للشيخ محمد علي صياد

قراءة في كتاب.. “العرف القبلي وأحكامه في اليمن “

 

حاتم شراح

تبرز أهمية هذا الكتاب الذي تناول موضوعا في غاية الأهمية أنه جاء من شيخ يعتبر أصلا من مصادر البحث حيث أن الموضوع ليس له من المصادر بعد الشريعة الإسلامية غير ما تناقله المشايخ كابرا عن كابر والمشائخ منهم من اهتم بالعرف وشاعت شهرته بين الناس ومنهم المؤلف فهو شيخ متبحر في الموضوع حتى النخاع بدليل مؤلفاته ومنتداه والذي اتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي منبرا لنشر معارفه التي لا يبخل بها على أحد . والكتاب لم يأت من باحث يحتاج في كل جزئية من جزئيات الكتاب إلى مراجع ومصادر لبحثه ، وكون الباحث من مصادر البحث فقد وفر على القارئ أن يثق بالمؤلف ويأتي الكتاب بمثابة المتن القانوني ، وبه من القضايا الفقهية ما يجعل القارئ يستفيد من تناغم العرف مع الشريعة الاسلامية ، والمؤلف لم يسترسل في مؤلفه كونه ليس ممن يريد أن يقحم تخصصه في الموضوع ، وإلا لكان الكتاب في مجلدات ، فلو جاء الكتاب من فقيه لأقحم الفقه وأصوله ، ولكان للمواضيع تفرعاتها المختلفة التي يعجز الكاتب عن لملمة الموضوع فيها ، كذلك لو جاء الكتاب من قانوني ، أو عالم اجتماع أو تربية أو حتى فلسفة ، وهذا مما يحسب للكتاب أن يأتي من شيخ يعرف ما هي المواضيع المهمة التي تحتاج للذكر ، فالشيخ محمد علي صياد أورد مواضيعه بثقة من حيث أهميتها ، كما أنه كان دقيقا في مصطلحاته موردا بعض التفصيلات التي تدل على حرصه في إيصال الفكرة دون الحاجة إلى شرح وهوامش ومراجع وغير ذلك ، وموضوع العرف شيق جدا ولولا شحة المراجع فيه لتطرق إليه الكثيرون فالعرف القبلي ليس وليد اليوم أو الأمس القريب العرف القبلي كان حصيلة تجارب سياسية تمتد لآلاف السنين من خلال الدول اليمنية القديمة التي كانت تحكم اليمن وتنتهج العرف ، كما اتصال الملكة بلقيس بسليمان عليه السلام كان له دور في الاستفادة من التعاليم السماوية التي جاء بها سليمان وما كانت تنتهجه الملكة بلقيس مع قومها من أحكام وقوانين ، وهذا من باب التواصل الحضاري بين الحضارات المختلفة ، ومما لا شك فيه أن العرف في أي مجتمع خاضع لتراضي المجتمع عليه ، وأحيانا عندما تتأخر أمة من الأمم تنتهج أعرافا متخلفة يكون لها تأثير سيئ على تقدم وازدهار هذه الأمة وهنا يبعث الله الرسل والأنبياء لتصحيح هذه التصورات والأفكار ، والعرف هو ما تعارف عليه الناس واستحسنوه وتراضوا عليه ، واتسم العرف بأنه إذا كان موافقا للعقل والدين ومصالح الناس أن يتسم بالإجماع ، من أهل الاختصاص ، فهناك أعراف في كل مهنة من المهن يتراضى بها أهلها ، ومواضيع الفقه تزخر بمثل هذه الأشياء كون الإسلام جاء والناس يتداولون وينتهجون سلوكيات تستند إلى العرف فصحح وعدل وأبقى ما كان موافقا للشريعة وأبطل ما كان مخالفا لها ، ولهذا نرى لعرف القبلي ساري المفعول لأنه تنقى من أي أعراف تنافي الشريعة ، والعرف