجع فكثير ما تخضع له نصوص أدبية من أولها إلى آخرها، حيث يزخر الأدب العربي بنصوص مسجوعة البناء الكلي، بل إن السجع كان علامة أجناس أدبية بحالها كجنس المقامات. وكون البلاغة العربية بلاغة جملة ذلك ما يجعلها مفتقرة إلى آلية محددة لتفسير ظاهرة نصية كهذه. ما يؤكد أن السجع في الأصل قائم على مفهوم النسقية الذي تتجلى فيه ظواهر السجع الأخرى كالإيقاع، ولزوم ما يلزم، وخرق قواعد اللغة. كما يقف الفصل عند تقسيمات القدامى للكلام، والتطورات التي طرأت على استخدام السجع وظرقه كما تجلى عند الجاحظ والمعري والحريري. ثم يتطرق الفصل إلى مراحل جمود النظرة البلاغية إلى السجع في القرن السابع الهجري وما تلا ذلك من مرحلة التأثير والتأثر بالبلاغة الفارسية التي أعادت تصدير مفهوم السجع إلى البلاغة العربية في هيئة جديدة.
وفي الفصل الرابع نجد أن الباحث بدر الجابري يدرس البنية الشكلية والإيقاعية في عدد من النصوص المسجوعة، وفي بداية الفصل يقارن حال السجع عند القدامى والمحدثين، حيث إن السجع عند القدامى برغم ما يمتاز به من عناصر بناء شكلية نوعية إلا أنه افتقر إلى نمط كتابي يبرز قالبه الهيكلي ذا الملامح الشديدة الوضوح، فقد كتب السجع بصورة خطية أفقية شبيهة بصورة الكتابة النثرية. أما عند المحدثين فقد بعثت فكرة النمط الكتابي السجعي، ووجدت محاولات فعلية لكتابة النصوص المسجوعة في هيئة جديدة مختلفة عن النثر. ويميز الباحث الجابري في هذا الفصل بين نوعين من النصوص؛ النص الملتزم، والنص المحتشم. فالنص الملتزم هو الذي يلتزم فيه السجع من أوله إلى آخره ولا يكاد يخرج عنه إلا في أجزاء قليلة لا يظهر لها تأثير. ومن أبرز الأمثلة على هذا النمط مقامات الحريري وخطب ابن نباته.
النص المحتشم هو الذي تتخلله أجزاء غير مسجوعة بنسبة معينة غير كبيرة، بحيث لا تخرجه من الحكم المسجوع ومن أمثلة ذلك رسالة الكتاب للجاحظ، وأجزاء من التوابع والزوابع. وحرص الباحث في تحليله لمكونات البنية السجعية لهذه النصوص على كشف أهمية دور الازدواج والفواصل في تشكيل البناء النصي، وخلق نظامه الإيقاعي المميز، ليكون السجع أحد أبرز أشكال الهيكلة البنائية والهندسية الإيقاعية في الكلام العربي، استحق أن يكون جنسًا أدبيًا مستقلًا ليس على مستوى المفهوم النظري فحسب، بل في مجال التحليل الإجرائي والممارسة التطبيقية أيضًا.
الجدير بالذكر أنَّ الكتاب قد صدر مطلع العام 2017م عن دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع في الأردن. وجاء الكتاب في 256 صفحة.

قد يعجبك ايضا