الوحدة اليمنية والحركة الوطنية

¶ الحركة الوطنية اليمنية قرنت الوحدة بالتحرر والديمقراطية
¶ مفهوم الجنوب لدى المناضل باذيب كان يعني اليمن الطبيعية
¶ موقف الأئمة من اليمن الطبيعية أنها موحدة باللغة والدين والتاريخ

محمد ناجي أحمد
غزا الأحباش اليمن حتى وصلوا إلى (ظفار) عاصمة الدولة الحميرية ،لكن اليمنيين بتكاتفهم استطاعوا طردهم ،ثم غزوا اليمن مرة أخرى في عهد الملك الحميري (ذي نواس)عام 525م،وتم استخدام الدين كذريعة لأطماع الإمبراطورية الرومانية التي أوعزت للبطالمة في مصر والأحباش لغزو اليمن ،وقد استمر هذا الاحتلال حتى عام 575م حين تم طردهم بقيادة (سيف بن ذي يزن ) بمساعدة الفرس.وقد قُتِل مسموما ،وحين جاء الاسلام كان اليمن قد فقد وحدته وقوته ،وأصبح اليمنيون متناحرين ،مما جعلهم يتجهون أفواجا للدخول في الاسلام.ومع عهد الفتوحات في خلافة أبو بكر الصديق وعمر وعثمان والعهد الأموي كان اليمنيون هم أساس الجند الذين جابوا الأرض في آسيا وأفريقيا وصولا إلى جنوب فرنسا.
لقد كان القرن السادس الميلادي هو قرن التشرذم وفقدان وحدة اليمن الطبيعية ،حتى جاء الصليحيون فوحدوا معظم اليمن تحت سلطتهم ،وجاء الرسوليون فوحدوا اليمن كلها تحت قيادتهم ،وكذلك جاء الأئمة القاسميون لتكون اليمن في ظل حكمهم موحدة ،ومن بعدهم كان الطاهريون الذين جاء الاستعمار العثماني في آخر عهدهم لينتزع منهم عدن ويغزو اليمن ،ثم جاء الاستعمار البريطاني من خلال شركة الهند الشرقية مستخدما اللافتة الطائفية في تحريض المناطق الشافعية لمحاربة من أسموهم بـ(الأئمة الزيدية ) وكان العثمانيون قد استخدموا هذه الورقة الطائفية في رفضهم لاستقلال اليمن بحجة أن المناطق الشافعية لا تريد الانضمام إلى (حكم الزيود ).لقد استطاع الانجليز استعمار عدن عام 1939م. وانتزعوا عسير ونجران لصالح الادريسي ثم ابن سعود ،وكانت قد احتلت الحديدة عام 1919م وسلمتها للإدريسي حتى عام 1923م.

مع بداية النصف الثاني من الخمسينيات من القرن العشرين كانت الحركة الوطنية ممثلة بنقابات العمال وبحزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب، والماركسيين الذين أعلنوا مؤتمرهم الأول للاتحاد الشعبي الديمقراطي –قد تأسست ورفعت شعار التحرر من الاستعمار والاستبداد وتحقيق الوحدة اليمنية.كان حزب البعث الاشتراكي العربي قد تأسس في عدن عام 1956م وفي الشمال عام 1958م ،وحركة القوميين العرب تأسست في القاهرة من الطلبة اليمني بمصر عام 1956م وأسست فروعها في الجنوب والشمال عام 1959م.كانت المجموعة المؤسسة للحركة في القاهرة من أبرزهم “فيصل عبد اللطيف الشعيبي وسلطان أحمد عمر ،وعبد الحافظ قايد وعبد العزيز الدالي وعلي عبد الله الأغبري ،وحسين العيني ،ويحيى عبد الرحمن الإرياني”.
لقد أضاف البعثيون في الخمسينيات هدف “الاشتراكية “إلى إلى شعارهم وبرنامجهم تأثرا بالمد الناصري وشعاراته التحررية والاشتراكية التعاونية الديمقراطية التي كانت مصر ترفعها في الخمسينيات قبل أن تنص على الاشتراكية العلمية في الميثاق الوطني للاتحاد الاشتراكي عام 1962م.
كذلك كان شأن حركة القوميين العرب التي كان شعارها “وحدة ،حرية ،ثأر”،ولم تكن الاشتراكية من أهدافها حتى عام 1991م م.
وحين تأسس “الاتحاد الشعبي الديمقراطي “عام 1961م بعقده لمؤتمره الأول ،كانت الوحدة اليمنية الديمقراطية الهدف الأساسي ،بل إن عبد الله باذيب من خلال كتاباته منذ عام 1957م كان يناضل في سبيل تحقيق التحرر من الاستعمار وتحقيق الوحدة اليمنية ،ويرى في الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر الأمل في دحر الدعوات الانفصالية التي مثلها آنذاك “حزب الاحرار “الذي تغير اسمه في الخمسينيات إلى “الاتحاد اليمني” والجمعية العدنية “بحزبيها “الحزب الوطني “و “حزب المؤتمر ” فالاتحاد اليمني كامتداد لحزب الاحرار والجمعية اليمنية الكبرى كان يناضل للتخلص من الحكم الإمامي مستعينا ومتواطئا مع الاستعمار الانجليزي.و”الجمعية العدنية “بحزبيها كانت ترفع شعار “عدن للعدنيين ” باستبعاد واضح لأبناء المحافظات الجنوبية والشمالية ،وكانت “رابطة أبناء الجنوب العربي “تطالب باستقلال “الجنوب العربي “بدولة بلا هوية وطنية ،بل إنها كانت تدعو إلى وحدة مع الجمهورية العربية المتحدة في قفز وتجاوز لوحدة الوطن اليمني شمالا وجنوبا.
لقد كانت الوحدة اليمنية “دائما قضية اليمن الأولى ،وشغلها الشاغل ،وهمها المقيم ،منذ سقطت دولتها المركزية الموحدة الأولى في القرن السادس الميلادي ،تحت وطأة تناقضات طبقة النبلاء ،والأذواء والأقيال والأقيان ،والكبراء ،وتحت سنابك جحافل الغزاة…”كما يرى ذلك الدكتور محمد علي الشهاري في كتابه “حول الوحدة اليمنية والانتهازية اليسارية والحزب الاشتراكي اليمني “فما أشبه الليلة بالبارحة!
يتوهم السطحيون من كتاب التاريخ بحسب رأي الدكتور محمد علي الشهاري أن الصراعات في العصور الوسطى في اليمن كانت طائفية بين أتباع هذه الملة أو تلك “لقد فاتهم أنها كانت صراعات وحروب من أجل إقامة سلطة مركزية واحدة تنشر لواءها ، وتبسط سلطانها على اليمن كلها “وكان من الطبيعي الاستعانة بهذا المذهب أو ذاك كون المذاهب برأيي هي أيديولوجيات ذلك العصر لبلوغ السلطة “وتزكية مد نفوذها على اليمن كلها أو بعضها”.
كان ذلك ديدن الصليحيين والرسوليين الذين وحدوا اليمن من أقصاها إلى أدناها ،والقاسميين الذين تمكنوا من توحيد اليمن خلفهم وطرد الغزاة الأتراك ،لتكون عاصمتهم صنعاء ،وبسطوا سيادتهم على اليمن كلها من أقصى شمال الشمال إلى عدن وحضرموت في الجنوب.وكذلك الشأن مع الحركة القرمطية التي انطلقت من جنوب البلاد ،والتي واجهت الإقطاع وأرادت توحيد اليمن بمضمون اجتماعي.
لقد كان لثورة 23 يوليو ومصر عبد الناصر تأثيرها المباشر على الحركة الوطنية في اليمن ،وفي ربط أهداف التحرر من الاستعمار والاستبداد بالعدالة الاجتماعية والوحدة اليمنية.
