تحالفات جديدة في القرن الأفريقي

 

يظهر القرن الإفريقي مرة أخرى كنقطة ساخنة في المعركة من أجل القوة والنفوذ في المحيط. وفي 3 أبريل ، اتهمت إريتريا تركيا وقطر والسودان بالتواطؤ لتقويض اتفاق السلام لعام 2018م، الذي كانت قد وقعته مع إثيوبيا. وسواء أكان هناك أي حقيقة للادعاء أم لا، فمن الواضح أن إريتريا تريد من العالم أن يعرف أنها ترى أن نفوذ تركيا في المنطقة يشكل تهديدا لمصالحها، بما في ذلك الحفاظ على الانفراجة مع إثيوبيا. إلى جانب هذا التطور الأخير، توجد هناك شبكة من اهتمامات الدول التي تدفعها إلى تكوين تكتلات جديدة، مما يخلق هياكل تحالف في منطقة القرن تبدو مختلفة تماما عما كانت عليه قبل بضعة أعوام.
انفراجة
تمتلك إريتريا وإثيوبيا تاريخا مشتركا، رغم أنهما كانا في العصر الحديث كيانين متمايزين. وكانت الأمم المتحدة قد قامت بتوحيد إريتريا وإثيوبيا عام 1952م، وضمت إثيوبيا جارتها فعليا بعد عقد من الزمان. وخاضت إريتريا حربا طويلة من أجل استقلالها، الذي حصلت عليه عام 1991م، مما دفع البلدين إلى تجميد العلاقات بينهما لفترة طويلة. لكن إريتريا، الخالية من الأنظمة الديمقراطية، والمليئة بانتهاكات حقوق الإنسان، لم تكن موضع ترحيب إلى حد كبير في المجتمع الدولي.
وقد استأنف جيران إريتريا العلاقات الدبلوماسية معها، فجأة إلى حد ما، بعد توقيع اتفاق سلام في يوليو الماضي. ويبدو أن إثيوبيا كانت مدفوعة للسعي وراء الانفراجة مع إريتريا بسبب التطورات في جيبوتي المجاورة. وترك انفصال إريتريا مطلع التسعينيات إثيوبيا بدون أي سواحل، وكان عليها الاعتماد على جيبوتي للوصول إلى البحر الأحمر، وهو أمر حاسم للوصول إلى الأسواق الدولية. لكن جيبوتي الصغيرة تشهد ازدحاما. حيث تقوم عدة حكومات أجنبية أخرى بتأجير أراضي جيبوتي لبناء القواعد العسكرية والدفع للوصول إلى موانئ جيبوتي. ومع ملء القوى العالمية لخزائنها بالمال، ليس لدى جيبوتي سبب وجيه للنظر في مصالح إثيوبيا. وكان على إثيوبيا البحث عن طريق آخر للوصول إلى البحر الأحمر.
ولا تعد إثيوبيا وحدها هي من تسعى للحصول على بدائل لجيبوتي. وتقع جيبوتي في موقع استراتيجي على مضيق باب المندب، وهو نقطة التقاء بين البحر الأحمر وخليج عدن. وفي أضيق نقطة في المضيق، تبلغ المسافة بين جيبوتي وساحل اليمن نحو 32 كيلومترا. وتستضيف جيبوتي القاعدة العسكرية الأمريكية الدائمة الوحيدة في أفريقيا. وتتمركز القوات الفرنسية والإيطالية واليابانية هناك. واختارت الصين أول قاعدة عسكرية خارجية للبلاد هناك. وتتمتع الصين بسمعة سيئة بشكل متزايد بسبب “دبلوماسية فخ الديون”، التي اعتادت أن تستغلها للتهديد بالاستيلاء على البنية التحتية الاستراتيجية، بما في ذلك الموانئ، في أماكن مثل سريلانكا وكينيا وباكستان. ولا شك أن الولايات المتحدة حذرة من الاعتماد بشدة على جيبوتي، وهي تحتاج إلى خيارات أخرى للوصول إلى البحر الأحمر. واعتمدت الإمارات منذ عام 2015م أيضا على جيبوتي لاستضافة العديد من قواعدها، والتي أطلقت منها غارات في اليمن. ولكن بعد خلاف دبلوماسي، قطعت الإمارات وجيبوتي العلاقات بينهما. وللحفاظ على غاراتها الجوية في اليمن، احتاجت الإمارات إلى قاعدة بديلة وفرتها إريتريا. وفي الوقت نفسه، تريد السعودية ضمان مرور سفنها عبر البحر الأحمر، حتى لا تعتمد فقط على الخليج العربي، وهو ممر مائي يمكن لإيران أن تغلقه نظريا.
