اليمن بين فلسفة التاريخ وواقع يتحول


عبدالرحمن مراد

في التاريخ نجد أنه حين حكم الأمويون كان الهاشميون واتباعهم ينددون بجور آل مروان لانهم وصلوا إلى الملك العضوض بحيلة السياسة وقوة السيف ونخوة الجاهلية , وكان آل مروان يدعون عراقتهم في العرب وينشرون الدعاة عن حزمهم وكرمهم , وانتهى بنو أمية على أيدي بني العباس وأتباعهم وتعددت قريش إلى سفيانيه وعلوية ثم مروانيه وحسينية ثم زبيريه ومختاريه وكل هذه الانقسامات كانت تنخر في كيان أمية حتى سقط علم دمشق , وعندما حكم العباسيون لم يتخلصوا من عيوب آل مروان لأن المهم عندهم انتقال الملك لا تغيير أشكاله وأساسياته , بل كان العباسيون أكثر ترفا وأكثر افحاشا في الثراء لأن الحكم ألهاهم عن استماع نقد الأخرين , فقد قامت دولة بني العباس على أساس الثأر لآل علي كما قامت دولة بني مروان على ادعاء الثأر لدم عثمان وبعد مرور قرن على حكم بني العباس أصبح العلويون حكام القيروان وبعد قرن آخر حكام مصر ثم قامت لهم سلطة في اليمن أواخر القرن الثالث الهجري واذا بالمعارضين للعلويين في تلك البلدان يصمونهم بنفس ما وصموا بني أمية وبني العباس من الإغراق في الترف والتهاون بالعدل ,وهكذا متواليات التاريخ حين يحكمون يبتعدون عن العدل وحين لا يحكمون ينادون بالعدل ويصمون الحاكمين بالجور , ذلك لأن السلطة بطبيعتها تغلق سمع المتسلط عن الصوت الآخر ونزعة الحكم تؤدي إلى الانتصارات كما تؤدي إلى النكسات تبعا لتوقيت الأحداث ووفرة دواعيها وقدرة امتلاك واقعها .
وعِبَرُ التاريخ تقول أن الناس كلهم حين يحكمون يذكرون الحكم وينسون المحكومين , وكلهم حين لا يحكمون يذكرون الشعب ويتذمرون باسم قطاعاته , وحين يحكمون لا يسمعون إلاّ اصواتهم , وحين لا يحكمون يسمعون أصوات الاخرين ويرفعون اصواتهم معهم , وكل هذا يحدث في كل التاريخ بحثا عن شعبية أهوائهم لا بحثا عن العدل والحق ومقاصد الله في أرضه .
ما جرى في التاريخ القريب أو البعيد جرى في بلادنا – باعتبارها أقرب إلى الماضي بتقليديتها وأقرب إلى التحول بطموحها وفاعلية التغيير , فإذا كل تحركها – كما تدل الوقائع – يتردد بين الطموح والتقليدية , فيتأرجح بين زمن لا يأتي وزمن لا يرجع , وكلا الجانبين – كما يوحي الاستنباط العقلي السليم – آت من تأريخنا العقائدي والفكري والذي جمع بين الفكر الثوري التحولي والتقليدية الماضوية وكان نتيجة منطقية لحالة الانحراف التي بدأت منذ السقيفة .
وبعد كل الحماس الثوري الذي صاحب الأحداث الثورية منذ عام 2011م نلاحظ اليوم أن الحماس المشتعل بدأ يبرد , فاليمن اليوم بين حالين ,عجز المقبل وخذلان المتراجع , وبينهما تكمن رغبة السلام من المتحاربين , والسلام الذي يأتي نتيجة عجز المتحاربين لا نتيجة انتصار طرف على آخر يعيد حركة التاريخ ويبعث الماضي ويحفز على الثأر وعند هذا المحور تصبح الثورة حركة هزيلة في فراغ ممتد بين طرفي ماضٍ لا يرجع وآتٍ لم تتهيأ فصول ميلاده , فالغد الذي تنشده حناجر الفقراء يستدعي جدة نفوس الداخلين فيه , وقدرتهم على تجديده وتجديد نفوسهم معه وهذا أمر لم يتحقق إلا بنسب بسيطة من طرف سياسي بعينه وهو طرف أنصار الله من خلال رؤية بناء الدولة .
ويبدو أن الوعي بالمرحلة هو البداية الصحيحة لفهم الواقع , وهو القدرة الحقيقية في السيطرة على مقاليد المستقبل , فالحاضر والمستقبل لا يشبهان كل الذي مرَّ في تأريخ المنطقة, فالعدو الذي يتربص بنا الدوائر اليوم يقوم بإحداث قدر من التوازن , وكل المؤشرات تقول أن المنطقة قادمة على تغيرات ديمغرافية وجيوسياسية , وصراع القوى الكبرى بدأ يشتد أواره , وقد تشهد المنطقة – وفق كل المؤشرات والرموز التي يبعثها الواقع اليوم – حربا ضروسا فالتوتر قائم بين امريكا وايران وبين الصين وامريكا وبين أمريكا وروسيا , وبريطانيا التي كانت تغض الطرف عن أي تواجد عسكري لها بالمنطقة ها هي اليوم تعود وتنشئ قواعد عسكرية في الخليج وهي قد تسلمت الملف اليمني تمهيدا لفرض هيمنتها على باب المندب وعدن ,وعلينا أن ندرك أن الحرب التي يديرها العدو اليوم لا تقوم على الهيمنة الاقتصادية كما كان في زمن عصر النهضة بل تقوم على البعد الثقافي , ولم يستوعب العرب الفكرة , ولا الحركات التحررية , التي ترفع الشعارات في حالة تماهٍ غير واعية مع المعركة الثقافية التي يديرها العدو بذكاء مفرط ويقابله غباء غير مبرر من العرب والمسلمين .
أمام هذا الواقع الذي يمر بالأمة يفترض بنا الوقوف والمراجعة , والاشتغال على ذات القنوات التي تستغل في إدارة المعركة وهي القنوات الثقافية , فالبعد الثقافي يشكل المنحى الأهم في السيطرة على الوجود والفاعلية في المستقبل , والسيطرة على مقاليد المستقبل لن تكون إلاّ من خلال الوعي بالتاريخ فالعامل التاريخي ومعرفة إشكالاته الوجودية وأزماته الاجتماعية والثقافية عنصر حيوي في معادلة الاستقرار وفي بناء المستقبلٍ.
فاليمن – التي هي جزء من المنطقة – ستكون في محك الأحداث ولذلك يتوجب علينا الاهتمام بالبناء الثقافي الذي يستوعب المرحلة ويعيد ترتيب نسقها , ويعمل على التأثير في مجرى الأحداث , ولن يتحقق ذلك التأثير الا بالاشتغال الواعي في بناء مشروع سياسي نظري يستمد أسسه من المنطلقات الاسلامية ليكون قادرا وفاعلا في تحقيق عالمية الاسلام , فالحصار الذي يشهده الاسلام في بؤر العداء للإنسانية والحضارات وفي الإرهاب يجب كسره بالبناء الثقافي والتفاعل الحضاري ووفق استراتيجياتٍ واعية ومدركة لفكرة صراع الحضارات .

قد يعجبك ايضا