اليوم يعتبر جهة غير إلزامية للجوء إليها إلا عندما تخرج الأمور عن سيطرة الجهات المختصة ، وفي بعض القضايا يتراضى المتخاصمون على محكمين من المشائخ في قضايا كبيرة عجزت عنها المحاكم ، فالعرف القبلي يقوم بحل كثير من القضايا ، وتكون أحكامه بحسب الاشتراط والتحكيم ، فالتحكيم المطلق لا يصبح للمحكم أن يستأنف الحكم وأحيانا يشترط بعض المحكمين منها بعد الحكم فيخضع الحكم لموافقة المنهى الذي يعتبر مرجعا ويسمى المراغة في الحكم القبلي ، والمراغة يعتبر مفتيا في لعرف القبلي ، وترى كثير من المواطنين عندما يتم تحكيمهم في قضية من القضايا يسعون إلى الاسترشاد بمراغة من المراغات في العرف القبلي ، ربما أكون قد شردت عن مواضيع الكتاب الذي جاء في ثمانية فصول حوى كل فصل عددا من المباحث الفصل الأول تناول فيه المؤلف الغرم والإخاء والرباع وشرح كل مصطلح وهذا الموضوع عالج البنية الاجتماعية القبلية من حيث أن الغرم هو مورد اقتصادي تسد به القبيلة نفقات القضايا العامة وتدافع عن مقدرات القبيلة كما أنه بمثابة التأمين أو التكافل ولهذا جاء من مصاريف الزكاة الغارمين ـ وممن تحل له المسألة من عليه غرم مفضع أي كبير كما في الحديث ، فعندما جاء الاسلام عالج اشكالية في العرف عن طريق الزكاة فالعرف لا يعرف فقيرا أو غنيا ، والزكاة عالجت الإشكالية ففي بعض العصور كانت الأغرام تستنفد اقتصاديات المواطن في ظل غياب دولة موحدة ، وبقي في أحكام الديات الغرم عندما تكون الدية على العاقلة أي أسرة القاتل خطأ وجاء في وثيقة المدينة التي نظمت حياة الناس في المدينة المنورة من مسلمين ويهود ومشركين ، أن كل فئة تتغارم فيما بينها ، والآن في العصر الحاضر عندما تعددت موارد شيخ القبيلة وأصبحت الزكاة موردا دائما يسد كثيراً من الحاجات في ظل اعطاء الزكاة للدولة فهي التي تدفع عن المعسرين من المساجين ففي العرف القبلي الدولة ولي من لا ولي له ، وفي ظل الدولة يصبح الغرم طارئا ويخضع للتبرع بمعنى أن يدفع من يستطيع الدفع وذلك كون الزكاة يجب أن تسد ما يسده الغرم ، أما فيما يتعلق بالإخاء فهو ثابت بين أبناء القبيلة الواحدة ، طارئ فيما يتعلق بمن أراد أن يلجأ إليها من أبناء قبيلة أخرى نتيجة لخوف أو ظلم أو إيذاء أو انعدام من ينصره ، وهو يشابه الأحلاف بين القبائل العربية فالإخاء بين الفرد والقبيلة والحلف بين قبيلتين مختلفتين ، وهو لازم من لوازم الفرابة بين القبائل التي تنحدر إلى جد واحد ، كما يعتبر الإخاء مشابه للجوار في عرف القبائل العربية ، وهو من شيم المروءة فلا يأتي الأفراد للإخاء إلا عند من يتوسمون فيه العون والنصرة ، فأحيانا تتحمل القبيلة المشاق والمصاعب والتضحيات في سبيل نصرة فرد يكون مظلوما وأحيانا لإغاثة ملهوف ، وقد أورد المؤلف أن القبيلة لا تقبل مؤاخاة المخطئ بل تقبل إخاءه له وعليه فلا يمكن لأحد أن يطلب الإخاء هربا من عقاب أو صاحب باطل ، ومراسيم الإخاء من الأهمية بمكان حيث تكتسب أهميتها