الزكاة.. وفلسفة ولاية الدولة

 

أحمد يحيى الديلمي

مثل الإسلام الرسالة السماوية الخاتمة من الله سبحانه وتعالى إلى البشر، وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآخر الأحكام الناظمة لشئون الحياة حتى قيام الساعة ، وهذا هو ما جعل القرآن الكريم مهيمناً على كل الكتب التي سبقته في النزول بلحاظ شموله للدنيا والدين ، ووجود كل الأحكام السماوية التي يستعين بها البشر لتنظيم شئونهم حتى قيام الساعة ، وقد افترض القرآن الكريم الأخوة بين المسلمين فقال تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقال تعالى ( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين ) هذه الأخوة حسية وليست معنوية، أي أنها تقتضي أن كل مسلم حريص على تفقد شؤون وأحوال أخيه المسلم حيثما كان موقعه ، وقد قدم القرآن الكريم مثالا عظيماً فيما رواه عن الأنصار الذين جادوا للمهاجرين بكل ما يملكون ، وبأعظم ما يملكون وهي النساء وكان البعض من الأنصار يقتسم مع أخيه المهاجر الشيء وهو في أمس الحاجة إليه وهنا جاء الوصف القرآني قال تعالى :(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر “13” وهو وصف عظيم امتدح به الله سبحانه وتعالى الأنصار وهم يمنيون ، فما الذي حدث ؟! ولماذا تجاهل المسملون هذه القيم الأخلاقية النبيلة قيم الإيثار والتضحية والعطاء لذات العطاء ؟!
بقصد الامتثال للأحكام الواجبة ممثلة في الزكاة والعطاء الطوعي المتمثل بالصدقة ، للأسف في ظل التكالب المحموم على جمع المال حدث غفول وعدم اهتمام بالعبادة المالية بشقيها الواجب والطوعي وأتسع سوء الفهم في التعاطي مع الركن الخامس من أركان الإسلام المتصل بالزكاة.
من خلال البحث والتدقيق وجدنا حدوث هوة في فهم الارتباط بالدين وتمثل أحكامه وتعاليمه في السلوك بفعل اجتهادات وفتاوى صدرت عن علماء محسوبين على الدين ، تعاطوا مع النصوص بأفق انتهازي وظف العملية لخدمة أغراض حزبية أو مكاسب ذاتية ، للظفر بهذه الغايات اقتضى الأمر إضعاف حماس الناس والتشكيك في أحقية الدولة وتفردها بتحصيل وإنفاق الزكاة (هذه النقطة وأن مثلت كلمة حق إلا أن ما أريد بها باطل) وكان القصد اقناع كل مكلف بأحقيته في صرف الزكاة الواجبة عليه وجعله مدخلاً لترجيح أحزاب وجميعات بذاتها وتأكيد شرعيتها في تحصيل وإنفاق الزكاة بدلاً عن الدولة ، ما حدث أن ثقة المكلفين أهتزت بهذه الجهات البديلة فأكتفى بدفع الفتات للدولة تجنباً للمساءلة ، وآخرين أمتنعوا تماماً بدفع ما عليهم بحجة تدني الإنتاج بفعل الجفاف وعدم هطول الأمطار وتناسى هؤلاء أنهم سبب الجفاف وفق حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء) وغيره من الأحاديث التي حضت كل مسلم على أداء الزكاة.
الزكاة قرين الصلاة
مما تقدم ندرك أن التعاطي مع نصوص القرآن الكريم بأفق ضيق بالاستناد إلى أسباب النزول أو اختزال المدلولات العميقة في زمن بذاته أدى إلى اختلالات ذهنية في التفكير والثقافة ، أنعكست سلباً على السلوك العام للمسلمين وخلقت تناقضاً صارخاً في فهم الأحكام والتكاليف العبادية وعدم التفريق بين الواجب والطوعي كما حدث مع الزكاة أحد أركان الإسلام قرينة الصلاة التي هي “عماد الدين”.
