الشهادة والشهداء (2- 6)

 

حمود عبدالله الأهنومي

بالنظر إلى ما ورد في الحلقة السابقة عن مفهومَي الشهادة اللغوي والديني، وما سيتمُّ التطرُّقُ إليه في ما بقي من المقالات فإنه يمكن القول بأنه ليس هناك أفضلُ ولا أدقُّ من كلمة (شُهَداء) يمكن إطلاقها على أولئك القوم الذين حَمَلوا مناياهم على أكُفِّهم، وأكفانَهم على ظُهورهم، ساعةَ ذهبوا إلى الموقفِ الحقِّ فحضروه بقوة موقفهم، وأعلى مراتب استعدادِهم، لتحمُّل النتائجِ والآثارِ المترتِّبة على ذلك الحضور القوي والفاعل.
أين كان سيكون الرئيس الشهيد الصماد، أو البطل الملصي، أوالمُخْلِص القوبري، أو الفاضل عيسى العُكدة الوصابي لو لم يسلكوا طريقَ الجهاد ثم ينالوا درجة الشهادة العظيمة؟
مَنْ يَدري.. ربما في أحسن الأحوال.. سيشيب (الصماد) وهو أستاذ اللغة العربية في تلك المدرسة في سحار .. وسيتخرّج على يده أجيالٌ من أبناء قريته، حتى إذا بلغ من الكِبَرِ عِتِيّا لا يجد سوى الأوفياء من تلامذته مَن سيذكرون أن له فضلا عليهم ذات يوم، في تدريسهم وتربيتهم، فإذا قضى الموتُ حُكْمَه فيه، فمضى جيلان أو ثلاثة، فإنه سرعان ما يطويه الزمان بسواتره الكثيفة، ويُسْدِل عليه التاريخ حُجُبَه الغليظة، وينتهي ذكرُه إلى الأبد إهمالا ونسيانا وغيابًا، إلا بما قدّم من علمٍ نافعٍ ينتفِع به، أو ببعضِ ذكرٍ في أحفادِه، وذويه، وورثته، وفي وثائقهم الأسرية، وأملاكهم الشخصية.
لكن الصماد الذي لم نعُد نشاهده اليوم جِسمًا ماديا أمامنا هل غاب تماما وانتهى؟ .. أم لا يزال حاضرا وموجودا وشاهدا؟
الصماد .. لم ينتهِ .. ولم يغب.. بل ازداد حضورا.. ووجودا.. وتألقا.. وتأثيرا.
ألم يصِرْ ذلك الذي كان أستاذا لقريته في مادة علمية واحدة لعدد من السنين أستاذا للعالَمين، وللأمة الإسلامية، ولكل حر في هذا الوطن، وللأبد؟
لقد وهب اللهَ نفسَه الفانية، والتي تتوزّع مكوناتها الأساسية على السنين والشهور والساعات، فوهبه الله الخلود والحضور والوجود الذي يتجاوز الزمان والمكان؛ لنيله فضل الشهادة، وانطلاقه في هذه الطريق العجيبة.
الصماد الذي كان قبلُ مشروع قرية واحدة كم يَحضر الآن بقوة في وعي الأمة، وفي ثقافتها، وفي أدبياتها، وفي تاريخ رجالاتها الزاهر والمُشْرِق؟
وكيف ستَدْرُسُ الأجيالُ تضحياتِه وبطولاتِه وشهادتَه الواعية؟ وكم ستقفُ عندها مليًّا بإكبارٍ وإجلالٍ واحترامٍ؟!..
هذا الحضور للشهيد في وعي الأمة وثقافتها ومسيرتها ومصادر معرفتها وأخلاقها وقيمها أكثر وجودا وأكثف حضورا وأحق تأثيرا من الملايين من أقران الشهيد وخلانه وأصدقائه الذين هم أحياء في ظاهر الأمر، لكنهم غائبون في واقعه، ومستقرة..
والشهادة كالرزق تأتي من حيث لا تحتسب.
يمرُّ عشاقُها من عن يمينك وعن شمالك، وبينا تبحثُ أنت عن طريق الجنة عشرات السنين، ثم تثَّاقل عن طريق الجهاد، إذا بك تجد هؤلاء يتقدَّمون إليها من حيثُ لا تحتسب، ثم تتأمل مليا في وجوههم، فتقول لنفسك: كيف ومتى وأين وأيان؟
البعض من الشهداء كان في طريقٍ معاكسٍ لخط الشهادة، فإذا به في سرعة خاطفة يهبِط مَظليا على طريقها المعبّد بالأسرار العجيبة، وحين لا يستوعب البعض هذه الحقيقة، ولا يُدرِكُ كنهَ هذا السر، لا يملك إلا أن يقول: (أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:53].
لماذا فازوا وخسِرْنا؟
لماذا علِمُوا وكنا نحسِبُهم جُهالا؟ وجهِلْنا ونحن من ندّعي أننا العلماء والمثقفون والأكاديميون وأهل الرأي وذوو الحصافة؟