صحيح أن الضباط الأحرار في اليمن كانت لهم انتماءات لحزب البعث ولحركة القوميين العرب “إلاّ أن ميولهم السياسية كانت أقوى ما تكون نحو المثل الناصري ،كما أن عواطفهم كانت أشد ما تكون انجذابا نحو شخصية عبد الناصر بالذات “كما يرى ذلك محمد علي الشهاري في كتابه سابق الذكر ،بل إن حركة القوميين العرب “كانت ناصرية حتى العظم “بحسب تعبير سلطان أحمد عمر في كتابه “نظرة في تطور المجتمع اليمني “وهو في كتابه هذا الذي أنجزه أواخر الستينيات وبداية السبعينيات يرى أن الدولة الصليحية “كانت تخطب للخليفة الفاطمي في مصر وآل نجاح يخطبون للدولة العباسية في تهامة ،بينما دولة الأئمة ذات استقلال وطني، وهذا كان أحد عوامل بقائها على قيد الحياة “.
ويرى سلطان أحمد عمر أن الاسلاميين وعلى رأسهم محمد سالم البيحاني وحزب الشعب الاشتراكي بقيادة عبد الله عبد المجيد الأصنج كانوا يرون الثورة المسلحة ضد الاستعمار الانجليزي لن يجلب لليمن سوى الخراب ،بل إن البيحاني كما يرى القاضي عبد الرحمن الارياني كان قد أفتى بحرمة العمل الفدائي!
لقد كانت ثورة 26سبتمبر 1962م ،وهي التي يصفها سلطان أحمد عمر بـ”الانقلاب الجمهوري”-كانت هي الثورة الأم التي انبثق عنها وتطور منها ثورة 14اكتوبر 1963م ،مما يجعل تلازم الثورتين أساسا للوحدة اليمنية ،التي ناضلت الحركة الوطنية لتحقيقها ،سواء في اتفاقية القاهرة 1972م ،وبيان طرابلس ،أو بيان الجزائر عام 1973م أو اتفاقية الكويت عام 1979م والعديد من الحوارات واللقاءات التي كان شغلها الشاغل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية ،حتى تحققت في الثاني والعشرين من مايو 1990م كتتويج للنضال الثوري الوحدوي الديمقراطي.
لقد أكد الاتحاد الشعبي الديمقراطي في ميثاقه الوطني بأنه “ليس فقط الحقائق التاريخية والمفاهيم العلمية لوحدة الشعوب التي تؤكد وحدة الأرض اليمنية ،وإنما أيضا كون الموقف في الشمال شكل عاملا حاسما في تكييف وتقرير مصير الجنوب ” وجاء في نشرة الشبيبة التي أصدر “منظمة السلفي للشبيبة اليمنية الديمقراطية “عدد مارس 1972م –الشهاري، الخروج من نفق الاغتراب –إن”شعار الوحدة اليمنية بمضامينها الكفاحية التقدمية الأعمق برز في بلادنا مع ميلاد الطبقة العاملة كقوة منظمة في نقابات النصف الأول من الخمسينيات”.
وفي سياق نقده “للأحرار اليمنيين “يقول عبد الله باذيب إن “الأحرار “هونوا من شأن الاستعمار ،فيما ظلوا مصرين على أن الاستبداد أو الحكم المطلق في اليمن هو الخطر الأول الذي يجب التفرغ له وحشد الجميع للقضاء عليه ،ولو كان في ذلك تجزئة لقضية الشعب الواحدة وتجميد لنضاله ضد الاستعمار ،ولو انفلتت اليمن ،وارتبطت بحلف بغداد وأكاد أقول ولو سقط ظل الاستعمار من جديد على كل بلد عربي!! وهكذا اتسم موقف (الأحرار) من الاستعمار هنا وهناك بالسلبية والانعزالية والمهادنة ،بل والتخلف والتناقض مع مفاهيم وشعارات القومية العربية وحركات التحرر الوطني…”.
لقد كان على رأس المهام التي طرحها “حزب الوحدة الشعبية “فور تأسيسه في 5مارس 1978م في عدن “النضال من أجل قيام سلطة ديمقراطية متحررة من النفوذ السعودي والامبريالي لتحقيق طموح شعبنا في الحرية والديمقراطية والوحدة بمضمونها الاجتماعي التقدمي والديمقراطي.والنضال من أجل دحر الغزو السعودي للأراضي اليمنية.وصد إقامة القواعد العسكرية الأجنبية ،وصيانة السيادة الوطنية.والنضال من أجل إعادة توحيد الوطن على أسس وطنية ديمقراطية.وقد كان حزب الوحدة الشعبية هو الإطار التوحيدي لخمسة أحزاب هي :الحزب الديمقراطي الثوري ،وحزب الطليعة الشعبية ،وحزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي وحزب العمل والمقاوميين الثوريين.
ولأن الحزب الاشتراكي كان الإطار الجبهوي كحزب طليعي لجل الأحزاب القومية واليسارية فلقد كان عداؤه للإمبريالية الغربية والرجعية العربية والتي تأتي على رأسها السعودية.وكان شعار إعادة تحقيق الوحدة اليمنية ملازماً لتنفيذ الخطة الخمسية، أي ملازم للتحولات الاجتماعية ،وفي علاقة جدلية بين الوحدة والديمقراطية كمطلب ينبغي تحقيقه على أساس الحفاظ على السيادة اليمنية ومحاربة الأحلاف والقواعد الغربية ،وإنجاز التحولات الثورية الديمقراطية.وهو الطريق الذي كلل بالتوقيع على اتفاقية الوحدة اليمنية في 30نوفمبر 1989م ،وتحقيق الوحدة اليمنية في 22مايو 1990م حين قام الرئيس علي عبد الله صالح ونائبه علي سالم البيض برفع علم الجمهورية اليمنية تجسيدا لاستعادة الوحدة اليمنية ،في مسار سلمي استمر لعقود.كخطوة لاستعادة وحدة اليمن الطبيعية…
عضوية الثورة والوحدة في فكر باذيب :
الوحدة تعبير عن تطور في مسار المجتمعات ،وانتقال من “سيادة العلاقات القبلية والصراعات الدموية بين القبائل شبه المستقرة ،لم يكن ممكنا وجود وحدة بينها ،وقيام دولة توحد أقاليمها غير المحددة المعالم ،وتضع حدا لقانون الثأر والثأر المضاد الذي سود بينها “ص12- بحسب الدكتور (محمد علي الشهاري) في كتابه (جدل الثورة والوحدة اليمنية ودور عبد الله باذيب ) الصادر عن مكتبة مدبولي 1990م- وإذا كان الاستعمار قد اتبع سياسة التفريق كي يسود ،ثم سياسة التجميع ومعالجة الثارات كي يسود أيضا، ثم قامت الجبهة القومية ،والتنظيم السياسي الموحد والحزب الاشتراكي بمعالجة جذرية للثارات القبيلة ،ومحو الأمية من خلال إنشاء مدارس البدو ،وصهر الجميع في إطار الدولة –إلاّ أن العلاقة بين شطري اليمن شمالا وجنوبا ظلت في صراع مبنية على الثأر والثأر المضاد ،بلافتات أيديولوجية ،تواري التخلف الاجتماعي ،وتعكس قشور الحداثة باسم ( الله ) وباسم (الاشتراكية العلمية ) بدعاوى التقدمية و(دعاوى) (الرجعية ) في مجتمع متماثل ثقافيا واقتصاديا وفي أنساقه الاجتماعية المتخلفة.
عبَّرت الحركة الوطنية بفصائلها القومية واليسارية عن مطلب الوحدة اليمنية ،وقرنته بمطلب التحرر والديمقراطية “وكانت صياغة عبد الله باذيب ،وبلورته لها في شعاره المعروف “نحو يمن حر ديمقراطي موحد ” هي أقوى وأرصن الصياغات المعبرة عن رؤية الطبقة العاملة تجاهها “ص17-المرجع السابق.