فقد ذُكرت الزكاة عشرات المرات في نصوص القرآن الكريم بصيغة الأمر والنهي والترغيب والترهيب ، واقترنت مع الصلاة في سبعة وعشرين آية لبيان أهميتها وحث كل مسلم على الالتزام بهذه الفريضة مثلما يتلزم بأداء الصلاة ، فالأبعاد الكلية لهذا الواجب التعبدي حددت الدلائل الاقتصادية والبعد الاجتماعي بحيث أتضحت أهمية وفاعلية المعالجات الإسلامية لأصعب المشاكل التي تحيط بحياة الإنسان باعتبار الإسلام عاملا وجدانياً جاء لتحرير إرادة الإنسان من الموروث الجاهلي ، مثل تغول المال وتركزه في عدد محدود من البشر مقابل بقاء القطاع الأكبرفريسة للجوع وذل الفقر ، فأقر الزكاة كمعالجة عملية ضيقت الفجوة بين الغناء والفقر وحفظت كرامات الناس ، وكانت الزكاة موجودة لدى كافة الديانات السماوية ، إلا أنها لم تأخذ نفس البعد الذي جاء به الإسلام ، فلقد بين أسس الجباية وحدد آليات التوزيع العادل ، وأوكل أمر الجباية والتوزيع إلى ولي الأمر المختار من الأمة ، كما جاء في نص التكليف الإلهي قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)التوبة “103”.
النص ورد في شكل فعل أمر للرسول صلى الله عليه وآله سلم وبحسب إجماع الفقهاء فما كان للرسول ينتقل لأولياء أمر الأمة من بعده بشرط توفر العدالة والزهد والورع والتقوى والنزاهة.
هذه الفلسفة الإلهية العميقة خضعت لبعض الاجتهادات والتفسيرات الخاطئة التي جردت الفريضة من قدسية الحق التعبدي والمعالجة الإلهية برؤيتها الإنسانية وبُعدها الاجتماعي وحولتها إلى مصدر لخدمة الأهواء الذاتية والمكاسب الحزبية ، فالخالق سبحانه وتعالى إنما أوكل المهمة لولي الأمر بمفهوم الدولة ، لتحقيق عدة مقاصد منها :
1 – تخفيف وطأة الضرر الاجتماعي على الفقراء باعتبار العطاء من الدولة مشروعاً لا يحمل أي مْنّ ولا يجرح الكرامة ، فقد دلت النصوص في الكتاب والسنة على فلسفة خاصة لحل المعضلة المالية انطلاقاً من قاعدة هامة تقول “المال مال الله والإنسان مستخلف عليه” بما يعني أن الخالق سبحانه وتعالى هو المتكفل بتقسيم الرزق بين العباد قال تعالى (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الزخرف”32″ وجاء في حديث قدسي رواه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نبي الله موسى عليه السلام في حواره مع ربه حيث خاطب الخالق نبي الله موسى (يا موسى والله ما أفقرت الفقير لهوانه عليّ ولا أغنيت الغني لمعروف أسداه إلي ، إنما أفقرت الفقير لأرى صبره وأغنيت الغني لأرى شكره ، يا موسى فلا الفقير صبر ولا الغني شكر) أو كما قال، إذاً فالإسلام جاء بمنظومة قيم شاملة وأخلاق فاضلة ومبادئ عظيمة دلت المسلمين على كيفية التعاطي مع كل جوانب الحياة بأسس إيمانية صادقة فنجد مثلاً أنه افترض الزكاة ووضع المعايير والمقاييس التي تحدد الإنفاق ووجه بخطاب عام للدلالة على الوجوب ، قال تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ 70لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) المعارج “24 -25 ” وقال تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ34/9يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) التوبة “34 – 35” وقال تعالى (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) آل عمران “180” ، هذه الآيات لا تتوقف على الزكاة فقط ، ولكنها تشير إلى الصدقة كفعل تعبدي واجب يتقرب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” صدقة السر تطفئ غضب الرب “.
للأسف الخطاب الذي أسلفت بأفقه الانتهازي وسع نطاق الاختلالات ، وحدث خلط كبير في المفاهيم وتقاعس الكثيرين عن أداء ما عليهم بدعوى أنه سيوزع الزكاة بنفسه أو يسلمها لجماعات أو أشخاص يثق بهم ، وإعطاء الجهة المعنية الفتات اتقاءً للشر ، في الغالب كان يحدث التواطؤ بين الموظف المعني بالتحصيل والمكلف بحيث لا يصل إلى خزينة الدولة إلا القليل ، وفي هذا تقاعس مباشر عن فريضة واجبة.
