آراء ودراسات عن المعلقات الجاهلية عبر العصور

 

خليل المعلمي

لقد أهدى الباحث الدكتور سليمان الشطي المكتبة العربية مجموعة متميزة من المؤلفات الإبداعية والنقدية ومن هذه المؤلفات كتابه “المعلقات وعيون العصور”، وهي دراسة شائقة عن المعلقات الجاهلية، حيث يسعى إلى إبراز مجموعة من الرؤى والدراسات التي قدمت عن المعلقات عبر العصور، ويصف دراسته بأنها “دراسة للدراسات ونظرة في النظرات للشعر الجاهلي.. المعلقات نموذجاً ومجالاً”.
ويشير المؤلف إلى أنه قد سعى من خلال دراسته إلى الوقوف مطولاً مع شرح القدماء للقصائد السبع، حيث يرى أن جهودهم مساهمة ثمينة ومهمة وأساسية للفهم والتحليل بيد أنها لم تحظ باهتمام كبير وعناية فائقة بسبب ما يتبادر إلى العقول من أن جهودهم تنضوي تحت لواء نمط واحد محدود القيمة النقدية.
شروح القدماء
في الفصل الأول من الكتاب وتحت عنوان “في البدء كانت الشروح” تطرق المؤلف إلى شروح القدماء للمعلقات، حيث يذكر أن أقدم نص مشروح هو تلك النسخة الفريدة من شرح أبي سعيد، وأبي جابر ويرجح الدكتور سليمان الشطي بأن هذا الشرح يعود في أصله إلى أبي سعيد الضرير أحمد بن خالد الضرير وهو أحد ثلاثة اصطحبهم عبدالله بن طاهر حين ولاه المأمون خراسان، وقد كان مؤدباً لأولاده ويقوم على خزانة الأدب له، وقد أهملت الكثير من المصادر شرحه للمعلقات ولم يرد ذكره، وذلك يعود إلى أن شرحه لم يكن شرحاً مستقلاً ونصاً من تأليفه، وبخصوص منهج شرحه وكما يرى المؤلف فهو لا يخرج عن الخط العام الذي نهجه الشراح العرب من بعده من حيث إثبات المعنى العام مع الإعراب، واللغة والأحداث التاريخية.
وتميزت نسخته بالتوازن والاختصار في المعلومات وعدم الميل إلى الإسراف في بسط آراء الآخرين، وهذا ما جعل من شرحه مساهمة ثمينة من مساهمات القرن الثالث.
ولم تكن هذه المساهمة الوحيدة في ذلك القرن حيث ذكرت المصادر لابن السكيت شرحاً للقصائد السبع، أما آخر شراح القرن الثالث فهو ابن كيسان.
وتميز القرن الرابع بظهور الكثير من الشروح نظراً لتوافر صورة واضحة للشعر الموثق الذي يسره الرواة، والعلماء وصناع الدواوين والمجموعات الشعرية.
وبالنسبة لجهود رجال القرن العشرين فيشير المؤلف إلى أن حصرها صعب نظراً لكثرة ما قيل وكتب عن هذه القصاد السبع، وفي هذا العصر تغيرت طبيعة النظرة للشرح والتفسير غير أن أصحاب الاتجاه الإحيائي للتراث العربي ساروا على النهج القديم واهتموا بهذه القصائد وشرحها اختياراً وتقريباً وتسهيلاً عن الشروح القديمة.
نظرات تعليمية
في الفصل الثاني من الكتاب صنف الدكتور سليمان الشطي الشروح التعليمية للشعر الجاهلي إلى ثلاثة مناهج رئيسية: المنهج التعليمي الفني، المنهج التعليمي اللغوي، المنهج التعليمي التلفيقي.
ويذهب إلى أن هذه الفروق لا تمثل مناهج ذات رؤية محددة المعالم تقف خلفها فلسفة تعليمية أو نقدية، فهي أبسط من ذلك بكثير وهي لا تتعدى أن تكون اجتهادات فردية، وفوارق بين شارح وآخر، كما لاحظ أن أصحاب هذه الشروح ولا سيما منهم أصحاب الاتجاه التعليمي اللغوي، والمنهج التلفيفي يجمع بينهم الاعتماد على الأصول نفسها، ويختلفون من حيث أن أصحاب الاتجاه اللغوي التعليمي أكثر حرية واجتهاداً فهم يعتمدون على من سبقهم من العلماء، ويعتنون أيما عناية بالاختيار كما لا يتحرجون من الحذف وإعادة الصياغة فيمر الشرح بعملية تصفية كاملة.
في حين أن أصحاب الاتجاه التعليمي التلفيقي يقتصرون على اختيار الشروح التي تخدم غرضهم ويقومون باختصارها والتوفيق بينها مع الخضوع التام للمراجع المعتمدة ووفق ما يرى المؤلف فمن الصعب اعتبارها بمنزلة تأليف بل إنها في أحسن الأحوال مختارات من شروح سابقة.
أما أصحاب الاتجاه الفني فما يميزهم أنهم أقرب إلى غاية التعليم الفنية، حيث إن النص عندهم هو الأصل الذي يدور حوله الكلام، إذ يسعون إلى توضيح أهم ما فيه بأقرب وأدق أسلوب كما يقومون بتجلية أبعادها التاريخية من دون إسراف فالتوازن سمة من سمات هذا النوع من الشروح التعليمية فيتجلى الشرح وسيلة مناسبة للفهم ويقوم بدوره في حالة معقولة ومقبولة.
بين يدي الثقافة اللغوية