لقد أصبح جليا أمام الحركة الوطنية أن توحيد اليمن مرتبط بالتحرر من الاستعمار والاستبداد ،وعلى ذلك كان نضال ونهج الحركة الوطنية منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين” وإنما غدت قضية الحركة الوطنية منذ ميلادها في منتصف الخمسينيات ،وقضية الطبقة العاملة التي رفعت لواءها ،وهتفت بشعاراتها ،وسكبت من أجلها دماءها ،قرنتها بشعارات التحرر الوطني من الاستعمار ،والتحرر السياسي والاجتماعي من الاستبداد والإقطاع والبرجوازية الطفيلية الضالعة مع المستعمر” ص 18 – 19 – المرجع السابق.
لم تطرح قضية الوحدة اليمنية لدى الحركة الوطنية اليسارية “باعتبارها قضية وطنية فقط ،وإنما أيضا قضية اجتماعية ،من حيث أن تحقيقها لن يتم بعملية جمع حسابية ،وإنما بعملية طرح حسابية ،تستبعد القوى الاجتماعية والسياسية التي تتناقض مصالحها مع إقامة دولة يمنية وطنية ديمقراطية موحدة متحررة”ص 22 – المرجع السابق.
كانت الوحدة اليمنية كقضية تحرر وطني والقضية الاجتماعية متلازمتين وحاضرتين بوعي في ميثاق الجبهة القومية ،الذي أقره المؤتمر الأول للجبهة القومية المنعقد في تعز ما بين 22-25يونيو 1965م “والذي مثل أول وثيقة برنامجية معلنة ،يتضح جليا هذا الحس النضالي المعادي ليس للاستعمار فحسب ،وإنما أيضا للإقطاع والبرجوازية ،والنابض بقيم الثورة الوطنية والثورة الاجتماعية ،إلى حد الحديث عما أسماه “الاشتراكية الثورية “ص22- بحسب تعبير الشهاري في كتابه سابق الذكر. فالميثاق الوطني للجبهة القومية يؤكد أن إعادة وحدة شعبنا العربي في إقليم اليمن شماله وجنوبه ،سير نحو وحدة عربية متحررة ،مطلب شعبي وضرورة تفرضها متطلبات الثورة ،ويجب أن تتم على أسس شعبية وسلمية. والبيان السياسي الصادر عن القيادة العامة المنتخبة في مؤتمر الجبهة القومية الرابع في زنجبار بتاريخ 9مارس 1968م نص على انه “بالرغم من أننا حققنا طرد المستعمر ،والقضاء على النظام السلاطيني شبه الإقطاعي في جمهوريتنا. إلاَّ أنه يجب ألاّ يغرب عن بالنا أن تحررنا الوطني لن يتحقق بشكله السليم إلاَّ بانتصار ثورتنا في الشمال وتحقيق وحدة الإقليم اليمني ليتحمل مسؤوليته التاريخية تجاه الخليج العربي ،وعموم الجزيرة العربية ،في القضاء على الامبريالية العالمية والرجعية ” ص24 المرجع السابق – الشهاري ،نقلا عن كتاب أزمة الثورة في الجنوب اليمني-نايف حواتمه.
ومما أضافه المؤتمر التوحيدي للتنظيم السياسي –الجبهة القومية ،في تقريره السياسي عام 1975م ،هو تأكيده على ” أن الوحدة اليمنية هي التعبير الأمين والصادق للمصالح المادية والروحية لأوسع جماهير شعبنا اليمني. إنها التعبير الصادق والأمين لمبادئ وأهداف مواصلة العمل الدؤوب لتوفير الأجواء الصحيحة لتحقيقها بواسطة الطرق السلمية ،وبمضامين وطنية ديمقراطية ” ص26-جدل حول الثورة والوحدة اليمنية –محمد على الشهاري.
كل ثوري حقيقي لا يقف على النقيض من قضية الوحدة ،كونها في جوهرها قضية ثورية تحررية ديمقراطية.وكل أدبيات الجبهة القومية والتنظيم السياسي الموحد والحزب الاشتراكي اليمني ظلت تراكم من بصر وبصيرة الثورة والوحدة “ولأن قضية الوحدة اليمنية جزء لا يتجزأ من قضية الثورة اليمنية المعاصرة ،فإن صدق المؤمنين بها يتجلى في مدى التحامهم بهذه القضية الأعم ،وفي مدى وقوفهم إلى جانب المناضلين الثوريين قولا وعملا ” ص13 جدل حول الثورة والوحدة. فالوحدة ظلت “أمانة ومسؤولية الحزب الاشتراكي “في ترابطها العضوي مع الجماهير الشعبية وبينها وبين الديمقراطية والتقدم الاجتماعي.
سعى الحزب الاشتراكي كي تكون الوحدة اليمنية وحدة شعبية متينة وصلبة ،رافضا للطرق” التي تؤدي إلى تعزيز مواقع القوى الرجعية ،على حساب تضحيات الشعب اليمني ومنجزاته ” ص28-المرجع السابق.
يمكننا أن نصف الحكم المتوكلي بالعاجز عن تحقيق منجز الوحدة اليمنية ،إزاء خصوم وتحديات تمثلت بالسعودية والاستعمار البريطاني ،ورضوخه لمطالبهم في اتفاقية الطائف بعد حرب شنها الطرفان السعودي والبريطاني بغرض تركيع المملكة المتوكلية اليمنية ،وإجبارها على توقيع اتفاقية 1934م معهما – إلاَّ أن الموقف من وحدة اليمن الطبيعية ظل ثابتا ،واستمر التعبير عنه رسميا بعد تلك الهزيمة ،والتوقيع على اتفاقية الطائف مع السعودية لمدة عشرين عاما ،ومع الاستعمار البريطاني لمدة أربعين عاما. فقد رفض مندوب المملكة المتوكلية في الجامعة العربية واعترض “على محاولات سلطان لحج الانضمام إلى الجامعة، على اعتبار أن الجنوب اليمني كله جزء لا يتجزأ من اليمن –كما كان يعترض على محاولات رابطة أبناء الجنوب تمثيل هذا الجزء من اليمن في المؤتمر الآىسيوي –الأفريقي لذات الحجة “ص43-المرجع السابق. إضافة إلى بعض الدعم الذي كان يقدمه الإمام لبعض القوى القبلية المتمردة على الحكم البريطاني…
إن التحولات التاريخية ومنها مطالب الشعوب تتحقق وتظهر إلى حيز الوجود حين تتوفر الشروط المادية لتحقيقها ،وأزعم أن وحدة 22مايو كانت نتيجة لتلك الشروط الموضوعية ،وذلك المسار الثوري نحو الوحدة ،الذي حملته على أكتفاها الحركة الوطنية اليمنية.
كانت الوحدة اليمنية بحسب الدكتور محمد علي الشهاري في كتابه آنف الذكر ” واحدة من أبرز القضايا التي ارتبط بها نضال عبد الله باذيب منذ اقتحم ميدان الحياة العامة في الخمسينيات ،وبالذات منذ 1954م ،إلى يوم رحيله في 16أغسطس 1976م.كانت تسمية “الجنوب ” أو “الجنوب الكبير ” أو ” الجنوب العربي ” هي التسمية المرادفة التي كان يستخدمها في مبدأ الأمر ،قاصدا بها اليمن ،قبل أن يثبت التسمية الأخيرة في جميع كتاباته ،غير عابئ بما يترتب عليها من عنت أو قهر من قبل قوى الاستعمار ،والقوى الانفصالية الضالعة معه ” ص233.
نعم لقد كانت العلاقة الجدلية بين التحرر الوطني من الاستعمار السياسي ،والنضال من أجل تحقيق الوحدة اليمنية والديمقراطية هي المثلث النضالي المترابط عضويا لدى باذيب ،مع التأكيد أنه كان يرى الوحدة اليمنية نتيجة ،تترتب على توفر ونضوج شروطها الموضوعية ،وليست سببا ومقدمة.
كذلك فإن مفهوم (الجنوب) كان المقصود به لدى باذيب بحسب منطوق كتاباته ،يشمل ” عدن والمحميات واليمن” ومصطلح (الجنوب الكبير ) كان مرادفا لمصطلح اليمن الطبيعية ،ثم بعد ذلك أصبح مصطلح اليمن في السنوات الأخيرة من خمسينيات القرن العشرين هو المصطلح الذي يستخدمه باذيب للتعبير عن اليمن ،بشماله وجنوبه وشرقه وغربه.
