قراءة في قصيدة "محمديون" للشاعر معاذ الجنيد

اعتزاز وافتخار بصنّاع المجد

 

حاتم شراح

يستهل الشاعر قصيدته بالبيت الذي يعلن عن الشاعر، وفي البديع باب براعة الاستهلال ، والشاعر من خلال البيت الأول يسلب لب القارئ فيستمر معه يقول معاذ في بيته الأول :
محمديون باسمِ المصطفى هتفوا
ما همَّهمْ تستمرُ الحربُ أو تقفُ
محمديون طه سرُّ قوتهم
لو زُلزِلَ الكونُ ما اهتزوا ولا وجفوا
صُبَّت حروبُ العدا فيهم لتصرِفهم
عن نهج ِطه فخاضوها وما انصرفوا
الشاعر وهو يصف قومه الذين يستحقون اللقب الذي توجهم به ، يورد الأدلة والبراهين على ما يقوله ، فها هو يدلل على ذلك بأن طه هو سر عظمتهم وقوتهم وفعلا ارتباط اليمنيين بطه ارتباطٌ عقائدي وثيق ، لا يتزعزع ولا يتزلزل لو اهتز الكون وارتجف ، ولا وجف كما توجف الخيل وترجع للوراء ، ومن براهينه الواقعية أن العدا صبُّوا حروبهم لصرفهم عن نهجه فما اهتز لهم شعرةٌ، وخاضوا الحروب وما انصرفوا عن نهجه القويم ، يستمر الشاعر في ضخِ براهينه وصبِّ نيران شعرهِ على أعداء هذا الشعب ، من خلال دفاعهِ عن الاحتفال ، ومبالغته في مدى ما يستطيع أعداء هذا الشعب فيقول :
لو جيَّشوا ضِعْفَ ما في الأرض لاحتفلت
قلوبُنا ، وتهاوى كلُّ من عصفوا
لأنهم وطواغيت الورى طرفٌ
ونحن والمصطفى في حربهم طرفُ
ضاق الأعادي وشعبي فيك محتفلٌ
حرٌ ، عزيزٌ ، كريمٌ ، شامخ ٌ، أنفُ
البحرُ طوفانٌك العاتي سيغرقُهم
وأرضُنا فيك للمحتل تلتقفُ
الشاعر يعبر بعاطفته الجياشة التي تتبدَّى من خلال تعبيره عن احتفال القلوبِ قبل الأجسادِ وفعلا القلوب محتفلةٌ برسول ِاللهِ صلى الله عليه وآلهِ وسلم من خلالِ المحبةِ الثابتة والمتجذرةِ في القلوبِ كيقينيةٍ من يقينياتِ الدين ، وما التعظيمُ والتبجيلُ ، والتضحيةُ في سبيل الله إلا مصداق لهذه المحبة ، وهذا الإيمان هو من أزعج الأعداء الذين يفتقدون هذا الإيمان ، فهم في طرفِ طواغيتِ الأرضِ يقفونَ في صفهم ونحن نقفُ مع رسول الله وفي طرفه وصفه ، كما عبر الشاعر عن ضيق الأعادي ذرعا بهذا الشعب وأزعجهم إيمانُه ، وثباتُه وصمودُهُ ، وحريته وعزته وشموخه ، وأنفتهُ ، كما يقابل الشاعر بين البحر والأرض بأنهما معنا فالبحر سيغرقهم والأرض تلتقفهم ، وهنا يبرزُ اليقينَ الثابتَ والإيمانَ الراسخَ بحتميةِ النصرِ ، كما يعبر الشاعرُ عن العوائقِ التي يضعها العدوُ في سبيلِ ثَنْيِ الشعبِ عن هويته الإيمانية التي تربطه برسول الله مباشرةً ليسير في نهجه وتحت رايته يقول الشاعر :
لم يثننا عنك يا طه تحالفهم
وما اعترى شعبَنا حزنٌ ولا أسفُ
فنحن حيدركَ الكرارُ نحن وهل
يخشى عليُّكَ من حربٍ ويرتجف ُ
قلوبنا حمزةٌ جاءتك شامخةً
صدورُنا كربلاءٌ ، بأسُنا النجف ُ
جراحُنا أنجمٌ من حبكَ اشتعلت
رؤوسُنا من سماواتِ العُلى كِسَف ُ
دماؤنا صلواتٌ باسمك انسكبت
أشلاؤنا فيك يا خير الورى تُحَف ُ
لو حولونا لذراتٍ مبعثرةٍ
لسبحت باسمك الذراتُ والنُتَف ُ