للأسف هذا العامل أدى إلى محذور أكثر خطورة تمثل في الخلط العشوائي وعدم التمييز بين الزكاة كفريضة تعبدية واجبة وركن أساسي من أركان الإسلام لا تكتمل صفات ارتباط المسلم بالدين إلا بأدائه وبين الصدقة الطوعية التي تُعد تقرباً إلى الله تخضع لتقدير واختيار كل إنسان مكلف تبعاً للصفات التي دلت عليها نصوص ثابتة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وخطورة هذا الفهم المغلوط إنما يجعل المكلف يتحمل أوزاراً وآثاماً كونه يتقاعس عن أداء واجب محدد في المقدار والنصاب ويكتفي بفعل طوعي يخضع لتقديره الذاتي ، وهو ما يخالف روح التشريع الإلهي.
بالعودة إلى نص التكليف، نجد أن الفريضة جاءت في نطاق الصدق بينما وردت الصفة في مقام الفعل للدلالة على وظيفة الفضيلة المأمولة وتشمل التزكية والتطهير ، كونها تكليفاً إلهياً ورد بنص واضح قطعي الدلالة والثبوت وفرض عين على كل مسلم مكلف إذا سمت نفسه لابد أن يبلغ ذروة الانقياد الطوعي للتعاليم الإلهية لكي يصل مرتبة التقوى التي يطمح إليه كل مسلم ، وهو ما يقتضي أن يفرق بين الواجبات الحتمية والتكاليف الطوعية ، وهذا ما يجب أن يستوعبه كل مكلف ، أن الزكاة عبادة مالية كما دل على ذلك التنظيم الإلهي الشامل للحياة وإلصاق المال بالعبادة أساس لدفع كل مكلف من المسلمين بأداء ما عليه خوفاً من الله سبحانه وتعالى ، وهي نقطة هامة ترتبط بحساسية المال وحب الإنسان له كما وصف القرآن الكريم قال تعالى (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) المعارج “20”.
نقد المشرع اليمني
أنا لم أطلع على القانون ولكني سمعت العلامة الحجة شمس الدين شرف الدين يقول أنه أعطى المكلف نسبة 25% ينفقها بنفسه ، وهنا لا بد أن نوجه نقداً خاصاً إلى المُشرع اليمني الذي أقر قانون الزكاة الجديد ، بهذا الفعل جعل المزكي يخلط بين شيئين هامين بين الزكاة الواجبة وبين الصدقة الفعل التطوعي ، وهذا ما لا يتفق مع نصوص الشرع فالخالق سبحانه وتعالى أوكل أمر التوزيع إلى ولي الأمر للأسباب التالية :-
بالعودة إلى نص التكليف الأساسي “خُذ” نجد أن تطهير ذات الإنسان وتزكية نفسه إنما تتم بإجباره على دفع ما عليه من زكاة ، وهذا الشيء لا يحدث إلا من إنسان قوي في موقع المسئولية ، بالمقابل فإن المحتاج الذي تصرف عليه الزكاة عندما يأخذ من الدولة كما قلنا لا يحس بالمن ولا يحتاج إلى شكر وحمد من أعطاه ، فعطاء الدولة حق لكل مواطن ، بينما الفعل التطوعي يحتمه معنى الأخوة في الدين ، ولا يجب على ولي الأمر إلا الحث عليه ، فلو عُدنا إلى القرآن الكريم سنجد أنه لم تأتى كلمة “خذ” إلا في موضعين الأول في الزكاة والثاني في الصدقة ، أو كما ذهب بعض الفقهاء إعطاء ولي الأمر الحق في أخذ الفائض من الناس إذا احتاجت الدولة إلى ذلك ، في كل الحالات لابد أن يكون ولي الأمر عادلاً ويحوز على كافة الصفات التي تؤهله للأخذ ، قال تعالى(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) كلمة “خذ” سبقت في هذا الموضع حكم الزكاة ، وقد ذهب بعض المفسرين ومنهم الطبطبائي والإمام الحجة أبو الفتح الديلمي إلى أن سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاضت عيناه بالدمع عندما سمع أحد اليهود يتاهمس مع عبد الله بن أُبي