إن الحقيقة أننا صرعى أحلام بائسة صنعناها من وحي انهزامنا وظروفنا وفي رحلة فرارنا عن الحقيقة وعن الواقع، فصنعنا لنا واقعا مفترضا ليس هو الواقع الذي يجب أن يكون ..
لكن الشهيدَ هو ذلك البطلُ التاريخيُّ الذي استطاع أن يُجيبَ على سؤالِ اللحظة التاريخية بصدقٍ وقوةٍ.. ولبّى الحاجة التاريخية لمجتمعه وأمته وزمنه والتي يجب أن يلبِّيَها كلُّ حُرٍّ وبَطَلٍ ومؤمنٍ..
عظمة الشهيد تجلّت في أنه تفاعل بصدقٍ وإخلاصٍ مع واقعِه الذي فرض عليه أن يَمضي في طريقِ الجهاد، وأن يَهدِم كلَّ تصوُّراته المُضادّة والبسيطة لثقافة الجهاد، فلم يَجِدْ الكوابحَ والمُعوِّقات التي تحُدُّ من أثرِ وفاعليةِ استجابتِه الحسنة لذلك التحدي.
أما أنت فلم تَسْتَطِعْ التَّخَفُّفَ مِنَ أعباءِ التصوُّرات الغليظة، التي كوّنتها العوامل والظروف والوضعيات المعاكِسة لضرورات اللحظة التاريخية الحاسمة.
بفعل عوادي الزمن، وتعقيدات الأوضاع الفكرية، والاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والمادية، تغبَّشت الصورة الدينية الجيدة لديك، واستَغْبَرَت وصدِئت مرآةُ المشروع الرسالي الذي كنتَ تحمِلُه، لهذا لم تكن تلك المرآة جديرةً بعكس الواقع كما هو، لتقرِّر أيَّ طريق يجب أن تسلُك، بل أعطتك واقعا مشوها، وغير حقيقي، وبناء عليه صنعت واقعا لا يوجد إلا في مخيلتك السقيمة، وأمنياتك الحَمقاء، ولهذا ظلت أطروحاتُك بعيدةً عن مقتضيات تلك اللحظة..
ذكر السيد القائد- حفظه الله- أن الشهادة تضحية واعية، وليست انتحارا، ولا هروبا ولا فرارا من واقع سيئ إلى أحلامٍ ميتافيزيقية، بل هي تضحية نتيجة وعي إيماني قويم، ودراسةِ تقديرٍ للحالة الواقعية، دراسة متجرِّدة عن العوائق والكوابح، التي ترسبت بفعل ما ذكرنا سابقا، مع أن منطلقات الشهيد ليست غريبة على ثقافة المجتمع، بل هي من مُسَلّمات ثقافة المجتمع التي لا يريد أن يؤمِنَ بها بشكل واقعي، على خلاف الشهيد والذي رتب تلك المسلمات في مُقدِّماته، ليكون هو بنفسه ومصيره النتيجة الطبيعية لها.
الجميع يُوقِنُ أن كلَّ كائنٍ سيموت، بيدَ أن الشهيد وحده هو الذي يختار طريقة موته بعناية، وفي المكانِ الأنسب، والزمان الأروع، والموقف الأحق، وإذا كان الشهداء من الأنبياء والأوصياء والأولياء علَّموا الناسَ كيف يعيشون وكيف يَحيون، فهم أيضا الذين علَّمونا كيف نموت، وفي أيِّ ساحةٍ، ولأيةِ قضية..
الشهادة هي فنُّ الموتِ الجيِّد، والممتاز، ولا يُجيدُ ذلك إلا مَنْ يستجيب لمقتضيات اللحظة التاريخية الحَرِجة، ليسجِّل حضوره الضروري فيها في جانب الحق، ويتقدم إلى الموت من أجله بوعيٍ عالٍ، وبإخلاصٍ منقطعِ النظير، وبحُبٍّ عميقٍ لله ولقائه..
وبهذا يتبيَّن:
-الشهداء أناس استثنائيون تأهلوا بسعيهم وإخلاصهم وخلعهم لكل مظاهر وعوامل وظروف الحجب، فأشرقت الحكمة في واقعهم، وأزهرت نجومُ موفَّقيتهم، وكانوا هم لا غيرهم أبطال اللحظة التاريخية، والتي كانوا جزءًا أصيلا من مكوناتها، وهي اللحظة التي أعطت الزمان الخلود، والمجد، والسمو.
-وأن الشهادة قرار حكيم، وتضحية واعية، وطريقة اختيارية لنوع الموت الراقي، وللميدان الحق، ومن أجل القضية العادلة.
-وأنه إذا كان الموت كأسا كُتِبَ على كلِّ كائنٍ أن يستقيَ منه، فإن الشهادة موت بطريقة أخرى، إنها فنٌ ممتاز لطريقة الموت الواعي، واستثمار راق لنهاية محتومة على كل إنسان، وتوظيف ذكي لتحقيق آمال وأهداف الأمة، التي انطلق الشهيد للتضحية من أجلها.
وللموضوع بقية ..
Hamoodalahnomi1@gmail.com

قد يعجبك ايضا