خصص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب لدراسة نص المعلقات بين يدي الثقافة اللغوية ولا ريب في أن نظرة أصحاب الثقافة اللغوية للمعلقات جديرة بالبحث، والتنقيب وهذا ما جعل الدكتور سليمان الشطي يميط عنها اللثام، ويتوقف معها ملياً إذ أن الشروح العربية القديمة للشعر اعتمدت أساساً على الفهم اللغوي للنص، الذي تظهر أبسط صورة في شرح المفردات وصولاً إلى المستويات العميقة كما تجلى الأمر في نظرية النظم لعبدالقاهر الجرجاني.
ويذكر المؤلف أن منهج اللغة بمعناه الاصطلاحي، وعلومه، وفهم قوانين اللغة وتراكيبها وصلتها بالأداء الفني هو الأساس الذي قام عليه شرح ابن كيسان”، و”شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات” لابن الأنباري و”شرح القصائد التسع المشهورات” لابن النحاس.
ويؤكد الدكتور سليمان الشطي أن هذه الشروح الثلاثة تتبع أسلوباً واحداً في تناول النص مع تميز كل واحد منها بخصائص لصيقة به، ويمثل ابن كيسان المقدمة الطبيعية للشرحين الآخرين، فقد جمع في شرح خصائصهما في صورة أولية ليتضح بعد ذلك فيها أحسن تمثيل، بينما تتقارب شخصية ابن الانباري وابن النحاس فكلاهما له اهتمام واضح بالعلوم اللغوية تدريساً وتأليفاً وكلاهما ارتبط بمدرسة ذات اتجاه لغوي متميز ومعروف.
نظرات فنية
وناقش المؤلف في الفصل الرابع باستفاضة وعمق نظرات الزوزني وجهوده الفنية المتميزة في دراسة المعلقات، فهذا الفصل كما يقول المؤلف عنه هو دراسة للنظرة الفنية في شرح القصائد السبع عند القدماء من خلال كتاب “شرح القصائد السبع” للقاضي أبي عبدالله الحسين بن أحمد الزوزني.
وينبه المؤلف إلى أن القول إنها فنية لا يعني أنها خرجت عن إطار الفهم اللغوي فالزوزني لم يكن بعيداً عن هذا الفهم ولم يكن عصره أو ثقافته أو شخصه يسمح له بتجاوز الفهم اللغوي، وما يقصده الدكتور الشطي بالنظرة الفنية هي تلك التي تنظر إلى النص الشعري على أنه فن، وأن شرحه هو الأساس الأول في حين أن العلوم الأخرى معينة ومساعدة، حيث ينصرف الشارح إلى بيان القصيدة مستخدماً شتى الوسائل، وبذلك تتوازن المعارف كلها في سبيل تقديم النص الشعري للقارئ تقديماً معقولاً ومفيداً.
نظرات نقدية تراثية
انتقل المؤلف في الفصل الخامس من الكتاب للحديث عن النظرات النقدية التراثية للمعلقات وفي البدء نبه إلى عدم الانسياق وراء خدعة التصور الأولي الذي قد يوصل إلى المبالغة كما نوه باحتفال النقد القديم بالمعلقات وكثرة إيراد النقاد القدامى للأبيات المختارة منها وذلك لاستخراج بعض المعاني المتميزة أو تأكيد نظرات مختارة.
المعلقات ونظرات العصر الحديث
في الفصلين الأخيرين من الكتاب توقف المؤلف مع نظرات العصر الحديث للمعلقات حيث ركز في الفصل السادس على اتجاهين سادا عند دارسي مرحلة الاحياء هما الشروح التعليمية، والنظرات الذوقية.
فأصحاب المنهج التقليدي اتجهوا إلى التراث العربي وسعوا إلى تقديمه إلى العصر الحديث بحلته القديمة، وبعضهم أدخل ضمن منهجه التعليمي شذرات من النظرات الحديثة، وقد تطورت شروحهم واكتسبت ملامح جديدة عندما تطورت مناهج دراسة الأدب، وهذا ما عبر عنه المؤلف بقوله “لكن جهود الشارحين تطورت واكتسبت ملامح جديدة حينما نشطت دراسات الأدب، وتطورت مناهجه فدخل الشارحون إلى دنيا القصائد السبع والشعر الجاهلي بوجه عام حاملين معهم تراثاً ضخماً من الدراسات والتعليقات والمناقشات التي أثرت الجوا لأدبي، مشيراً إلى بعض الدراسات الحديثة لهذه القصائد.
وفي الفصل الأخير ذكر المؤلف أن أصحاب المذهب الجمالي الذين يعنون بالشعر على اعتبار أنه تركيب لغوي يحفه التفكير الأسطوري يعتبرون من أكثر الناس اقتراباً من الشعر الجاهلي والقصائد السبع بوجه أخص حيث انه منحهم فرصة نادرة للتطبيق ويرى أن الناقد الدكتور مصطفى ناصف يعد أهم ممثل لهذا الاتجاه في مجال دراسات النصوص القديمة ولاسيما منها القصائد السبع وقد ظهرت جهوده في كتابين أساسيين هما “دراسة الأدب العربي” و”قراءة ثانية لشعرنا القديم”.
ونوه المؤلف أيضاً بجهود الدكتور كمال أبو ديب التي ظهرت في دراسته الممتازة الموسومة بـ”الرؤى المقنعة” وأشار إلى أن دراسته هي أبرز وأشهر الدراسات التي اتجهت إلى اختيار المنهج البنيوي لدراسة هذا الشعر فهي تعد محاولة جديرة بالمناقشة نظراً لما فيها من جهد متميز.

قد يعجبك ايضا