الغائب والمخاطب في ديوان “على قارعة الوقت”

 

زيد الفقيه
الغائب هنا هو المضمر الذي يفهمه القارئ من خلال سياقات النص ، وقد عمدت الشاعرة نوال القليسي في مجموعتها (على قارعة الوقت) إلى الحديث عن القضايا الحاضرة والمعاصرة ، وتعرِيتها أو معالجتها بصيغة الغائب تارة ، والمخاطب تارة أخرى ، مخمورة بالفلسفة المعاصرة ، إذ يصعب على القراءة المسطة استكناه دلالاتها ومراميها الفلسفية ، فقد كان هذا التضمير أسلوباً ذكياً للهروب والتخلص من المباشرة ، خاصة والنص في مقاصده ينتقد أوضاعاً معاشة اليوم .
العتبات : يظهر الغائب من أول عتبات الديوان وهو العنوان .
فالقارعة : تحمل دلالات كثيرة ، ففي القرآن الكريم تعني القيامة لأنها تفزع الخلائق بأحوالها وأهوالها ، وتعني أيضاً الداهية أو المصيبة.
والقارع هو الطارق الذي يأتيك ليلاً ، وقد قيل أن النجم طارقٌ لظهوره ليلاً . لكن القارعة هنا تقصد بها الشاعرة الزمن ، وهذا الزمن الذي قصدته هو زمن معنوي غائب ، عبرت عنه بمحتوى النص ، وقارعة الوقت هنا حوادثه وأحداثه ، وهذا ما ذهب إليه النص الذي بين أيدينا من الوقوف على قارعات الزمن ألحاضر أما العتبة الثانية فهي لوحة الغلاف الصورة التي على الغلاف تشي بالغائب إذ جاءت تعبيرية ، لأن التعبير هو الدلالة على ما في النفس بالكلام أو أي عمل فني تشكيليا كان أو أدبياً ، والتعبير عن فكرة أو تسجيل تجربة نفسية معينه ، ويتمثل في الغلاف أنه حمل مدقاً خاصاً بالأبواب الخشبية القديمة وهو مخصص للطرق على أبواب المنازل للتعبير عن التنبيه لوجود شخصٍ ما ، وثمة دلالة أخرى هي كسر هذا المدق وهو يعني أن المسألة غير طبيعية أو أن الزمن الذي يعبر عنه الديوان غير اعتيادي ، وأنه تناول قضايا واقعية شائكة غلفتها الكاتبة بالأسلوب الفلسفي تارة والمسحة الصوفية تارة أخرى ، استدعت فيها مخزونها المعرفي في هذين الحقلين المعرفيين .
حين تقف على النصوص تجد أن ثمة أسلوباً مغايراً متشبعاً بالتراث ومغمساً بالحداثة ، فالتراث كان هو مشرب النص والحداثة قالبة البصري ، تقول :
عارية الملامح
بمزاج قهوةٍ
غارقة في الوهم
تشذَّبُ الموتَ
وتلقي بأسراب
الطيور إلى الهاوية
نتساءل عن هذه الغائبة التي حذفتها الكاتبة وغيبتها عن النص وجاءت بما يشير إليها وهي الصفة وقد وصفتها بأنها “عارية الملامح” إذن فالغائب هنا كان أقدر على هزهزة مشاعر المتلقي إذ أثارت الكاتبه فضول هذا المتلقي على معرفة من هي تلك “عارية الملامح ، والغارقة في الوهم ، وتشذِّب الموت، وتلقي بأسراب الطيور إلى الهاوية ” يتضح للمتلقي من النص أنها الحرب ، تلك المحرقة التي تقود الناس للموت ، وبخاصة الأطفال المعبر عنهم بالطيور ، لكن ما يدهش المتلقي هنا هو الاستخدام البديع للمضمر في النص ، وتحوله إلى صورة ذهنية تارة ومحسوسة تارة أخرى ، ” وتستعين الصورة الكنائية والمجازية بالمحسوسات في غالب حالاتها ، وتسعى من ثمَّ إلى بلوغ أبعادٍ حسية أخرى في الدلالة الأبعد ، أو إلى الوصول إلى القيم المجرَّدة ، وهو كل ما خرج من إهاب الحسيِّة المباشرة بنوعيها الذهني والنفسي ، فالتصور المجمل يدخل في التجريد وإن التبس بطرف من الحسية ” ، الحديث عن الحرب بهذه الصورة الحداثية تذكرنا بقول الشاعر العربي القيم الذي قال عنها :
وما الحرب إلا ما رأيتم وذقتمُ * وما هو عنها بالحديث المرجَّم … الخ
وعلى نفس الاتجاه بالموضوع لكن بصيغة أخرى تدعو للتأمل عن دوافع هذه الحرب تقول :
متى أرى الفجر…؟
أرهقني الليلُ المكبَّلُ
بمشاهد الموتِ
وضجيج الشتاتِ
والأماني الضائعةِ .
