دراسة أمريكية عن سيناريوهات الحروب: هزيمة ساحقة أمام روسيا والصين

الثورة/..
اعتادت المؤسسة الحاكمة الامريكية المضي في سباق مستمر لزيادة الانفاقات العسكرية دون مقاومة داخلية تعاونها (أو تتواطأ معها) المؤسسات الإعلامية الضخمة، ولا تنقصها الذرائع والتبريرات على اجتراح “اعداء” عند كل حقبة تاريخية؛ والضخ الإعلامي غير المنقطع للترويج إلى “الآلة العسكرية الامريكية الفريدة التي لا يضاهيها أحد في الكون.. سواء في قدرة القوات الجوية أو البحرية”.
الميزانية المقدمة من البيت الأبيض للسنة المالية الجارية، 2019-2020م، تضمنت اقتطاعات غير مسبوقة في البرامج الاجتماعية والرعاية الصحية والتعليمية تقدر بنحو “2.7 تريليون دولار للعقد المقبل؛” تم تحويل المبلغ إلى زيادات في الانفاق العسكري على قطاعات “البنتاغون والأمن الداخلي والجدار الحدودي والشرطة..”, معطوفة على “بلورة شعور عام مبهم بحالة طوارئ”, تمهد لتعاطف شعبي ومؤسساتي مع سياسات الانفاق “غير المسبوقة” تؤدي لرفع معدلات العجز المالي إلى 22.5 تريليون دولار للسنة الحالية؛ مقارنة مع عجز بلغ 19.5 تريليون عند تسلم الرئيس ترامب مهام منصبه.
المعدل العام للعجز المالي الأميركي، وفق بيانات مكتب الكونغرس للميزانية، سيبلغ 34 تريليون دولار مع حلول عام 2028م؛ ما نسبته 914 مليار دولار سنويا كلفة خدمات الدين العام وحده.
ما يميز العجز المتصاعد هو التراجع المستمر في عائدات الميزانية العامة نظراً لتخفيضات دائمة في قيمة الضرائب على الشرائح الأكثر ثراءً وكبريات الشركات أيضاً، مقابل “زيادة ميزانية الانفاقات العسكرية” قيمتها 750 مليار دولار للسنة الحالية.
السردية الرسمية لتبرير الانفاقات المتصاعدة دوما لا تنعكس إيجاباً على نوعية وأداء القوات العسكرية، بكافة قطاعاتها واختصاصاتها، حسبما تورده تقارير المؤسسات الدفاعية وقياداتها العسكرية عينها، وعلى أرفع المستويات. رئيس هيئة الأركان الامريكية المشتركة، جوزيف دنفورد، حذّر بلاده “بتراجع تدريجي” لهيبتها العسكرية أمام الصين وروسيا اللتان “عملتا على تعزيز قوتهما في مجالات الحرب الإلكترونية والتصدي للأقمار الاصطناعية والصواريخ المجنحة المضادة للسفن والصواريخ الباليستية” للحيلولة دون تمدد القوات العسكرية الامريكية في منطقتي المحيط الهادي وأوروبا.
جاء ذلك في معرض ندوة أدارها مع أفول عام 2017م أمام حشد من طلبة جامعة تافتس “Tufts” بولاية ماساتشوستس الامريكية، موضحاً أيضاً أن الخصوم “وفي مقدمتهم روسيا والصين.. عملوا بعناية وتأني على دراسة كل العمليات العسكرية التي شنها البنتاغون بدءاً من حرب الخليج (الثانية) عام 1990، واستمروا في تطوير الجهود المضادة التي تتيح لهم التفوق على الولايات المتحدة في مجال الأسلحة التقليدية”.
مساعدة وزير الدفاع بالإنابة، كاثرين ويلبارجر، أوضحت في شهادتها أمام “لجنة القوات المسلحة” في مجلس النواب، في 13/ مارس الجاري، أن الصين وروسيا “ومنذ عقد التسعينيات من القرن الماضي عكفتا على دراسة متأنية لكيفية مواجهة التحدي الاستراتيجي أمامهما – الولايات المتحدة؛ وتحديث بكين وموسكو لقواتهما العسكرية.. تضع واشنطن في موقع لا تحسد عليه للرد عليهما بأساليب قد تفسّر بأنها تصعيد للأزمة المتنامية – وهو مسار مليء بالتعقيدات عند الأخذ بعين الاعتبار قدراتهما النووية المسلحة”.