وقد يتساءل القارئ :ما الذي يجعل باذيب يتدرج تاريخيا في استخدام مصطلحات ملتبسة وصولا إلى المصطلح الواضح في دلالته الوحدوية؟
بحسب وجهة نظري فإن باذيب كان يتطور في مواقفه ،وفي سياق رده على محمد أحمد نعمان ،في جدل صحفي بينهم من خلال مقالات نقدية لكليهما نشرت في النصف الثاني من الخمسينيات. كان رأي محمد النعمان أن باذيب يتناقض في مواقفه ،وكان رد عبد الله باذيب :أنا أتطور.
والسبب الثاني من وجهة نظري بخصوص هذه المصطلحات الملتبسة –يعود إلى الاستعمار البريطاني ،الذي صاغ قوانين لمستعمرة عدن تجرم وتدين من يكتب أو يدعو أو يساعد أو ينشر أو يتبنى مواقف مطالبة بالوحدة اليمنية.وقد سجن ونفي العديد من مناضلي الحرة العمالية ،والصحفيين ،والسياسيين ، وكان انتقال باذيب إلى تعز عام 1959م حين علم بوجود نية لنفيه إلى ريف حضرموت ، فما كان منه إلاَّ أن فرَّ إلى تعز ، محاولا من خلال إصداره صحيفة الطليعة أن يستغل التناقض بين المملكة المتوكلية والاستعمار البريطاني ، ولقد كانت أعداد صحيفة الطليعة الصادرة بتعز عاكسة لاستثمار هذا الهامش ،وحين وجد سقف الهامش والتناقض لا يساعده على أكثر مما كتب من مقالات ،وكان التحريض ضده متواصلاً من الحسنيين بأنه (شيوعي ) حينها عاد إلى عدن ،وأسس(الاتحاد الشعبي الديمقراطي) ،وواصل نقد الاستعمار والاستبداد ،ثم أصدر صحيفة (الأمل ) عام 1965م ،التي تم حرق مقر الصحيفة وإغلاقها فلم تكمل العام منذ صدورها ،بسبب مواقفها المنحازة للكفاح المسلح ،وتم رمي قنبلة على مسكن باذيب في كريتر في ذلك العام.
الغالب على العمل السياسي والتنظيمي في اليمن منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى الآن هو العمل الجبهوي ، فالاتحاد الشعبي الديمقراطي بحسب ما كتبه باذيب وصاغه في (الميثاق الوطني) للاتحاد هو تجمع جبهوي وليس حزبا “وهذا الاتحاد ليس حزبا ،وإنما هو تجمع وطني ،يقبل ويرحب بأي عنصر وطني مستقل ، يؤمن بمبادئ الاتحاد ،ويتبنى الميثاق الوطني “كما جاء في مقدمة (الميثاق الوطني) للاتحاد ،المنشور في ص187-كتابات مختارة –ج2-بيروت 1978م.
وعلى هذا النهج التجميعي والتجمعي والجبهوي كان تأسيس (التنظيم السياسي الموحد )من (الطليعة الشعبية ،والاتحاد الشعبي الديمقراطي ،والجبهة القومية )وكان تأسيس (الحزب الاشتراكي اليمني ) من فصائله الثلاث السابقة مع حزب الوحدة الشعبية ،الذي مثل خمس فصائل في الشمال تم توحيدها ،وهي )الطليعة الشعبية في ،واتحاد الشعب الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الثوري اليمني ، والمقاومين الثوريين ،وحزب العمل ) كذلك التجمع اليمني للإصلاح ،هو تجمع جبهوي للقوى المحافظ ،او التي تسمي نفسها بقوى الإصلاح ،والمؤتمر الشعبي العام ،هو أيضا مماثل في بنيته التكوينية للتجمع اليمني للإصلاح ،بل إنهما صوت وصدى من حيث الأدبيات والغايات السياسية.فهما التعبير الحقيقي عن مقررات خمر عام 1965م.والذي كان من مخرجاته إنشاء (حزب الله ) كتسمية للداخل اليمني ، و(المؤتمر الشعبي) كتسمية للتعامل مع الخارج. كذلك التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري ،هو تحالف لقوى الشعب العامل ، أي تنظيم تجمعي وتجميعي للبرجوازية الصغيرة والبرجوازية المتوسطة والعمال والفلاحين ، والجنود والمثقفين ،والتكنوقراط إلخ. وقبل ذلك كانت حركة القوميين العرب حركة جبهوية تأسست من أجل الثأر لفلسطين وهزيمة 1948م.
لم يعلن باذيب عن تنظيمه (حزبا شيوعيا) لعدة عوامل منها: أن وضع الطبقة العاملة رغم حضورها الفاعل في مسرح الأحداث السياسية منذ منتصف الخمسينيات ،إلاَّ أنها تتسم بالضعف الكمي والنوعي “ناهيك عن تخلف البنية الاجتماعية –الاقتصادية “ص260-جدل حول الثورة الوحدة اليمنية…- محمد علي الشهاري.
لذلك فإن الأنسب للأوضاع اليمنية ،ومرحلة تطورها هو العمل الجبهوي التجمعي ،لكن أن تظل هذه هي سمة العمل السياسي والنشاط الحركي منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى يومنا –فإن ذلك يؤشر على مدى الجمود الاجتماعي والاقتصادي الذي لا يسمح بقيام نشاط حزبي ،يعبر عن الفرز الاجتماعي ؛لغياب عوامله الموضوعية ، فاليمن بتداخل أزمنته الاجتماعية والثقافية لازال السائد فيها هو زمن شبه إقطاعي متحالف مع البرجوازية وشبه الإقطاع العسكري والسياسي.
من هنا يصبح العمل السياسي من خلال (الكتلة التاريخية ) المتلاحمة الأهداف المشتركة هو الأقدر على تحقيق التحولات السياسية ،وما يترتب عليها من تحولات اجتماعية واقتصادية.
إن بعض الكتابات وصفت باذيب بأنه حامل راية الأيديولوجيا ،وأن عبد الفتاح إسماعيل يتميز بسمة الخطاب الثقافي، ووجهة نظري أن العكس هو الصحيح ،فباذيب كان في جدل دائم مع الواقع ،وكان عبد الفتاح إسماعيل في انشداد أكثر للمقولات والأحكام الماركسية المقولبة بنصوص وعبارات متواترة.وإن كان الدكتور محمد علي الشهاري في كتابه سابق الذكر –يرى أن عبد الله باذيب كان –شأن عبد الفتاح –رمزا لهذا المثقف العضوي ،صاحب الرسالة والقضية الاجتماعية والأيديولوجية الثورية “ص283. فهما يجمعان من وجهة نظره –بين الأيديولوجيا التي تعكس مصلحة الطبقة وبين الثقافة التي ” تهتم بمعرفة وتملك وإنتاج الواقع الموضوعي ،الاجتماعي والطبيعي ،بينما تقتصر الأيديولوجيا على عكس هذا الواقع من زاوية واحدة :زاوية مصلحة هذه الطبقة أو تلك ، ومن ثم تكون رؤيتها مشوهة محدودة ،قاصرة ،ملونة بلون هذه المصلحة الطبقية ” 283-جدل حول الثورة والوحدة اليمنية ودور عبد الله باذيب – د.محمد علي الشهاري –مكتبة مدبولي –الطبعة الأولى 1990م
عبد الله باذيب والانحياز
للإنسان ووحدة المقهورين:
ولد عبد الله عبد الرزاق باذيب في الشحر بمحافظة حضرموت سنة 1931م ، وتلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي بمدرسة بازرعة الإسلامية ، وتعليمه الثانوي بالمدرسة الحكومية الثانوية بكريتر. إلاَّ أنه لم يكمل السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية ، فقد اضطرته الظروف المعيشية الصعبة لأسرته أن يترك المدرسة عام 1951م ليعمل في الصحافة محررا وسكرتيرا ورئيس تحرير الخ. لم تكن الصحافة جديدة عليه فلقد أصدر (مجلة المستقبل ) وهو طالب في الصف الأول الثانوي ،ومن تصفح أعدادها نلحظ القدرة التحريرية في الإخراج وتوزيع الأبواب وتنوعها. لكن ما يلفت النظر بشكل رئيسي هو انحياز باذيب لقضايا الإنسان منذ كان طالبا يحرر هذه المجلة وعمره آنذاك تسعة عشر عاما أو أقل. نجده حين تم اعتقال عمر سالم طرموم-وكان وقتها سكرتير نادي الشباب اللحجي- من قبل السلطات اللحجية ، يفرد مقالة بعنوان (من ضحايا الجنوب –عمر سالم طرموم ) وبلغة قصصية يحكي للقارئ ما تعرض له طرموم بقوله ” إن الشاب الذي نروي مأساته الآن ليس سجينا عاديا أو شهيدا عابرا من شهداء ديكتاتورية الجنوب ،وضحايا استبداد السلاطين ، بل هو روح من أرواح المستقبل وبذرة في أعماق الجيل الجديد…”.
