ليكن هذا الشهر مضمار سباق

حقيقة الصيام (2-1)

 

عبدالفتاح الكبسي

الصوم عبادة مثل سائر العبادات التي أراد الله منها لعباده أن يحققوا من خلالها البناء الروحي بقربهم من الله سبحانه والعمل في واقع حياتهم، فمن العبادات ما فرض على جهة الاستمرار ليظل العبد مستمداً من الله العون والتوفيق معطاءً في الحياة، فكلما كانت العبادة أكثر عطاء في الحياة كانت أكثر ثواباً وأجزل أجراً قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر﴾.
ويروى أنه وجد في صحف إبراهيم (إنما أقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي وقطع نهاره في ذكري ولم يبت مصراً على خطيئة ولم يتعاظم خلقي، يطعم الجائع ويكسي العريان، ويؤوي الغريب ويرحم المصاحب).
وقال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.
وقال سبحانه: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ وقال سبحانه وتعالى عن الصيام : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ فالتقوى المقصد الكبير والثمرة العظيمة التي تبني الشخصية الإيمانية المعطاءة الفعالة للخير.
ومن هنا يتضح ويظهر جليًّا حقيقة عبادة الصيام التي لا تقف عند حد الامتناع عن الأكل والشرب والجماع في أوقات مخصوصة في شهر مخصوص فحسب بل تتعدى هذه المرحلة المادية التي تدرب العبد على الانضباط والإلتزام بتوجيهات وإرشادات وأوامر ربه سبحانه وتعالى، وذلك من خلال التزامه الفعلي والتركي للماديات إلى مرحلة الرقابة الذاتية الداخلية التي تمنعه من كل ما يسخط الله وكل ما نهى عنه وإحساسه وشعوره بل يقينه بالمراقبة الربانية يجعل العبد ذا شخصية فعالة للخير ممسكة للشر، فهكذا نجد حسن التشريع العبادي في ديننا أنه جعل العبادات مهذبة للإنسان داعية له للبذل والعطاء ومن ثَمَّ كان العمل لطلب الحلال عبادة، وكان التعلم والتعليم عبادة، وكان الجهاد في سبيل الله عبادة، لما له من أثر في الدفاع عن الإنسان وقيمه الكبرى وعموم نفعه للآخرين.
فحقيقة الصيام هو الذي يثمر وينتج حالة التقوى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من صام يوماً من رمضان عف فيه طرفه ولسانه وفرجه وبطنه أوجب الله له الجنة».
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه» وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يدع الخنا والكذب فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه» ويقول صلى الله عليه وآله وسلم : «كف اللسان عن أعراض الناس صيام» فينبغي أن يكون الصائم بعيداً بعداً كبيراً عن الشر على كافة مستوياته فعَّالًا للخير بكل جوانبه المعطاءه التي يبتعد عنها جملة من الناس.
فمثلاً على المستوى العبادي الذي يقضيه طوال شهر رمضان المبارك يكون كل الوقت مفعماً بالطاعات ومليئاً بالأعمال الصالحات، وفي هذا الجانب يعمم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم برنامجاً للصائم في هذا الشهر الكريم يستطيع فعله الشاب والكهل والرجل والمرأة والعالم والقاضي والحاكم والرئيس والتاجر والعامل والغني والفقير، يقول صلى الله عليه وآله وسلم : «من هجم عليه شهر رمضان صحيحاً سليماً فصام يومه، وصلى ورداً من ليله، وحفظ فرجه ولسانه، وكف يده، وغض بصره، وحافظ على صلواته مجموعة، وشهد جمعه، ثم بكر إلى عيده حتى يشهده فقد استكمل الأجر، وصام الشهر وأدرك ليلة القدر، وانصرف بجائزة الرب عزوجل» وبهذا الرسم لبرنامج الصيام في رمضان التي ركز على بعض الأمور العبادية وهي كالتالي:
1- الصيام. 2- الورد الليلي من النوافل. 3- حفظ الجوارح عن فعل الأذى. 4- المحافظة على صلاة الجماعة. 5- السعي إلى صلاة الجمعة. 6- التبكير إلى صلاة العيد.
وبهذه الأمور يستحق الصائم الأجر الكبير والفوز بالمغفرة والرضوان، ومما يساعد المؤمن في اغتنام صيام شهر رمضان المبارك هو معرفته بفضله، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة خطبها في آخر جمعة من شهر شعبان: «ياأيها الناس إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر وهو شهر رمضان، فرض الله عز وجل صيامه وجعل قيام ليلة منه بتطوع صلاة كمن تطوع سبعين ليلة فيما سواه عن الشهور، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر كأجر من أدى فريضة من فرائض الله عز وجل فيما سواه، ومن أدى فريضة من فرائض الله عز وجل فيه كمن أدى سبعين فريضة من فرائض الله عز وجل فيما سواه من الشهور، وهو شهر الصبر، وإن الصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة وهو شهر يزيد الله تعالى فيه في رزق المؤمن، ومن فطر فيه مؤمناً صائماً كان له عند الله عز وجل بذلك عتق رقبة ومغفرة لذنوبه فيما مضى …» إلى أن قال: «فهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره إجابة وعتق من النار».
وبهذا ظهر من الحديث النبوي الشريف أن شهر رمضان شهر مضاعفة الأجور، وشهر مواساة المحتاجين والمعسرين، وشهر يكثر فيه رزق المؤمن، وشهر الرحمة والمغفرة والإجابة والعتق من النار، أي أن هذا الشهر شهر البذل والعطاء، شهر الصبر والإحسان، شهر الجود والكرم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان؛ لذلك روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يبعث الله منادياً ينادي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر كل ليلة “من ليالي رمضان” فيستجاب له، هل من سائل يعط سُؤَاله، هل من مستغفر يغفر له، هل من تائب فيتاب عليه، ولله عتقاء عند وقت الفطر في كل ليلة من رمضان».
ونحن بدورنا نقول للمعتدين أقصروا ولا تصروا، نقول للظالمين: أقصروا ولا تظلموا، نقول للعصاة: كفوا وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، وندعو أهل الخير أن يكثروا من فعل الخير، فيا أهل الأموال ويا أصحاب التجارة هذا موسم التجارة والمرابحة مع الله فهلموا لفعل الخير فهؤلاء النازحون، وأولاءِ أسر الشهداء، وأولئكم الجرحى والفقراء والمساكين، تجارتكم الرابحة مع الله سبحانه، ألا فلا يفوتكم هذا الفضل العظيم جاهدوا بأموالكم وأنفقوا في سبيل الله سبحانه، وأقرضوا الله قرضاً حسناً.
وندعو العلماء إلى بذل النصح والإرشاد والتعليم وتعريف الناس بالدين وأن يكون هذا الشهر شهر إرشاد ووعظ وتعلم وتعليم، فالله سبحانه وتعالى وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير، فكل أطياف المجتمع مدعوة للإكثار من فعل الخير بكافة أنواعه، ومطالبة بكف الشر بجميع صوره لتتحقق الغاية من الصيام المتمثلة بالتقوى، ويظهر ثمارها على المستوى الفردي والمجتمعي، يظهر ثمارها في المؤسسات الحكومية والوزارات سلوكاً وخلقاً ونظاماً والتزاماً حتى يعم الخير أرجاء البلاد.

قد يعجبك ايضا