نائب وزير الدفاع الأميركي السابق، روبرت وورك، الخبير في “محاكاة الحروب” أوضح تدني القدرات الجوية الامريكية قائلاً إن “.. مقاتلات إف-35، الأكثر تطوراً وحداثة، معرضة للخطر؛ عندما تحلق عاليا فهي تتحكم في الحرب الجوية، لكنها عرضة للتدمير بأعداد كبيرة في مرابضها عندما تستهدفها القوات المعادية مع نشوب المعارك”. وأضاف إلى قتامة توقعاته أن “القوات الحمراء دمرت بكفاءة مراكزنا للقيادة والتحكم، مما اضطرنا لوقف التجربة”؛ مضيفاً أنه لو وقعت حرب بالقرب من دول البلطيق “فسيكون بوسع القوات الروسية الوصول إلى عواصم تلك الدول في غضون 48 إلى 72 ساعة.”
في النصف الأول من شهر مارس الجاري، قدمت مؤسسة “راند”، تحت رعاية البنتاغون، نتائج “سيناريوهات متعددة لمحاكاة حرب لاختبار مدى قدرة القوات (والأسلحة) الامريكية” مواجهة القوى الأخرى الصاعدة في العالم. جاء في أحدها أن “..الولايات المتحدة تكبدت خسائر فادحة، على الرغم من اتفاقاتها العسكرية المضطردة” التي تجاوزت 700 مليار دولار سنويا.
واسترسلت “راند” بالإقرار أن “التواجد العسكري الهائل وقواعد الإمداد لحلف الناتو على امتداد القارة الأوروبية، قوامها 58 لواءً أميركياً مقاتلاً، تقف عاجزة عن الدفاع عن نفسها أمام صواريخ كروز وطائرات الدرونز والمروحيات.. نظراً لقرار قيادة القوات البرية التخلص من قوات الدفاع الجوي المحمولة”.
ونقلت يومية “بريكينغ ديفينس” الأمريكية المختصة بشؤون البنتاغون، عن جزءٍ يسيرٍ من دراسة “راند” أن “روسيا والصين هزمتا القوات الزرقاء (الامريكية) في المحاكاة؛” التي شملت جميع أشكال المعارك: البرية والبحرية والجوية والفضائية والإلكترونية وأسلحة طائرات الدرونز.
الخبير الأمريكي في “مؤسسة راند” وأحد المشاركين في السيناريوهات المذكورة، ديفيد اوشمانك، رسم أفاقاً مقلقة لوضع وأداء القوات والأسلحة الامريكية قائلاً “في ألعاب (المحاكاة) عندما نقاتل ضد روسيا والصين، تتكبد القوات الأمريكية هزيمة ساحقة.. نفقد الكثير من القوات والمعدات، وعادة ما نفشل في تحقيق هدفنا” المتمثل في منع الخصم من شن عدوانه.
يشار إلى أن “مؤسسة راند” المتعاقدة بكثافة مع البنتاغون وبرامجها العسكرية المختلفة، تجري مناورات سنوية لمحاكاة الحروب والأسلحة المختلفة، تطلق عليها “أحمر على أزرق،” منذ عام 1952م، ترمز إلى القوات الأمريكية “الزرقاء” باستطاعتها التصدي والتغلب على “الخصوم الحمر؛” روسيا والصين؛ ترمي لبلورة القطاعات العسكرية المختلفة استراتيجيات مستحدثة للتدريبات المختلفة والأسلحة المطلوبة.
في المجال الاستخباراتي أيضاً تتراجع قدرات الولايات المتحدة، حسبما أفاد به مدير المخابرات الوطنية، دان كوتس، في إفادته أمام لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، نهاية يناير 2019م، محذراً من أن “.. روسيا والصين تشكلان أكبر مصدر تهديد للولايات المتحدة حين يتعلق الأمر بالتجسس والهجمات الالكترونية؛ بل هما أكثر تقارباً مما كانتا عليه” في العقود السابقة.