لذلك، مع كل هذه الأنظار المتوجهة إلى إريتريا، أصبح الوفاق بين إثيوبيا وإريتريا أكثر من مجرد علاقة ثنائية. ولكي تحقق هذه البلدان أهدافها الاستراتيجية، كان لا بد من إعادة إريتريا إلى الحظيرة الدولية. وشجعت كل من الولايات المتحدة والإمارات ذوبان الجليد في العلاقات بين البلدين، وبحسب ما ورد، ساعد كل منهما في تمرير رسائل بين المنشآت الدبلوماسية الإريترية والإثيوبية. وقفزت السعودية، التي تربطها منذ وقت طويل علاقات وثيقة مع إثيوبيا، إلى المعركة، حيث توسطت اتفاقية سلام ثانية في سبتمبر الماضي.
واستندت المواءمة الضمنية في هذا الوفاق على أنه في مقابل وصول إثيوبيا وحلفائها إلى الموانئ الإريترية، يتم تخفيف العقوبات الدولية على إريتريا والتهديدات على حدودها الغربية. وفي الواقع، في نوفمبر 2018م، رفع مجلس الأمن العقوبات على إريتريا كمكافأة على تحسين العلاقات مع إثيوبيا.
مصالح تركيا
لكن ما هي المصلحة التي قد تعود على أنقرة في محاولة تقويض هذا السلام الجديد، هذا إذا كانت اتهامات إريتريا حقيقية في الواقع؟ قد يكمن الجواب في الدولتين الأخريين المتهمتين بالمشاركة في “أعمال التخريب” المزعومة من قبل إريتريا، وهما السودان وقطر.
ولا يعد انعدام الثقة بين إريتريا والسودان بالأمر الجديد. وفي يناير 2018م، أفادت التقارير بأن السودان نشر آلاف الجنود على الحدود مع إريتريا لوقف تدفق اللاجئين الإريتريين. ويخشى السودان من وجود كتلة موحدة بقيادة إثيوبيا في القرن الأفريقي، بالنظر إلى تاريخ إثيوبيا في التدخل في الشؤون السودانية، لذا فإن تجدد العلاقات بين إريتريا وإثيوبيا يثير قلق السودانيين. ومع ذلك، أعلن السودان أواخر العام الماضي أنه سيسعى لتطبيع العلاقات مع إريتريا. لكن لدى السودان أهم من ذلك ليشغله، مثل التعامل مع الاضطرابات الداخلية الحالية والانتقال السياسي في مرحلة ما بعد “عمر البشير”.
ومنذ أواخر عام 2018م، واجه الرئيس السوداني “عمر البشير” الذي تمت الإطاحة به مؤخراً احتجاجات في جميع أنحاء البلاد، أشعلها ارتفاع أسعار الخبز، والتي شكلت تحديا خطيرا لحكمه. وسعى “البشير” للحصول على دعم خارجي في محاولة الحفاظ على قبضته على السلطة. وفشلت السعودية، التي قدمت المساعدات المالية والعسكرية للسودان منذ عام 2016م، في دعم “البشير” في وقت حاجته. وبدلا من ذلك، استقل الرئيس السوداني طائرة متجهة إلى الدوحة، قطر، حيث طلب الدعم المالي، حتى تتمكن حكومته من دعم أسعار المواد الغذائية.
وقبل ذلك، وتحديدا في ديسمبر عام 2017م، أعلنت أنقرة أنها ستشارك مع السودان في إحياء ميناء “سواكن” العثمانية التاريخية في السودان، الأمر الذي يمنح تركيا موطئ قدم استراتيجي ممتاز على البحر الأحمر لتحدي المملكة العربية السعودية. ثم في يناير 2019م، بعد بدء الاحتجاجات ضد “البشير”، كشف وزير النفط السوداني أن تركيا، إلى جانب روسيا والإمارات، قد زودت الحكومة بالمساعدة، مما زاد من تقويض نفوذ السعودية هناك. ويشمل التنافس بين أنقرة والرياض نزاعات سياسية مثل النزاع حول قضية اغتيال الصحفي السعودي المنفي “جمال خاشقجي” في إسطنبول، لكن المنافسة بينمها أعمق بكثير. ويتنافس البلدان على زعامة المسلمين السنة في الشرق الأوسط. ومن خلال التضييق على السعودية في البحر الأحمر، وربما التدخل في اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا، يمكن لتركيا أن تحد من قوة التحالف السعودي الأمريكي الإثيوبي الأوسع نطاقا في البحر الأحمر. ويمكن لميناء “سواكن”، بمجرد تشغيله، أن يقيد مرور السفن السعودية عبر البحر الأحمر، ويحجم نفوذ الرياض على نطاق أوسع.