من كونها تستجيش عاطفة ومروءة من جاء الفرد لطلب الإخاء عندهم من القبائل لنصرته حيث والإخاء لا يأتي عفويا دون مبرر فالإنسان الذي ينعم بالأمن على نفسه وماله وعرضه لن يذ هب للإخاء عند أحد فقبيلته تكفيه ولهذا نرى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بداية دعوته دخل في جوار المطعم ابن عدي ، ولو وجد قبيلة تستطيع أن تحميه لدخل في جوارها بل إنه عرض نفسه على جميع القبائل العربية ولكنها لم تنصره وهذا يدل على أن الوضع الاجتماعي قد تفاقم حتى أصبحت الحاجة ملحة لبعثة نبي ومجيء رسالة سماوية تحل إشكاليات ومعضلات عجزت عن حلها الأعراف والعقول ، وكذلك عندما اعتدت قبيلة بني بكر على قبيلة خزاعة ، استنصروا بالمسلمين الذين كانوا يوالونهم طبقا لصلح الحديبية ، وفي الفصل الثاني من الكتاب تناول المؤلف موضوع العيب وهو القصد في تعمد الخطأ ، ويعبر عنه احيانا بالغدر ، وهو محظور ومجرم في كل الأعراف والديانات والقبيلة تربي أبناءها على عدم اقتراف كل عيب وغلظت في عقوبته وبالأساس يعتبر كل ما نهى عنه الشارع فهو عيب وكل منكر عيب مع تفاوت في درجته ، ولهذا برأ الله من في قلبه إيمان من أن يقترف القتل العمد أو الغدر أو العيب بل لقد جرم الله ورسوله القتل الخطا بمعنى التحري والاحتراس من فعل ما قد يؤدي إلى القتل وجعل له عقوبة مغلظة صيام شهرين متتابعين أو عتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا ، وأما القتل العمد فلا كفارة له ، والعرف القبلي عندما غلظ في ديات القتل مع اتصاف ملابسات القتل بالعيب ويقصد بها هنا صفة الحدوث كعدم الاعتراف أو إلقاء الجثة أو التمثيل بها أو قتل الربيع مربعه أو الاخ الوافد لمن آخى عنده الذي نصره واحتضنه ، وهنا نرى العرف عادلا ورادعا لمثل هذه الممارسات ، والتي أصبحت نادرة الحدوث لجسامة عقوبتها ، ونجد في القبائل العربية عندما قتل جساس ابن عمه وصهره كليب كيف كانت العقوبة أعظم مما تصوره جساس حيث أن القبيلة تحافظ على كيانها ممثلا برأس القبيلة الذي هو من يحميها فإذا اعتدى عليه أحد رعاياه فهذا من العيب ، تناول المؤلف في الفصل الثالث الأماكن المهجرة والعلق العرفية والطروح وأثرها في المسؤولية الجنائية ، وهذا الفصل هو أكثر فصول الكتاب غنى بالمضمون من حيث الأهمية حيث أن الأماكن المهجرة هي الأماكن التي يحرم فيها القتال أو الإعتداء نتيجة لاكتظاظها بالناس ولكون الاعتداء فيها قد يقود إلى فتنة كبرى مثل الأسواق والطرق العامة والمدن والمسراخ والمساجد والساحات العامة ، والمحلات التجارية ، والعلق العرفية هي العلاقات والروابط الاجتماعية التي بموجبها أصبح الاعتداء من صاحبها يستحق العقوبة المقررة عرفيا كونه لم يحترم هذه العلاقة والرابطة وذلك كون المروءة انعدمت عند من يقدم على الاعتداء على من أحسن إليه وتربطه به علاقة بر وإحسان ، وفيما يتعلق بالطروح فهي الضمانات كما يعبر عنها قانونا ، وتعد الطروح دليل رضا