ويسخر من مرحلة الجوع التي ألمت بالمسلمين المتوافدين على المدينة بعد استقرار الرسول فيها ، فالجميع من أبناء المدينة كانوا قد تقاسموا مع من رافقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل شيء ولم يبق لديهم شيء يقدمونه إلا ما يسد الكفاف ، مما عرض من توافدوا إلى المدينة بعد ذلك للجوع والفاقة ، فقال اليهودي لابن أبي انظر إلى محمد يرفل في النعيم وأصحابه يربطون الحجار على بطونهم ، فبكى رسول الله ورفع يده إلى السماء يناجي ربه ، وعندما عاد إلى المنزل وجد جبرائيل أمامه يبلغه بهذه الآية ، بعد سماعها أطمأنت نفسه ، استدعى عدد من الصحابة ومنهم عمار بن ياسر والإمام علي بن أبي طالب وسلمان الفارسي وآخرون وخاطبهم قائلاً “ادخلوا إلى كل منزل من منازل المدينة وقفوا على أهله عندما ترتفع أياديهم من الجفنة ، خذوا ما تبقى فيها وضعوه في إناء ووزعوه على المحتاجين ” أو كما جاء في الحديث ، وبالفعل قام الصحابة بعمل ذلك وتوفر الأكل اللازم لإطعام أولئك المساكين الذين كانوا قد حرموا من الأكل أيام ، أنظروا إلى هذه الفلسفة الإلهية العميقة فالخالق سبحانه وتعالى إنما دل المسلمين على طريقة تمكنهم من استغلال الفائض ولو كان في شكل بقايا طعام قد يرمى بها إلى الزبالة ، لأن الرسول في اليوم الثاني لم يحتاج إلى تكليف الصحابة بل وفر جفنة كبيرة وكل أسرة انتهت من الأكل أتت بما فاض إلى نفس الجفنة ومن ثم تعلم المسلمون الأسلوب الأمثل بكيفية المساعدة ولو بالقليل ، وهذا درس يجب أن نستفيد منه الآن في ظروفنا الراهنة لأن البعض حينما يبقى في الإناء طعام إلى حد معين يتأفف أن يقدمه للآخرين ويقذف به إلى الزبالة ، بينما الآخرون بأمس الحاجة إليه ، وبالتالي فإن هذا الأسلوب لو طبق اليوم خاصة بعد أن توفرت الأواني البلاستيكية التي يمكن نقل ما تبقى إليها وتقديمها إلى الفقراء والمحتاجين ، وهذه هي الفائدة العظيمة التي نحققها من القرآن الكريم وفعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أما آخر المحاذير التي تمنع إنفاق الزكاة من قبل المكلف نفسه أو دفعها إلى الجمعيات فهو ما ذهبت إليه الدوائر المتربصة بالإسلام في الغرب ، فقد أخذوا من منطق دفع الزكاة إلا الجمعيات الخيرية وما شابه ذلك ، واعتبروه مدخلاً للقدح في الإسلام والتأثير على هذه الفريضة ، فقالوا أن الزكاة إنما تنفق لتمويل الإرهاب ، وهذا ما دلت عليه الكثير من الكتابات في الغرب باعتبار الزكاة أهم مصدر لتمويل الإرهاب ، أي أن الجمعيات أو الأحزاب السياسية التي تتعاطى لأخذ الزكاة وتقوم بانفاقها وفرت الغطاء اللازم للمتربصين بالدين لكي يقدحوا فيه ، وكل هذا يدل على أن مشروعية الزكاة لا تكتمل إلى باكتمال آلية الجباية والإنفاق ، التي حصرها الله سبحانه وتعالى في ولي الأمر ، حيث جاء في الحديث النبوي الشريف الذي رواه الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً من بني تميم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (أحسبي يا رسول الله إن أديت الزكاة إلى رسولك فقد برأت منها إلى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم إذا أديتها إلى رسول الله فقد برأت منها فلك أجرها وأثمها على من بدلها) رواه أحمد والطبراني وآخرون.