الشاعر يعبر عن فخره واعتزازه بشعبه الذي يخوض حربا شعواء في سبيل أن يسير في نهج طه وأنه لا يعْترِيه ِحزن رغم التضحيات ، ويعبر الشاعر عن الشجاعة عبر استحضاره للرموز العظيمة التي تمثل الاسلام في أنصعِ صورهِ وتجلياته متمثلا بحيدرة الكرار وبحمزة ، وبكربلاء ، فشجاعتُنا نستلهمها منهم ، ونستلهم التضحيات من كربلاء ، في هذه المقطوعة تبلغ العاطفة ذروتها من خلال مفردات الصدور والقلوب والدماء ، والجراح فهذه كلها تدل على مدى التضحية وقوة الصلابة ومستوى التحدي يبلغ منتهاه من خلال دماؤنا صلواتٌ ، وأشلاؤنا تُحَفُ ، جراحنا أنْجُم ، فهذه التراكيب تدل على مدى الصدق النفسي والاعتزاز بالتضحية ، وما تعبيره عن الثبات بتسبيح الذرات والنُتَف إلا لزيادة الإيحاء النفسي الذي يتركه لدى المستمع الذي يضحي يوما بعد يوم وهو يشارك الشاعر هذا الشعور ، وما الشاعر إلا معبر عن الجماعة ، ثم نرى الشاعر يعبر عن الحرب بأنها لن تُثْنيَ اليمنيين عن الاحتفاء بطه خير خلق الله فيقول :
ولم نرَ الحربَ عُذْرًا عنك يشغلنا
إذ يشغلُ الناسَ عنك السلمُ والتَرَف ُ
فنحن أنصارك الأحرار من زمن ٍ
جرتْ بحبكَ في أصلابهِ النُطَف ُ
كأننا يثربٌ هاجرت في دمنا
وعشت فينا ، وعشنا منك نَغْتَرِفُ
كم حاصروك بذاك الشِعْبِ وانكسروا
وحاصروك بهذا الشَعْبِ وانجرفوا
يعبر الشاعر عن ارتباط اليمنيين برسولهم ودينهم من خلال نصرته في الماضي والحاضر ، وأنصار اليوم هم من أنصار الأمس، ويستدلُّ الشاعرُ بحصارِ اليومِ ، وكأنه نسخةٌ من حصار الأمس ، فالمقابلة والمعادل الموضوعي واضح والنتيجة واضحةٌ للعيان وهذا ما يبشِّر بالخلاص فالشعراءُ يستلهمون من التاريخ ويرون بشعورهم المُرْهَفِ ما لا يراه غيرهم.
ثم يتابع الشاعر وصفَه لذلك المشهد والمقابلة بين الأمس واليوم فيقول:
أسلافنا تحت أشجارٍ مظللة ٍ
يبايعونك ، نِعْمَ القومُ والخَلَف ُ
ونحن نعقِدُ تحت القصف بيعتنا
فالقصف لا يُخضِعُ الأنصارَ إن وقفوا
من قاتلوا الشَعبَ هذا قاتلوك فهلْ
ينْجو خصومُكَ يا طه ونَنْكَسِف ُ
ثم يتابع الشاعر بعد هذه المقابلة التي أثبتت أن أعداء اليوم هم أعداء الأمس وها هو يسرد غاياتهم ومراميهم في قوله :
يرجون تركيعَ قومٍ أنتَ قائدُهم
متى سيعقلُ هذا العالِمُ الخَرِفُ
لقد تمادت قريشٌ في غوايتها
يا ليت من حاربونا للهدى عرفوا
لو أدركوا ما لقينا فيك من شرفٍ
ومن شموخك لو ذاقوا أو ارتشفوا
لنافسونا بهذا الحبِّ واحترقوا
كما احترقنا ووَدُّوا أنَّهم قُصِفُوا
لو يعلمُ اللهُ خيراً كانَ أسمعهم
لكنَّهم رضَعُوا التَضليلَ واعْتَلفوا
الشاعر في هذه المقطوعة يفنِّد مزاعمَ الاعداء في وضع المبررات للحرب ، ويضع النقاط على الحروف دون تزوير أو بهتان ، فالتعالي والتكبر ، والتمادي في الغواية هو ديدن كل معتد ومتكبر وضالٍّ وعبر عن هذا الضلال بأنهم لو تذوقوا الهدى الذي نحن فيه لتمنوا أنهم مكاننا ، ويُعقِّبُ في آخر بيتٍ بأن التضليل الذي مُورِسَ عليهم ، وعبَّر بهِ عن فقدانهم لآدميتهم من خلال قوله “واعتلفوا” وهذا تناصٌ مع القرآن في وصفه لهذا النوع بالأنعام . ثم يتابع الشاعر ممارسات هؤلاء في قوله:
خانوا الرسولَ وخانوا اللهَ في دمنا واستبدلوا مجدَهم بالذُلِّ فانخسفوا
هذا البيت هو بيت القصيد في هذه الملحمة المحمدية ، وسيتردَّدُ كثيرا بإذن الله ِ فقارون العصر يشمخُ بأنفهِ ويستطيلُ بسلطانه ِ، ويتكبرُ ويتجبَّرُ بماله ، وعاقبته الخسْف ، ولكن لكل أجلٍ كتاب ، الشاعر يمتلك حساً استشرافياً للمستقبل مستَنِدٌ إلى سنن الله في خلقه ، في الأبيات الختامية يناجي الشاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبا بقوله :