بالمحكمين وما يحكمان به ، وأحيانا يرتضي الخصوم بمحكم واحد ، كما تعتبر الطروح أحيانا دليل اعتراف وتخفف من العقوبة فأحيانا تعبر عن اعتذار الجاني ، وأحيانا تعبر عن تحكيم الجاني للمجني عله أو ولي الدم ، والطروح تكون إما جنابي وهو السلاح الأبيض في بعض القضايا البسيطة ، وفي القضايا الكبيرة يتم طرح البنادق بل أصبح عدد البنادق يدل على جسامة الجرم ، ومسمى هذه البنادق يتم عند تسليمها للمحكم لإيصالها للمجني عليهم في بعض القضايا ، وللمجني عليهم قبولها أو عدمه ، وهي بمثابة ضمانات أخذ الحق للمجني عليهم كما تعتبر وسيلة لدرء الفتنة ، وفي الفصل الرابع تناول المؤلف بعض الأمثلة لمخالفات وعقوباتها وفقا للأحكام العرفية مثل حكم الغصب والسلب والمطاردة ، وأما في الفصل الخامس فقد تناول اختيار المحكمين وصلاحياتهم ، واختيار الفرع الصافي أي غير المتعصب ، كما تناول فيه الأدلة والبراهين في أحكام العرف القبلي وهذا الفصل يمثل لائحة المرافعة أمام محكمة العرف القبلي ممثلة بالمحكمين والأطراف المتخاصمة وفيه تناول المؤلف اشتراط المنهى كما أسلفنا في البداية ولعل العرف القبلي وهو يمنح الخصوم اختيار المرجع الذي يثقون في الرجوع إليه بعد الحكم قد منحهم الضمانات المرضية للجميع وهذا يكفل بلوغ القدر الأوفر من العدالة ، كما أن الأدلة والبراهين في العرف القبلي تماثل القضاء تماما غير أن بها من القضايا ما يتطلب أكثر من يمين المنكر حيث يتطلب في بعض القضايا التي لا تهم شخصا بعينه ، وإنما تهم قبيلة كاملة ما يتطلب خمسة أشخاص يحلفون أو حتى عشرة أو إثنين وعشرين أو أربعة وأربعين وتكون الأخيرة في حالة القتل حيث وجسامة الجريمة تتطلب مزيدا من التحري ، أما في حالة السرقة فتتطلب اثنين وعشرين حلافا والعشرة والخمسة فيما دون ذلك ، ولعل كل هذا التحري كون العرف القبلي قبل الاسلام جاء ولم يكن ثمة رادع ديني أو وازع اجتماعي فتطلب الأمر مزيدا من الردع ، حيث أن من القبائل من انعدم فيها التعليم ، وأصبح الفرد لا تخيفه إلا العقوبة العرفية المغلظة بالإضافة إلى الشهود واليمين ، ولهذا في ظل هذا الاحتياط يتم ضبط الجريمة ولا يتم الخطأ في الاتهام ولا تثبت الحادثة إلا إذا كانت في غاية الوضوح ، وفي الفصل السادس تناول المؤلف الجنايات والأروش والديات وكانت موافقة للشرع تماما ، أما في الفصل السابع فقد تناول المؤلف المعاملات المعتادة وأحكامها مثل الحوالة والكفالة والرهن وكافة المعاملات ، وهي من الشريعة الاسلامية ، ولا خلاف فيها ، والكتاب شيق بما تحمله الكلمة من معنى ، ويعتبر إضافة نوعية كما يعبر عن أصالة هذا الشعب العظيم الزاخر بهذا التراث الكفيل بأن ينعم الناس فيه بالأمن والاستقرار ، والتعايش ، فعندما تناسى الناس هذه الاعراف برزت كثير من الأمور التي لا تمثل هذا الشعب ، ولا يمكن أن تصدر من يمني يحمل هذا الإرث الحضاري الذي يجب أن يخرج للعالم ليروا مقومات وأسس الحضارة .

قد يعجبك ايضا