وفي حين أصدرت السعودية في نهاية المطاف تصريحات فاترة لدعم “البشير” قبل الإطاحة به، فإنها لم تقدم أي مساعدة مالية أو عسكرية لنظامه. ومع ذلك، يبدو أنها حاولت تقويض الشراكة الجديدة بين السودان وتركيا. وقبل وقت قصير من زيارة “البشير” إلى الدوحة، زعم زعيم حزب المؤتمر الوطني السوداني، في مقابلة مع الصحيفة التركية “يني شفق”، أن “دولة لم يسمها” عرضت تقديم الدعم المالي للسودان لدعم أسعار المواد الغذائية، ولكن فقط إذا قطعت العلاقات مع تركيا. ولقد كانت تلك إشارة في الغالب إلى المملكة العربية السعودية. وربما يحاول السودان اللعب بورقة القوى الأكبر في المنطقة ضد بعضها البعض، ولكن قد يجد أنه في الواقع بيدق في لعبة أكبر.
حلفاء إريتريا
على الجانب الآخر، تصطف قوى إقليمية وعالمية أخرى لدعم إريتريا، بما في ذلك مصر والسعودية والولايات المتحدة، وكلها ستستفيد من اتفاقية السلام بين إثيوبيا وإريتريا.
وادعت صحيفة إثيوبية أن نشر القوات السودانية في يناير 2018م على الحدود الإريترية كان ردا على إرسال مصر قواتها إلى الجانب الإريتري. لكن يبقى ما إذا كانت مصر قد أرسلت حقا قوات عسكرية إلى الحدود الإريترية السودانية أمرا غير واضح، لكن مصالح مصر ليست كذلك. وترى مصر كل من السودان وإثيوبيا تهديدين محتملين لشريان الحياة الذي تعتمد عليه مصر بالكامل تقريبا لأجل إمدادها بالمياه العذبة، وهو نهر النيل. ويمر النيل عبر السودان وإثيوبيا في طريقه إلى مصر. ولا يمكن السماح لأي من البلدين قطع وصول مصر إلى النهر. ويمكن لمصر أن تتسامح مع إثيوبيا مستقرة، وربما قوية، حيث قد يسهم ذلك في الأمن الإقليمي. لكن السودان القوي، الذي تدعمه تركيا، قصة أخرى؛ حيث ترى مصر إلى تركيا بوصفها قريبة جدا من الإخوان المسلمين، الجماعة الإسلامية التي تولت السلطة لفترة قصيرة في مصر بعد الإطاحة بـ “حسني مبارك”.
وتبدو الولايات المتحدة واقفة وراء إريتريا وإثيوبيا في سلامهما الجديد بقوة. ومن المنطقي أن تتقرب حليفتها السعودية إلى إريتريا. وفي الوقت الذي كان فيه تحالفها مع السودان في خطر، ترحب المملكة بالطبع بصديق آخر على الساحل الغربي للبحر الأحمر، كما يحتاج حليفها الإماراتي إلى إريتريا أيضا لبناء قواعد يمكن منها إطلاق غارات جوية في اليمن.
يقودنا كل هذا إلى دولة الإمارات، اللاعب الخفي الأقوى في هذه المعركة. ففي الوقت الذي ساعد فيه الإماراتيون في إعادة العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا، دعمت الإمارات حكومة البشير خلال الاحتجاجات، ويبدو أنها لا تزال تلعب دورا فاعلا في الانتقال السياسي في البلاد ما بعد حقبة البشير بفضل علاقتها مع جنرالات الجيش السوداني المشاركين في حرب اليمن. وبالنظر إلى اعتمادها على إريتريا لقواعدها العسكرية، فسوف يكون هذا إشارة على استعداد الإمارات للعب مع كلا الجانبين. وتعد الإمارات جزءا من التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، لكن لدولة الإمارات مصالح واضحة مختلفة في تلك الحرب عن مصالح السعودية، وقد اشتبكت المجموعات التي تدعمها الإمارات والسعودية في اليمن مع بعضها البعض بشكل متكرر. ومثل السعودية، فإن اعتماد الإمارات على الخليج العربي لنقل صادراتها النفطية يجعلها عرضة للحصار الإيراني. وإذا كان بإمكانها تأمين الساحل الجنوبي لليمن، يصبح لديها نقطة وصول أخرى إلى طرق التجارة الرئيسية عبر خليج عدن. وستكون بذلك أقل اعتمادا على دول البحر الأحمر الأخرى، مثل إريتريا.
وعادة ما يكون القرن الأفريقي في حالة تغير مستمر، ويخضع الآن لسلسلة من التحولات في الولاءات خاصة مع الانتقال السياسي في السودان خلال حقبة ما بعد “البشير”، وهو ما يعني أن المنطقة على وشك الدخول في عملية إعادة تنظيم كبرى مجددا خلال الأيام المقبلة.
المصدر/ جيوبوليتيكال فيوتشرز

قد يعجبك ايضا