ومن ذات المنطلق الثوري يكتب مقالا بعنوان (هذا…أو ذاك ) في صحيفة (الجنوب العربي) -العدد 114-1يناير 1957م،وجهه للشيخ البيحاني ، متحدثا فيه عن الدعوة التي وجهوها للبيحاني كي ينصر القضية الوطنية في خطبه على منبر العسقلاني ،لكن الشيخ “ذهب ليهاجمنا من محطة إذاعة حكومة عدن. وهكذا اختلط على الشيخ أمر منبر العسقلاني ،وميكرفون الإذاعة الرسمي ،ولكن الناس لن يختلط عليهم أمر الشيخ بعد الآن “ص211مختارات-ج1.ويعرَّض في مقال آخر لاستجابة الشيخ المساهمة في حملة ضد السل ، مدفوعة الأجر ،ورفضه أن يسهم في مواجهة الاستعمار كأس لكل داء في الوطن!
يكتب في صحيفة (النهضة ) مقالا بعنوان (عدن لمن ؟)العدد 255-16يونيو 1955م ،يرد فيه على أصحاب شعار (عدن للعدنيين ) منتقدا مطالباتهم بأن تكون الوظائف حكرا على أبناء عدن “عدننة الوظائف” الموجهة ضد أبناء المحميات والشمال! ويصف مسار دعاة الاتحاد الفيدرالي بأنهم “كمن يريد أن يوحد الجنوب عن طريق تجزئته ، وأن يقنع الناس بسلامة المبدأ الاتحادي بواسطة السعي إلى تثبيت الأوضاع الانفصالية القائمة ” ص54 كتابات مختارة –ج1–عبد الله باذيب-دار الفارابي-1978م.وينتقد الصحف العدنية التي تتناول أحداث الشمال لا كقضية وطنية وانتماء عضوي لها ،بل ” كمن ينظر إلى الرجل الغريب القادم من أقاصي الغرب إلى بلد شرقي! وتتخذ من الانقلابات في الشمال كمادة لإثارة القارئ واجتذاب اهتمامه ولترويج أعدادها!
لم تكن إسهامات باذيب الفكرية والسياسية المتعلقة بثورة سبتمبر وتوجيهها نحو إنجاز ثورة اجتماعية هي الاسهامات الوحيدة له ، فلقد استمر منذ منتصف الخمسينيات يكتب في صحف النهضة والبعث والجنوب العربي والفجر ، والفكر والطليعة واليقظة… الخ، متناولا حركة 1948م و1955م ،وكتب عن حزب الأحرار والاتحاد اليمني ورجالاته. وكان في كل كتاباته ذلك الملتحم بقضايا اليمن واليمنيين ،باتقاد السياسي وإيمان الثائر وحكمة المفكر.
صحيح أنه حاكم حركة 1948م بمعيار أنها كانت تغيير إمام بإمام ،وأنها صراع داخل بنية الحكم لا اجتثاث له ، وأنه تخلى عن هذا المعيار حين وصف انقلاب 1955م بالثورة ،ووصف المقدم أحمد الثلايا بالثوري المتطرف بثوريته منذ وقوفه بحسب زعمه مع حركة 1948م ،والحقيقة أن الثلايا في حركة 48م كان في صف ولي العهد أحمد قائد مفرزة في حجة ،ولم ينحز لجماعة 48م لا قولا ولا فعلا. كان باذيب في كتابته عن انقلاب 1955م مبررا ومنحازا لسيف الإسلام عبد الله والثلايا أكثر منه مدققا ومتأملا ومحللا ، لكن باذيب وقتها كان في الخامسة والعشرين من عمره ،بكل ما يعنيه هذا السن من اندفاع وتسرع وميل إلى الجزم وإصدار الأحكام المطلقة، نجد ذلك الحماس والاندفاع والأحكام القطعية في كتاباته في الأعوام 1954-1956م،وتحديدا في الجزء الأول من المختارات التي جمعت في مجلدين عن دار الفارابي عام 1978م.
ما يهمنا هنا هو تجذر القضية الوطنية اليمنية في كتابات باذيب.
لاشك أن الوحدة اليمنية في فكر عبد الله باذيب ليست فكرة ساكنة ،وإنما متحركة ونامية مع تطور الوعي والصراع الوطني والاجتماعي. فهو بدا مؤمنا بفكرة الجنوب العربي وحق تقرير المصير في إطاره الجنوبي كهوية لها خصوصيتها بحسب وجهة نظر لها أنصارها ،ثم أصبحت الوحدة اليمنية لديه هي المصير الحتمي لنضال الشعب اليمني الذي يطلق عليه شعب الجنوب الكبير ، لتستقر قناعاته بالوحدة اليمنية للشعب والجغرافيا اليمنية الواحدة في سياق الوحدة العربية ،كنضال لوحدة الكادحين وطنيا وعربيا وإنسانيا.
من هنا فإن من أراد أن يستقرئ مفهوم الوحدة اليمنية في فكر باذيب فإن عليه أن يتنبه للسياق الزمني وتطوره وصراعاته ،لا أن يأخذه ساكنا وجامدا.
يقدم باذيب صورة واضحة للأحرار اليمنيين ،الذي هم بالنسبة له صورة مطابقة ومتكاملة للجمعية العدنية ،بتواطؤ واضح مع الاستعمار ،والسكوت عنه في نشراتهم! يقول عنهم (كل الأحرار العرب تمسكوا بتعاليم عبد الناصر وأخلصوا لها ،إلاَّ “الأحرار” ) “وإذا كان هناك أناس يمكن أن يوصفوا بالتناقض مع أنفسهم فهم هؤلاء “الأحرار” إن لهم في كل بلد لونا ومبدأ وسياسة خاصة ، هم في مصر يؤيدون الإمام ،وهم هنا في عدن وفي هذه الظروف يشنون الحرب على الإمام وهم في السودان يطبعون كتيبا يهاجمون فيه الإمام ويؤيدونه في آن”ص236 كتابات مختارة –ج1.
بل ويعرفهم بطريقة متهكمة قائلا ” و”الأحرار” هو الاسم الذي يطلق على جماعة من اليمنيين يختلفون في كل شيء ولا يجمع بينهم إلاَّ شيء واحد هو النقمة على الأوضاع القائمة في اليمن “ص244 كتابات مختارة-ج1.
وينتقد مساندتهم لدعاة (الحكم الذاتي ) وروابطهم العضوية مع (الجمعية العدنية) التي ترى أبناء الشمال أجانب في عدن! بل ويصف المسؤول الأول في هيئة “الأحرار ” بأنه عدو للشعب اليمني قبل أن يكون عدوا للإمام ” إنه يبارك الاستعمار…إنه عميل “ص248-249 المرجع السابق. وينتقد المواقف والآراء الانفصالية والشعوبية التي يرددها (محمد علي لقمان) في جريدته الناطقة بالانجليزية (البدن كرونيكل ) وكيف يروج صاحبها لنزعاته الانفصالية. فحين سأله (علي جمالاي ) وزير الشؤون الاجتماعية في صوماليا أثناء زيارة لقمان لمقديشو عام 1957م –سأله الوزير :لماذا لا تدعو إلى توحيد عدن والمحميات تحت لواء اليمن ؟
فأجاب لقمان:هل يرغب الوزير في أن يعمل على توحيد صوماليا مع أثيوبيا؟” ص250. المرجع السابق.