حضور الموت في النصين السابقين وغياب الفجر يضع القارئ بين مفتر طرقٍ ودعوتين متقاطعتين هما الدعوة إلى العلم والتحضر والتثقف والحرية المتمثلة بالفجر ، والنقيض لها وهي الدعوة إلى التخلف والجهل والموت المتمثل بالليل في النص بقولها : متى أرى الفجر؟ أرهقني الليل ، هذه الإشارات التي تحيل إلى دلالاتٍ بعيدةٍ مخفية ومضمرة تخفي نصوصاً مضمرة خلف النص المسطح يفهمها القارئ بما يحمله من ثقافة ، ومن هذا المنطلق يمكنني تصور النص بشكله البصري المسطح بالكلمات لا يعني سوى صورته البصرية ، وأن ثقافة المتلقي هي التي تولَّد معانيه ودلالاته من خلال مخزونه القرائي عبر سنوات العمر ، أو ما يمكن أن نسميه التشكل المعرفي الذي ينمو مع الإنسان خلال تراكم ذخيرته المعرفية والثقافية ، فالموت بالنصين السابقين ـ رغم أنه يدخلُ في إطار الغائب ـ لكنه يحضر حضوراً قوياً في ذاكرة النص ، فتارة مشذباً ، وتارة مكبلاً . والنصان يتناولان قضيتين كليهما تصب في معاناة الشعب اليمني ، ذلك أن وظيفة الشعر تتحقق بإدراكنا سر الحياة من خلال انفعالنا وخفق القلب وارتعاش أو صمت يحتِّمه ما نراه مع كلمات الشاعرة . ومقتاً للحرب والقتل والدمار ، وزرع الأمل والتشبث بالحياة تقول :
مهلاً أيها القطار
لا تغادر بنا سريعاً
إلى محطة الموت
فما يزال هناك أملٌ
يغلَّفُ الهدف
في هذه القصيدة على قلِ كلماتها إلا أن معانيها ودلالاتها كثيرة ، فالقطار هنا مخاطب وهو تعبير مجازي عن آلة الحرب وأسباب إيصال الناس إلى الهاوية ، أو إلى الحتف أو الموت السريع ، وهي بهذا الأسلوب تخاطب هذه آلة وهي للدمار والخراب بأسلوب حداثي وبصورة شعرية حداثية ، فالحداثة في نظر صانعيها ليست مقتصرة على جانب معين من وسائط الحياة ، بل هي شاملة لكل عناصر المكوِّن الانساني ، والثقافة كونها الجامع لهذا المكوِّن بكل عناصره ، والنص الشعري عند القليسي يجسِّدُ هذا المنحى الحداثي الذي يعتمد على الإلماح والتضمير والاختزال والتكثيف الذي يتيح للمتلقي أن يكون مشاركاً في النص من خلال استنطاقه ومحاورته ، وقد جمعت في هذا النص بين الموت والحياة من خلال الجمع بين الأمل الذي يغلف الهدف ويرفض الموت ، ومن ثمَّ فالنص ” يحيل المدلول الشعري إلى مدلولات خطابية مغايرة بشكل يُمكن معه قراءة خطابات عديدة داخل القول الشعري . وهكذا يتم خلق فضاء نصي متعدد حول المدلول الشعري تكون عناصره قابلة للتطبيق في النص الشعري الملموس . لم تقف الشاعرة عند تصوير المفارقات الضدية بين دعاة الحياة ودعاة الموت بأسلوب فلسفي جميل باستخدام المضمر والمخاطب ، بل وظفت ذينك المضمرين النحويين كأقنعة تخفي خلفها ما يود النص توصيله للقارئ حتى في حالة التمويه والتقنع ، ففي النص التالي تتناول قضية المغالطات والتخفي وجعلت من الأنثى قناعاً لأن الشاعرة رأت أنها هي الصورة التي تستطيع من خلالها إيصال مقاصد النص بطريقةٍ حداثية تقول:
تصفف شعرها
بطريقة عصرية
تضع كثيراً من مساحيق التجميل !
ورتدي كماً هائلاً من اكسسورات
الزينة
تهرول سريعاً للنظر إلى نفسها
في المرآة
فتجدُ وجه امرأة مفخخٍ
بمهرجانات الطلاء المعلَّب
وطلاسم البهرج الملفت!
لعددٍ ممن يتجمهرون حوله ! .