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على أن المعّني بجباية الزكاة هو ولي الأمر وصرفها أيضاً وهي دلالة واضحة على الخطأ الذي ارتكبه المُشرع اليمني حينما ترك للمزكي نفسه 25% من الفريضة فقد ارتكب أثماً عظيماً خالف به مراد الله سبحانه وتعالى والفلسفة التي أرادها الإسلام حيث جعل الزكاة مصدرا هاماً من مصادر تمويل الدولة الإسلامية ، بالعودة إلى الآية نلاحظ أنها قالت ” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ” جعلت الفقراء والمساكين في وضع واحد مع العاملين عليها، وكما نعرف أن حق العاملين عليها يعتبر حقا مكتسبا باعتباره مقابل عمل قاموا به وهذا يعني أن اللامين في بداية النص أكدتا أحقية الفقراء والمساكين في ذلك وأن لها أولوية خاصة في الصرف والإنفاق ، بينما بدأت المصارف الثانية بكلمة “في” لتؤكد أنها تخضع لسياسة الدولة وتقدير ولي الأمر المختار من الناس فهو الذي يرجح أي مصرف يقدم على الآخر ، على أن السنة النبوية الشريفة وما اختطه الصحابة والخلفاء الراشدون أكد أهمية تمويل الجهاد باعتباره فعلا حتمياً يخدم الدفاع عن البيضة وحراسة مكاسب الأمة ، وهذه الفلسفة ستختل إذا تولى المنفق صرف الزكاة بنفسه ، وكما قلنا فإن مجرد إقرار هذا الأمر يجعل المنفق يتقاعس عن أداء الصدقة وهي شبه واجبة، كون المال مال الله وهو الذي أقر هذه الصدقات ، وهو الذي سيحاسب عليها.
وكل ذلك مع توفر الشروط اللازمة في ولي الأمر وأهمها أنه مختار من الأمة إلى جانب كونه عادلاً ونزيهاً ، وفي هذا المجال يمكننا أن نستشهد بقصة حدثت في صدر الإسلام للخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز الذي استمر في الحكم سنتين وستة أشهر وسبعة عشر يوماً وتسع ساعات ، مع ذلك فاض الخير على الأمة وانتقلت من حد الكفاف إلى حد الكفاية ، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه أن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في العام الثاني من حكمه جعل العطاء مزدوجاً فقدم المادي لكل محتاج والمعنوي لكل عامل ، ويقصد بالمعنوي أنه قدم أدوات الإنتاج لكل صاحب مهنة وكل ذي حرفة لحثه على العمل، مما زاد الإنتاج في جميع جوانب الحياة وحقق الكفاية العامة ، وهذا مقياس هام يجب أن نأخذ العبرة منه وندرك أنه إذا توفر الحاكم العادل فإن قواعد الدين وأحكامه تؤدي إلى تحقيق الازدهار والبنيان الذي يتطلع إليه الإنسان في كل زمان.
للأسف ما حدث ويحدث اليوم أن المسلمين ابتعدوا كثيراً عن تعاليم الدين وعن الأفق الإنساني الذي وضعه الخالق سبحانه وتعالى لتحقيق الرخاء والرفاهية للبشر ، ومن ذلك فرض الواجبات على القادر لسد حاجة المحتاج وأيضاً إعطاء ولي الأمر الحق في أن يأخذ الفائض من كل غني وينفقه فيما يقيم مصالح الأمة ، في هذا الجانب ذكر الكثير من أئمة الحديث والفقهاء أن “خذ العفو” هي مدخل لمشروعية الضريبة التي تأخذها الدولة من التجار وأصحاب المهن وهذا مجال يطول بحثه وإن شاء الله نفرد له لقاء خاصاً.