يصف عبد الله باذيب تحولات محمد علي لقمان من “الحكم الذاتي ” لعدن ، إلى اتحادي جنوبي ، بأنه تحول من ” انفصالي عدني إلى اتحادي جنوبي ، وبمعنى آخر إلى ” انفصالي جنوبي ” فهذه التحولات التي تتم بتوجيهات بريطانية هي أكبر عائق “في طريق وحدة اليمن الطبيعية ” ثم يحدد موقفه في وجه هذه الدعوات والتحولات التي تنطلق وفقا لمصالح الاستعمار وتوجيهاته ،قائلا ” مهما يكن من شيء فلقد قلناها من قبل باسم شعبنا : لا “عدنية ” ولا ” جنوبية ” بل شعب واحد ويمن طبيعية. ولا جنوب ولا شمال..ولا حكما ذاتيا..ولا اتحاد الجنوب..بل التحرر وحق تقرير المصير من أجل يمن حرة طبيعية واحدة تظللها راية الجمهورية العربية المتحدة “ص310 المرجع السابق.
في هذا المقام الدلالي يأتي مفهوم (حق تقرير المصير ) وهو المفهوم الذي وضحه باذيب في مقال له بعنوان (معنى “حق تقرير المصير )شرح فيه هذا المفهوم في سياق رده على سيف الإسلام محمد البدر ،حين صرح البدر في لندن عام 1957م أثناء وجوده في لندن بمنح الشعب في الجزاء المستعمرة حقه في تقرير مصيره ،وقد اعتبرت الصحف المصرية آنذاك هذا التصريح تنازلا وتساهلا.
يرى باذيب أن حق تقرير المصير في الأجزاء المستعمرة ليس حكرا عليها فقط وهو حق للأجزاء المستقلة في اختيار الحكومة التي يحب ونظام الحكم الذي يريد ” فبالنسبة له “لا يمكن وضع شعار حق تقرير من جانب الوطنيين بمواجهة مطلب الوحدة أو كبديل عنه، لأن ذلك يتساوى في النتيجة مع فصل قضية التحرر عن قضية الوحدة ،وإنما تمسكنا بالوحدة ،ومطالبتنا بها هي التي ستأتي لنا بحقنا في التعبير عن آرائنا في جو حر وبعيدا عن أي نفوذ أجنبي. وكذلك لا يمكن رفع شعار حق تقرير المصير مع الدعوة والإصرار المسبق على كيان مستقل للجنوب في وقت واحد. وان من يفعل ذلك يناقض نفسه ،لأنه قد قرر في الواقع مصير الجنوب مقدما وحسب هواه.” ص192 كتابات مختارة –ج2.
ولهذا كان شعار الميثاق الوطني لحزب (الاتحاد الشعبي الديمقراطي ) الذي أسسه عام 1961م هو (نحو يمن حر ديمقراطي موحد) وحددت مقدمة الميثاق أولويات مهام الاتحاد بـ ” إنجاز مهما تحركه الشعب اليمني الهادفة إلى التحرر الوطني والوحدة اليمنية والديمقراطية ، من أجل الإسهام بقسط في بناء الوحدة العربية الشاملة على أسس صحيحة متحررة ” ص182 المرجع السابق.
ويؤكد على أن الاستعمار عمل ويعمل على إرهاب وترحيل أبناء الشمال ،بسبب الدور الذي يقومون به في إفشال طمس الهوية اليمنية والعربية لمدينة عدن ” فهو يعرف جيدا أن هذه الجماهير هي القاعدة الشعبية السياسية التي ترتكز عليها حركتنا العمالية بوجه خاص وحركتنا الوطنية بوجه عام..وهي التي تصون وجه عدن العربي الأصيل ،وهي التي تضحي وتناضل وتقدم الضحايا والشهداء…وبدونها لا حركة وطنية ولا حرية ولا وحدة ولا شيء على الإطلاق ؟؟”الطليعة –العدد الرابع -25اكتوبر 1959م-كتابات مختارة –الجزء الثاني – ص38.ويختتم مقال (لا مساومة ولا تراجع )المنشور في الطليعة 29نوفمبر 1959م بلازمته التحررية الوحدوية (عاش كفاح شعبنا من أجل التحرر والوحدة اليمنية ). إن موقف عبد الله باذيب من أصحاب (الحكم الذاتي ) والرابطة والاتحاد اليمني ينطلق من إيمانه التحرري الوحدوي ،وضد تواطؤ هذه القوى مع الاستعمار. ففي مقاله ( دفاع عن الوحدة اليمنية) يعري تفكير قيادات الرابطة وخطابهم الانفصالي ،فيقول ” من أجل ذلك راحوا يطعنون الوحدة اليمنية ويسمونها “غزوا متوكليا ” ويطلقون على الجنوب اسم “الجنوب العربي ” وهي تسمية مفتعلة ،فيها خداع وزيف ،وفيها تعميم متعمد..وهم يتخذون من هذا التعميم ستارا لطمس وحجب “يمنية “الجنوب المحتل وتغطية أهدافهم الانفصالية “ص50-كتابات مختارة –ج2-دار الفارابي 1978م.
الوحدة اليمنية لدى باذيب “ليست نزوة مؤقتة أو عاطفة غامضة ولكنها دعوة وطنية عميقة ،يؤكدها منطق التاريخ والمفهوم العلمي للشعب الواحد ،وتفرضها الروابط الأصيلة المشتركة وضرورات الكفاح المشترك ” هي انتماء وجودي يكثف دلالاته في خاتمة مقال ( دفاع عن الوحدة اليمنية ) المنشور في صحيفة الطليعة –العدد التاسع-20ديسمبر 1959م بقوله “وليس هناك شيء اسمه “الجنوب العربي ” وليس هناك يمنان…ولا جنوب ولا شمال بل يمن واحد وشعب يمني واحد.
عاش كفاح الشعب اليمني من أجل التحرر الوطني والوحدة اليمنية.
عاشت الوحدة اليمنية طريق الوحدة العربية “ص52 كتابات مختارة-ج2.
وبعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م نشر باذيب مقالا في صحيفة (اليقظة) بتاريخ 10اكتوبر 1962م تحدث فيه عن الخطوات الداخلية والخارجية الكفيلة بحماية الثورة واستمراريتها ، ومن ذلك دعوته للوقوف بكل حزم ضد كل الذين يريدون حرف مسار الثورة ، ودعا إلى تكوين فرق للمقاومة الشعبية في كل قرية ومدينة ، لتقف ضد الرجعية والاستعمار، داعيا إلى إطلاق الحريات الديمقراطية وفي مقدمتها حرية القول والكتابة والتظاهر والإضراب والتنظيم السياسي والنقابي.والاستناد الكامل على الجماهير الشعبية في حماية الجمهورية والأصدقاء الحقيقيين للشعب اليمني في الخارج ،والتمهيد لوضع دستور تضعه هيئة تأسيسية منتخبة انتخابا عاما حرا مباشراً ،تتحول فيما بعد إلى مجلس نيابي تكون الحكومة مسؤولة أمامه. والوقوف بحزم ضد الشركات والبنوك الاحتكارية الأجنبية ،وتحقيق التعاون بين القطاع العام والخاص ،وتحقيق النهضة العلمية والفكرية ،والقضاء على الأمية ،وإلغاء الخطاط والتنافيذ وجميع الأنظمة المجحفة وغير الإنسانية.