في النص تتمظهر صورة الغائب من خلال الحديث عن تلك المرأة المفخخة التي تصفف شعرها ، لكن كيف ؟ بطريقة عصرية أنه الكذب والدجل العصريين ! معززة ذلك بوضع الكثير من المساحيق التي تظهر أولئك الدجالين بمظهر غير ما هم عليه ، من خلال وضع المساحيق التي ـ دوماً ـ ما تخفي الوجه الحقيقي لمن يضع تلك المساحيق . إن ملفوظ اللغة الظاهرة في النص تُومئ إلى الايجاب بينما النص المستتر غير الملفوظ الذي تستنطقه القراءة توحي بالسلب ، لأن تلك المساحيق والبهرج عملٌ لزييف الحقيقة ، بسبب هذا التشابك الخادع للايجاب والسلب للواقعي وغير الواقعي ، فمنطق الكلام يفسره كشذوذ ، وخروجاً عن القانون كنسق محكوم بالفرضيات ، لتمحص عن قرب كيف أن المدلول الشعري داخل النص الغائب أو المستتر هو فضاء يترابط عبره اللاوجود بالوجود بطريقة خادعة تماماً، ولعل الشاعرة في ديوانها البكر تريد من خلال نصوصه طرح حالة الشتات والعنف والكراهية والطائفية لتخلص إلى الدعوة للوئام والتعايش والقبول بالآخر بدلاً عن تلك الحالات الشاذة ، والتي لا يقبلها العقل البشري ولا يقبلها العصر بتحولاته الإنسانية والتكنولوجية تقول :
التعايش…
أيها البشر المارون …
في سراديب الموت
يوماً ما …
كونوا على تقبل دائم
بأن الله أوجد الأرض …
ليعمرها البشر …
بكل أصنافهم .. وألوانهم .. ولغاتهم
حين لا يكون الأديب منتماً إلى حانوتٍ من حوانيت الأيدلوجيا تكون الأرض هي موطنه ، وتكون السماء غطاؤه ، ويحلِّق في سماء الإنسانية ، ويبحث عن هوية عالمية هي الإنسانية التي ميزها الله عن سائر المخلوقات ، فهي في النص لا توجه خطابها إلى فئة أو طائفة بل إلى البشرية بألوانهم وأشكالهم ولغاتهم ، وتريد الشاعرة القول إن البشرية من أبٍ واحدٍ وأم واحدةٍ ، والسلوك الشخصي وقبول الآخر هو معيار تميز الفرد ، كما قرن الله الثواب العقاب بالفرد نفسه دون غيره من أهله أو أقرانه ، وكما أن ” الحديث عن الشعر من حيث هو لغة لا ينفي بحال من الأحوال التأمل في نواتجه الدلالية كما دلَّت عليها الدوال التي تشكله ، وكما جلتها مفردة ومركبة”، ومن ثمَّ فإن الأدب هو الأجدر والأقدر على زرع مثل هذا النزوع الإنساني ، وقد تجلى هذا النزوع في النص السابق للقليسي ، وهي توجه خطابها في النص للدعوة بالقبول بالأخر دون تمييزه أو سجنه بين حاصرتين فئويتين أو عنصريتين .
الهوامش:
ـ المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن الكريم ، إعداد الشيخ/ عبدالعزيز عزالدين السيروان ، دار العلم بيروت ، ص337
ـ مختار الصحاح ،للرازي أعده محمد حلّاق ، دار إحياء التراث بيروت ، ص236
ـ انظر : معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، مجدي وهبه ، وكامل المهندس، مكتبة لبنان ، 1984م ص109، 110
ـ نوال القليسي ، على قارعة الوقت ، مؤسسة حروف ، 2018م ص26
ـ د. فايز الداية ، جماليات الأسلوب ، دار الفكر المعاصر دمشق ، 1990م ص149
ـ القليسي ص
ـ أنظر : زيد صالح الفقيه ، رسالة ماجستير ، جامعة ذمار ، 2012م ص34، 35
ـ د. فايز الداية سابق ص125
ـ على قارعة الوقت ، سابق ص
ـ أنظر : زيد صالح الفقيه استنطاق النص المستتر في رواية امرأة ..ولكن للميا الارياني ، مجلة غيمان العدد(15) صيف 2014م ص
ـ جوليا كرستيفا ، علم النص ، دار توبقال الدار البيضاء المغرب ، ط21997م ،ص78
ـ على قارعة الوقت ص31
ـ علم النص ، جوليا كرستيفا ، سابق ص 75
ـ على قارعة الوقت ص37
ـ د. عبدالله حسين البار ، في معنى النص وتأويل شعريته ، اتحاد الأدباء ، 2004م ص129

قد يعجبك ايضا