كوتس أدلى بشهادته برفقة مجموعة من قادة الأجهزة الاستخباراتية شملت: وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي وآخرين؛ محذراً من أن “.. بعض حلفاء الولايات المتحدة يسعون لممارسة قدر أكبر من الاستقلالية.. ” عن واشنطن “وهم أكثر استعدادا لإقامة علاقات مشتركة جديدة.”
التحذيرات الأمريكية المستمرة من تراجع هيبة ترسانتها التسليحية جاءت بالتساوق مع نتائج دراسات عسكرية داخلية من أبرزها تلك التي أجراها قسم دراسات سلاح الجو التابع لأكاديمية العلوم الأمريكية المرموقة تشير إلى جهود الصين وروسيا “إجراء تجارب على أسلحة تتمتع بقدرة فائقة على المناورة (الصواريخ الأسرع من الصوت) مما يمثل خطراً على القوات الامريكية المنتشرة.. وحتى الأراضي الامريكية؛ إذ يمكنها العمل والمناورة على ارتفاعات شاهقة وسرعات عالية تحيل وسائط الدفاع الجوي (الراهنة) والأسلحة القتالية المتوفرة عديمة الفائدة.
وجاء على لسان رئيس القسم المشرف على الدراسة، مارك لويس، قوله إن مجموعة الخبراء الأميركيين توصلوا لنتيجة مفادها أن “.. الولايات المتحدة قد تصطدم بمخاطر مصدرها نوع جديد من الأسلحة يتميز بفعالية عالية السرعة وقدرة كبيرة على المناورة والتحليق العالي”.
واشنطن والعواصم العالمية الكبرى تدرك تراجع الهيبة الامريكية وانعكاساته على فرادية تحكمها بقرار العالم، ومقاومتها الشديدة لتعدد القطبية الدولية؛ على الرغم من تصريحات كبار المسؤولين الأميركيين، من بينهم نائب الرئيس مايك بينس، في مؤتمر ميونيخ للأمن مؤكداً أن بلاده “.. أصبحت مرة أخرى زعيمة للعالم الحر.”
أكبر الصحف الألمانية، دير شبيغل، فندت مزاعم بينس وآخرين بالرد قائلة “الرؤى الامريكية لا تتطابق مع (الواقع) .. أميركا لا تقود العالم لأنها تفقد قوتها أمام بلداناً كروسيا والصين وحتى إيران”.
تآكل أو أفول مفهوم “القطبية الواحدة” سينعكس بالضرورة على مستويات متعددة، منها الاستراتيجي والآخر ذو طبيعة تكتيكية: التوازن العسكري على الصعيد العالمي، الجغرافيا السياسية، الاقتصاد الدولي، التكنولوجيا بكافة تنوعاتها، والأحلاف العسكرية خاصة التي تستحدثها وتتشبث بها واشنطن.
استثمار واشنطن بالبعد العسكري الصرف، كما ورد أعلاه، لن يوقف توجه العالم باتخاذ مواقع بديلة حتى وإن تأخر بلورة الموقف النهائي من تعدد القطبية، ويتوج نهاية “الحرب الباردة – القديمة والمتجددة،” وابتعاد ما يشبه توصيف علماء الطاقة الذرية بابتعاد المركز/النواة أكثر عن فضائه الملحق به؛ وتآكل مفهوم “العولمة” التي بشرت به واشنطن لتبرير مفهوم أحاديتها القيادية للمركز العالمي، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار التقدم التقني الذي لم يعد حكراً على المركز الأميركي بالدرجة الأولى.
أحدث التحذيرات الأمريكية عن أفول النفوذ الأميركي جاء أيضاً على لسان “مؤسسة راند”، 15 فبراير 2019م، لتنبيه مراكز القرار من تداعيات “الانسحاب الأميركي من سوريا مما يوفر فرصة لدخول الصين لتعزز دورها كلاعب دولي مركزي هناك؛ وتقديمها مساعدات عسكرية تتمحور حول ارسالها خبراء في مجال الاستخبارات والمستشارين الاستراتيجيين والقوات الخاصة.”
الدراسة المذكورة آنفاً قد لاتكون بعيدة عن تأكيد واقعية تراجع القوة الامريكية ولكنها تخدم غرضا آخر يتلخص بتوفير الذرائع للمجمع الصناعي الحربي للإستمرار في الترويج للمزيد من الإنفاق العسكري.

قد يعجبك ايضا