باذيب وقوى خمر :
حين نشر باذيب في صحيفة (الأمل) العدد 1-6يونيو 1965م –مقالا بعنوان (معالم على طريق خمر ) لم يكن على اطلاع وفهم لمؤتمر خمر ومقرراته ،ولذلك كتب عنه قائلا “وكان المؤتمر تجسيدا رائعا لإرادة الشعب اليمني ،واختياره الجمهوري ،ورغبته في أن يسود السلام على أراضيه من اجل أن يتفرغ لبناء بلاده وتصفية بقايا العصور الوسطى” ص 112-كتابات مختارة ج2. لكنه حين اتضح له أن هذه القوى هي بقايا العصور الوسطى ، من أشباه الإقطاع والملاك نحت كتاباته باتجاه كشفها ونقدها ، فمن ذلك المؤتمر وقراراته كان مؤتمر الطائف ، والتآمر على إسقاط اسم الجمهورية ، واتخاذ اسم (الدولة الإسلامية ) بدلا عنه ،وإحلال السعودية والاستعمار بدلا عن جيش مصر!
ففي مقاله ( طريقان للتطور في الجمهورية اليمنية ) المنشور بصحيفة الأمل –العدد 2-12يونيو 1965م –يحدد باذيب القوى المضادة للثورة بـ”ممثلي الملاك الكبار للأرض وأشباه الاقطاعيين من مشايخ قبائل ورجال دولة سابقين ،الذين التحقوا بحكومة الثورة قد عملوا بمثابة لجام للدفع الثوري ،وساعدهم في ذلك عدم وجود رؤية زراعية واقتصادية عميقة عند الآخرين ” ويأتي في سياق موقفه هذا نقده لكتاب (نكسة الثورة في اليمن ” الذي نشره عبد الملك الطيب أحد أهم أعمدة التنظير للمؤتمرين في خمر ،والذي نشر كتابه باسم مستعار ( عبد الإله عبدالله) فكتب باذيب حينها مقالا بعنوان ( الثورة لم تنتكس) معتبرا كتاب (نكسة الثورة في اليمن ) بأنه “يقدم ذخيرة خصبة لأعداء الثورة ” وقد اعتمدت عليه نشرات الملكيين ،واقتبست منه العديد من المقتطفات. ثم تناول باذيب قوى خمر بمقال آخر بعنوان ( الثورة اليمنية والمشايخ ) نشر في صحيفة الأمل –العدد 9- 11أغسطس 1965م. محللا طبيعة هذه القوى المعيقة للثورة ،ومؤكدا “أن خطأ الثورة أنها لم تغير العلاقات الإقطاعية والعشائرية ،التي يستمد منها المشايخ نفوذهم وقوتهم.ص128-129-كتابات مختارة-ج2.
قدم باذيب رؤيته وتصوره للإصلاح الزراعي في الجمهورية باعتباره هو الحل لقضية الأرض ،وتغيير العلاقات الإقطاعية والعشائرية ،وقد نشرها في أواخر 1963م بمقالات مسلسلة على صحيفة الأيام ثم أعاد نشرها في صحيفة الأمل في أغسطس وسبتمبر 1965م.
أعلن الرئيس عبد الله السلال في 18يوليو 1965م وثيقة العمل الوطني ،التي تضمنت رفض مقررات مؤتمر خمر الاستسلامي ،الذي يرتمي في أحضان السعودية. وشددت الوثيقة على إصلاح الحكم من خلال ” حكم ديمقراطي ” والحيلولة دون تحويل “الثورة على امتياز طبقي” والعمل على تحرير الشعب ” من كل ما يعوقه عن ممارسة حقوقه الوطنية وحرياته الديمقراطية ” وأكد على ضرورة “بناء جيش وطني قوي ” قادر على مواصلة النضال ضد الرجعية والاستعمار.وضرورة بناء تنظيم شعبي للحفاظ على المد القومي من خلال جبهة وطنية ،منخرط فيها كل القوى الوطنية الثورية.ونبهت الوثيقة إلى ان الرخاء والعدالة الاجتماعية تتحقق بالكفاية الانتاجية ،ورفع مستوى معيشة الناس ،وتخفيف الضرائب على غالبية الشعب ،ورفع التنافيذ وتغيير أسلوب جباية الضرائب والواجبات ،ومحو كل ملامح النظام الإقطاعي. فالعلاقات الاجتماعية الجديدة ذات الطابع الوطني هي الكفيلة بإذابة “الرواسب القبلية والطائفية والعنصرية ، لتحل محلها مشاعر الأخوة والعمل المشترك والوجدان الوطني الموحد كأس لازم لوحدة وطنية متينة “والعمل العربي المشترك ،وتشكيل حكومة وطنية تسير في الاتجاه الثوري العربي ، وأشارت الوثيقة إلى ضرورة “وضع منهاج عمل ثوري يحدد مشكلة اليمن ،ويضع الحلول النهائية لها ” من الواضح أن تأثير باذيب على الوثيقة يصل إلى درجة التماثل بين ما أعلنته الوثيقة وما نادى به باذيب.وأمام هذه الرؤية الواضحة والإصرار على التغيير لاذت القوى الرجعية بالفرار ،حيث فر عتاة المشايخ إلى خمر ، وإلى السعودية وبيروت.وهذا درس من دروس التاريخ ،فحين تمتلك رؤية وتتحرك على أساسها فإن جبهة القوى الرجعية وحلفاءهم يتوارون منهزمين.
كانت الجبهة الثورية متمثلة بالضباط الوطنيين كألوية النصر والثورة والوحدة والعروبة ، والمشاة ، ومدارس الصاعقة والمظلات وسلاح المدفعية والصواريخ ،والطلاب والتيار الناصري وحركة القوميين العرب والماركسيين. وفي الجبهة المضادة كانت قوى المشايخ والقضاة وكبار التجار ممثلي وكالات الشركات الغربية ،والإخوان المسلمين ، والبعث والضباط الذين تم استقطابهم إلى هذه الجبهة.
كانت كتابات باذيب في بداية الستينيات تمثل منظورا يضيء للثورة ما يجب عليها أن تفعله ،وتنبه إلى كعب أخيل الثورة ،وذلك من خلال مقالاته العديدة ، فبعد مرور عام على ثورة سبتمبر كتب مقالا بعنوان ( هذه هي القضية في اليمن ) نبه فيه إلى أن القوة المجردة وحدها لا تحل القضية ،وأنه لا بد من اجراءات عملية في طريق التحول الاجتماعي ، من أجل توسيع القاعدة الاجتماعية والسياسية للثورة ،وكذلك ما نبه إليه في بحثه (طريقان للتطور في الجمهورية اليمنية –الاصلاح الزراعي هو الحل ) وما تطرق إليه أحمد سعيد باخبيرة ،عضو الأمانة العامة للاتحاد الشعبي الديمقراطي بمقالات عديدة تطرقت إلى المضمون الاجتماعي للثورة ،والذي ينبغي العمل على تفجيره.ص234-مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمنية…)الدكتور محمد علي الشهاري.
لقد نجحت القوى المضادة للثورة من تعطيل مشاريع التحول الاجتماعي ، ومن ذلك المشاريع الزراعية واستصلاح الأراضي ،وهي مشاريع كانت كفيلة بأن تغطي ساحل تهامة وزبيد والمخا.وقد ساعد في نجاح القوى المضادة للثورة عدم إيمان قادة جبهة الثورة بأن هناك إقطاعاً ،وأنه يجب اجتثاث علاقات ، وركائزه ، أي إعادة النظر في ملكية الأرض ،وبناء قطاع عام وتعاوني قوي ، والتوجه نحو بناء المصانع التابعة للدولة.
تم تعطيل مهمة شركة المخا الزراعية ،والتي تحددت مهمتها باستصلاح مليون فدان في منطقة موزع ،على أن يجري العمل على استصلاح أراضي تهامة الواعدة. وإلى جوار ذلك كان العمل بمصنع الغزل والنسيج ومصنع الاسمنت وشبكة الطرقات…الخ.