بُعثتَ للناسِ نوراً ، عزةً شرفاً
فكيفَ دونك يرجى العزُّ والشرفُ
سرنا بنهجك فاستبدلت واقعنا
وكل حال مع المختار يختلف ُ
هواك فينا جهادٌ ثورةٌ عملٌ
ما اعتزَّ من فيك يشدو وهْوَ مُعْتَكِفُ
مشروعنا أنت يا طه يحاربنا
عليك من حرفوا معناك وانحرفوا
من أظهروا الدين بنياناً مشوهةً
على شفا جُرُفٍ ها رٍ بهِ جُرِفوا
مؤامراتُ قريشٍ حولنا اتسعت
فسُمِّمَ الوعيُ عند الناسِ لا الكَتِفُ
هذه الأبيات توضح حجم المؤامرة ، والاستهداف لهذا الشعب العَصِيِ على الأعداء ، وكيف تغير الواقع ، وكيف تكالب الأعداء حين شعروا أن هناك من يريد إفشال مؤامراتهم وكشف أباطيلهم ، وتحريفم ، وانحرافهم ، كما أوضح أن نفاقهم اتضح للعيان من خلال تسميمهم للوعي المجتمعي عبر نشر الثقافة المغلوطة التي نحن نجني ثمرتها اليوم .
ثم يسرد الشاعر سرَ قوَّةِ اليمنيين من خلال الإيمان الذي لا يتزعزعُ في قوله :
كمْ طالبونا بتسليم السلاح ولو
يدرون لاستنكروا أقوالهم ونَفُوا
سلاحنا أنت يا طه وقوتنا
وكلُّ منْ أملوا في نزعهِ نُسِفُوا
تمترستْ فيك واشتدتْ مَتَارِسُنا
وأصبحت لرؤوسِ الشرِّ تقتَطِفُ
ما دمت فينا فنَصْرُ الله ِموعدُنا
وقد أُذِلَّ الأعادي أينما ثُقِفُوا
تعلقتْ فيكَ أرواحٌ وأفئدةٌ
وناشدتك بلادٌ كلها شَغَف ُ
فأنتَ غيثُ قلوبٍ كلها ظمأ ٌ
وأنتَ لؤلؤُ كونٍ كلُّه صدفُ
هذه المناجاة وهذا الحب عبر عنه الشاعر من ميدان المعركة ، ومدى تعلق اليمنيين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف تعلقت به الأرواح والأفئدة ، وكيف أصبح هو سر حياة القلوب ، وهذا ملمح صوفي ، لا يبرح أن يغادره الشاعر، فالمعركة وأجواؤها لا تحتمل ذلك حتى الخاتمة يستطرد فيها كعادته في بعض قصائده فيقول :
صلى عليك النفيرُ العامُ وانطلقتْ
قبائلٌ أنتَ فيها الثأرُ والنَكَفُ
محمديون أنصارُ الرسولِ ومنْ
غيرَ اليمانينَ بالأنصارِ قد وُصِفُوا
تبوأوا الدارَ والإيمانَ ما نكثوا
عهداً ولا أجلوا وعداً، ولا اختلفوا
تحرروا برسولِ الله ِوانطلقوا
بحبلهِ استمسكوا في حبهِ عُرِفُوا
وأنفقوا كلَّ شيء في محبتهِ
وحين لم يبقَ ما يعطونهُ نزفوا
محمديون ما خانوا محمدهم
في الحبِ كمْ أرْعدوا في الحربِ كمْ عزفوا
على قوى الظلمِ ثاروا، قاوموا دولاً
وما استكانوا ، وما هانوا ، ولا ضعفوا
إن واجهوا الكونَ كانوا فوقَ طاقتهُ
محمديون إنْ صدوا وإنْ زَحفوا
محمدٌ في سبيلِ الله ِجبهتنا
وغير قرآنِ طه ما لنا هدفُ
صلاتنا اليوم بالستيةٌ عبرتْ
بكَ المسافاتُ للأقمارِ تختَطِفُ
صلى عليك إلهُ الكونِ ناصرُنا
والصفوة الآلِ من بالعزةِ اتصفوا
تمثلت العزة والكرامة والأنفة حتى في أواخر القصيدة حيث أن الشاعر ، يكتب من وحي الواقع ،فالانتصارات والتضحيات التي يصدرها اليمنيون تفوق الوصف وما مقدرة الشاعر بلغته التي طوعها لتصف المشهد وتعبر عما يجيش في صدر الشاعر من مشاعر فياضة لها ما يبررها ، ومن الملاحظ أن قوة القصيدة توزعت من البداية حتى النهاية ، وبها من الاشتغال على الموروث التاريخي ، والإرث الحضاري ، وما بحر البسيط إلا وعاء موسيقي استطاع من خلاله الشاعر أن يبلغ به ما لم يبلغه غيره ، كما أن النفس الطويل في القصيدة ، مكن الشاعر أن يبلغ به ما يشاء وبلغة جزلة ، وابتعد الشاعر عن التراكيب الغامضة والصور التي لا تخدم المعنى.

قد يعجبك ايضا