المهم أننا لو راجعنا سلوكيات الناس اليوم لوجدنا أن خوف الله قد تضاءل في النفوس عما كان في الماضي ، فمما عرفناه نحن في سن الطفولة أن المزارع مثلاً كان يأتي بنفسه إلى المكلف بجباية الزكاة أو ما يسمى الأمين ويطلب منه تقدير الحق الإلهي قبل أن تمتد يده لجني المحصول أو حصاده ، تنفيذاً لقول الله سبحانه وتعالى (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) أي أن المزارعين والتجار كانوا يخافون من الله سبحانه وتعالى ، مع أن زكاة التجارة وما يسمى الباطن كانت محدودة في تلك الأيام وكان التركيز أكثر على الزراعة لأنها كانت أهم وأغزر إنتاج وأكثر حصيلة ، وهنا لابد من ملاحظة هامة يجب الإشارة إليها وهي أن الجانب الزراعي قد تدنى في هذا الفترة وأصبح الفائض متوفراً إلى حد كبير في أعمال الصناعة والتجارة وأعمال المهن الحرة ، فلقد أقسم لي أحد المطلعين على بواطن الأمور وهو اقتصادي معتبر أن الناس من المصنعين والتجار وأصحاب المهن لو أدوا الزكاة كما أوجبها الله سبحانه وتعالى لكفت ولفاضت على حاجة الدولة والناس ، وليست مبالغة القول هنا إن المذهب الزيدي كان الوحيد الذي تفرد بتحديد مقادير الزكاة والأصناف المزكى عليها ، وأنه ترجم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كما وردت ، بينما اختلطت الأوراق لدى الكثير من المذاهب فقال البعض أنها لا تجب إلا في النقدين فقط ومنهم من قال إنها في بعض الزروع إلى غير ذلك من التخريجات التي خالفت الكثير من نصوص القرآن ، ولقد استطاع الإمام يحيى حميد الدين رحمه الله أن يقيم دولة على مدى عقدين ونصف من الزمن بالزكاة وكانت هي المصدر الوحيد للإنفاق وسد حاجة الناس ، ولا أقول أنها كانت خالية من الهفوات لكن من الأساس كانت القواعد واضحة والناس منقادين خوفاً من الله سبحانه وتعالى ، إذاً فالواجب الآن هو التذكير بأن الزكاة حق إلهي والتقاعس عن أدائها لا يقل شأناً عن من يتقاعس عن أداء الصلاة لأن كلاهما فريضة واجبة ، والحق هنا يقع في أكثر الحالات على علماء الدين ومن يتصدون للفتوى فهم من يسهلون الأمور أمام المكلف كما لاحظنا فيما تقدم أن بعض العلماء حرضوا المكلف وجعلوه يتمسك بالزكاة لا لكي ينفقها بنفسه ولكن لمآرب ذاتية خاصة الهدف منها الاستيلاء على الزكاة وصرفها في أهواء وجوانب تتعارض مع التقدير الإلهي.
الموضوع يطول ولدينا بحث كامل وشامل يتضمن الجوانب الفكرية والاجتماعية والاقتصادية للزكاة وهو في طور النهاية وإن شاء الله أعد بأن أقدمه في هذا المركز الذي أشكر القائمين عليه على اهتمامهم بهذه القضايا التي في الأساس تكمل مؤسسات الدولة ، فلو أن الجميع نظر إلى بناء الدولة كدولة حامية وجابية ومعطية كما جاء في وصف القرآن الكريم قال تعالى (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) أي أن هذه أهم وأعظم مهام الدولة تجاه المواطن فالأمر بشقيه المادي والمعنوي هو ما يحتاج إليه المواطن في كل زمان ومكان ، ولو أدركنا هذه الحقائق لتمكنا من التغلب على الكثير من المشاكل ، للأسف أننا اختزلنا الدولة في قضايا بعيدة كل البعد عن فلسفتها ومعطيات فعلها وأصبحنا نتخبط اليوم بعيداً عن المدلول الإلهي ، وهو ما يسمح للآخرين بأن ينفذوا إلى أوساطنا ويعملوا على التفريق بيننا من جانب ومن جانب آخر يقدحوا في الإسلام إلى حد القول بأنه خال من أي شيء يتعلق بالدولة أو يدل عليها وهو للأسف ما ألتقطه بعض المسلمين مثل العلامة علي عبد الرازق وقال إن الإسلام لم يتحدث عن نظام الحكم ولم يشر إليه ، وهنا تكمن المشكلة الكبرى أننا المسلمين أنفسنا نمكن الآخر من القدح في الدين والتآمر عليه ، وكما رأينا محاولة التقليل من أهمية الفرائض الدينية مثل الزكاة كما أشرت إلى ذلك سابقاً.
أرجو من الله أن أكون قد وفقت لتقديم الموضوع وأن يوفقنا جميعاً إلى ما فيه الخير والسداد وأن يُعيننا على القيام بالواجبات التي كتبها علينا كما يرضيه.. إنه على ما يشاء قدير..

قد يعجبك ايضا