لكن قصور رؤية الجناح الثوري في الحكم ،وعدم إدراكها لأهمية اجتثاث الإقطاع بوجهيه المستحكم بالأرض والانسان ،الذي مثله مشايخ الضمان والقضاة ،رغم دعوة قلة من المثقفين الماركسيين في الاتحاد الشعبي الديمقراطي ،وعلى راسهم عبد الله باذيب إلى ضرورة تصفية الإقطاع ومرتكزاته وخاصة نظام المشيخ الذي يعكس بقاء العلاقات الاجتماعية المسيطرة ،ودعا إلى ضرورة استحداث أنظمة عصرية لتحصيل الضرائب، بديلا عن نظام الالتزام الذي كان على رأسه مشايخ الضمان ، وإلغاء وزارة شؤون القبائل ،وتحويل اختصاصها إلى وزارة الداخلية أو وزارة الحكم المحلي. والقضاء على الطابع الاستبدادي المتأصل للإدارة الحكومية لتكون في خدمة أمن المواطن واستقراره ،لا سلطة قسرية إرهابية الطابع مفروضة عليه.وبأن تطلق للطبقة العاملة الوليدة حرية التنظيم والعمل. ص268-مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمينية –محمد علي الشهاري.
إن قصور وعي الجناح الثوري جعلها تعلن عن قيام (الاتحاد الشعبي الثوري) في وقت متأخر ، ففي نوفمبر 1966م تم تشكيل هذا التنظيم الشعبي الثوري ، برئاسة عبد الله السلال ، ويحيى بهران أمينا عاماً.لكن هذا التنظيم ظل “على السطح يدعو ويبشر بأهدافه ،ويدعو الناس إليها ،ولم ينزل إلى الأعماق ،إلى قاع المجتمع ،على الفلاحين والعمال والمثقفين الثوريين ،والفئات الكادحة الأخرى صاحبة المصلحة في الثورة لينظمها فيه ويدعو إليه ،وليجعل منها عموده الفقري ،وليستعين في ذلك بالعناصر الثورية ذات الخبرة التنظيمية والرؤى الشعبية بحجة حزبيتها ،ولم يكن السلال وجزيلان يمتلكان القدرة ولا الرؤية لإنجاز فعل ثوري من القاع الاجتماعي ” وهكذا ظل هذا التنظيم عمليا في يد أمينه العام المؤقت يحيى بهران ويد القيادة العربية “بعيدا عن قواعده الشعبية. مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمينية منذ قيام ثورة 26سبتمبر 1962م حتى قيام 13يونيو 1974م –الدكتور محمد علي الشهاري الوحدة اليمنية.
في منشورات الإمام يحيى حميد الدين :
ليس صحيحا ما يشاع جهلا وتعصبا من أن الإمام يحيى حميد الدين كان ينظر إلى جنوب اليمن على أنها إرث له من الجدود وإنما الصحيح أن موقف الأئمة من اليمن الطبيعية أنها وحدة متماسكة باللغة والدين والجغرافيا ،وتداخل القبائل والتاريخ ،والمزاج النفسي الذي لا يقبل الضيم من حاكم يمني ناهيك عن حاكم أجنبي.
في رسالة للإمام يحيى وجهها إلى السلطان العثماني في الأستانة يوضح له فيها ظلم ولاته وعماله والمأمورين في اليمن ،موضحا له فيها أن اليمني بطبعه يرفض الظلم والضيم من حاكم يمني فكيف سيقبل ذلك من حاكم أجنبي ،ويبين للسلطان العثماني عدم أهمية وفائدة احتلالهم لليمن ،فاليمن فقير وما تخسره الدولة العثمانية أكثر مما تجبيه منها.وأنه لا مستفيد من احتلالهم لليمن إلاّ القادة والولاة والعمال الذين ترسلهم الأستانة ،فهم يكسبون من الرشوات والجبايات ونهب الناس ،ويكسبون من الأموال والأرزاق التي ترسلها الأستانة كرواتب لجنودها في اليمن.
في كتاب “تاريخ اليمن” لـ”عبد الواسع يحيى الواسعي اليماني “نقرأ منشورا للإمام يحيى حميد الدين نشرته وقتها الجرائد في مصر وسوريا والعراق وبعض جرائد الافرنج مترجما إلى لغاتها الأوروبية.وذلك في سنة 1341هجرية الموافق 1923م ،وفيه يدعو المسلمين –والمقصود بالمسلمين الدول العربية – إلى “جمع الكلمة والاعتصام بالكتاب والسنة…وترك الاختلاف والتفرق ” متقدما لجمع الأمة الإسلامية ووحدتها.وفي ذلك الوقت كان كل من الخديوي في مصر والشريف حسين في الحجاز ،والملك عبد العزيز بن سعود في نجد كل منهم يرنو لكي يكون وريثا للخلافة الاسلامية ،وفي تلك المرحلة كان تأليف كتاب “أصول الحكم -1924م”لعلي عبد الرازق ” الذي تصادم مع طموح الخديوي في إسقاط فكرة الخلافة ،مما أدى إلى فصله من الأزهر ومن المحكمة الشرعية كقاض في المنصورة ،وفي تلك الفترة الزمنية كانت رحلة أمين الريحاني إلى ملوك العرب في اليمن ونجد والحجاز ومصر ،وقد ذكر تفاصيل مشروعه ورحلته في كتابه “ملوك العرب ” وهو اللبناني الأصل ،الأمريكي الجنسية ،مما يعكس اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة.
لقد وضح الإمام يحيى في منشوره هذا أن دافعه إلى ذلك هو “طلبا لخدمة الله بإصلاح ما نقدر عليه من أحوال المسلمين ،والدعاء إلى الله وطاعته ،بامتثال أوامره ،ونواهيه والانقياد لشريعته. وقد حصل لنا في أكثر هذه البلاد المرام.راجين الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين لما به حفظ دينهم وبلادهم.وحوزتهم وعزهم وكيانهم “موضحا في منشوره هذا أن اليمن واحد في جغرافيته وعنصره وديانته ولغته “ولما كانت بلاد اليمن قطعة واحدة وأهلها متّحدي العنصر والديانة متفقي اللغة متقاربي الأنساب من الأشراف والقبائل لا اختلاف بينهم في شيء ،فربهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ودينهم واحد بلا اختلاف يعول عليه إلاّ من لا معرفة له بالشريعة ولا بواضع مناهجها الوسيعة ،وأما أهل الديانة والعرفان وأولو العقول التي بها تعرف طرائق الإحسان ،فهم يعرفون أن أهل القطعة المباركة اليمانية كأهل مدينة واحدة.ومع هذا فالواجب علينا جمع الكلمة.واتحاد الرأي وتوحيد الطريقة.وعقد الولاء على الحقيقة.حتى نكون كالجسم الواحد وكالبنان أو البنيان ” بهذه الرؤية الوطنية الوحدوية لليمن الطبيعية ،جغرافية ومذاهب وأعراق وتاريخ ينظر الإمام يحيى لليمن الواحد “كالبنيان أو البنان “.
ولهذا عمم الإمام دعوته في هذا المنشور إلى “كل بلغته ،وحررنا هذا الكتاب مع غيره إلى العلماء والأعلام.والرؤساء الفخام.والمشايخ والأفراد ،ندعوكم بدعوة الحق إلى ما أسلفناه في هذا الكتاب ،ونقول هلموا أيها الإخوان إلى ما به عز الدنيا والدين.والوصول إلى الخير المستبين لنعمر أمور ديننا ودنيانا…وليس المراد ملكا نشيده.ولا مالا نستزيده.ولا جاها نستفيده.وإنما المراد اجتماع المسلمين بالمحجة البيضاء والصراط المستقيم.وسنقر كل بلاد بيد رؤسائها.ونحيل إليهم مجرى أعمالها ومرساها ” بهذه الرؤية يوضح الإمام يحيى العلاقة بين الوحدة الوطنية “اليمن كقطعة واحدة “وبين الوحدة الاسلامية الاتحادية بإقرار كل بلاد بيد رؤسائها وإدارتهم الذاتية لأعمالها وشؤونها ،والاجتماع على منع الظلم والأخذ على يد الظالم ،وحقن الدماء والعمل بالقانون “بشريعة خالق الأرض والسماء “.

قد يعجبك ايضا