دعوة الإسلام إلى الوسطية


لقد جاء الدين الإسلامي‮ ‬في‮ ‬وقت كان الغلو والتطرف هو الغالب في‮ ‬كثير من مظاهر الحياة‮ ‬سواء في‮ ‬العقائد أو في‮ ‬الأخلاق أو في‮ ‬المعاملات‮ ‬وفي‮ ‬كل بقاع العالم آنذاك‮.‬
الوسطية في‮ ‬اللغة‮: ‬بمعنى التوسط‮ ‬وهو أن تجعل الشيء في‮ ‬الوسط‮ ‬‮ ‬والوسط اسم لما بين الطرفين وهو المعتدل‮ ‬أو ما بين الجيد والرديء‮ ‬وأوسط الشيء‮: ‬أفضله وأخيره وأعدله‮.‬
وقد ورد هذا اللفظ صريحاٍ‮ ‬في‮ ‬القرآن الكريم قال تعالى‮: “‬وكذلك جعلناكم أمة وسطاٍ‮” ‬البقرة‮ (‬143‮) ‬قال القرطبي‮ – ‬رحمه الله‮ – ‬عند تفسير هذه الآية‮ : ‬الوسط العدل‮ ‬‮ ‬وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها‮ ‬وروى البخاري‮ ‬عن أبي‮ ‬سعيد الخدري‮ ‬عن النبي‮ – ‬صلى الله عليه وسلم‮ – ‬في‮ ‬قوله تعالى‮ : ‬وكذلك جعلناكم أمة وسطاٍ‮ : ‬قال‮ “‬عدلاٍ‮” ‬وفي‮ ‬التنزيل‮ “‬قال أوسطهم‮” ‬أي‮ ‬أعدلهم وخيرهم‮ ‬‮ ‬وقد فسرها الإمام ابن جرير الطبري‮ ‬بقوله‮ : ‬إن الوسط في‮ ‬هذا الموضوع هو الوسط الذي‮ ‬بمعنى الجزء الذي‮ ‬هو بين الطرفين‮ ‬‮ ‬ووصفهم بأنه وسط لتوسطهم في‮ ‬الدين فليسوا أهل‮ ‬غلو كغلو النصارى الذين‮ ‬غالوا بالرهبنة‮ ‬وغالوا في‮ ‬سيدنا عيسى‮ -‬عليه السلام‮- ‬وليسوا أهل تقصير كتقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله‮ ‬‮ ‬وقتلوا الأنبياء وكذبوا على ربهم‮ ‬ولكنهم‮ – ‬أي‮ ‬المسلمين‮ – ‬أهل توسط واعتدال‮ ‬فوصفهم الله بذلك إذ أن أحب الأمور إلى الله أوسطها‮ .‬
إذن فالوسطية في‮ ‬الإسلام هي‮ ‬العدل كما فسرها النبي‮ – ‬صلى الله عليه وسلم‮ – ‬والعدل في‮ ‬كل شيء‮ ‬‮ ‬إذ أن العدل عكسه الجور سواء كان حسياٍ‮ ‬أو معنوياٍ‮ .‬
والوسطية تتجلى صورها في‮ ‬كل ما‮ ‬يتعلق بالشريعة‮ ‬‮ ‬ففي‮ ‬العبادات الوسطية الإسلامية ظاهرة في‮ ‬كل شيء‮ ‬ففي‮ ‬الصلاة تتجلى وسطية الإسلام في‮ ‬ترتيبها وتنظيمها وفي‮ ‬أوقاتها وفي‮ ‬قدرها أي‮ ‬هي‮ ‬خمس صلوات بعد أن فرضت خمسين جعلها الله خمساٍ‮ ‬في‮ ‬الفعل وخمسين في‮ ‬الأجر والثواب‮.‬
وفي‮ ‬الزكاة تظهر الوسطية الإسلامية جلية‮ ‬‮ ‬فليست الزكاة مثقلة كاهل الأغنياء ولا مجحفة بحق الفقراء‮ ‬‮ ‬بل توسط بين هذا وهذا‮.‬
والصوم كذلك والحج كذلك‮ ‬وكل ما‮ ‬يتعلق بالمسائل التي‮ ‬بين الخالق والمخلوق نجد الوسطية فيه فلا تكليف بالمحال‮ ‬ولا بما ليس في‮ ‬المقدور‮ ‬‮ ‬ولا تعنت ولا حرج فيها بل‮ “‬ما‮ ‬يريد الله ليجعل عليكم من حرج‮” ‬المائدة‮ (‬5‮).‬
وحتى لا‮ ‬يقال إن الإسلام راعي‮ ‬الوسطية في‮ ‬مجال العبادات فقط فإن الإسلام راعي‮ ‬كل جوانب الإنسان سواء المادية أو الروحية ولذلك فإن للوسطية مظاهر منها على سبيل المثال‮:‬
أولاٍ‮ : ‬مسايرة الشريعة لأوضاع الفطرة الإنسانية‮:‬
فقد راعت الشريعة الفطرة الإنسانية في‮ ‬كل ما‮ ‬يتعلق بشؤونها من الاعتقاد والمنهج العملي‮ ‬والخلقي‮ ‬وراعت الحق المزدوج بين الجسم والروح‮ ‬ووازنت بين هذه الأشياء قال تعالى‮: “‬فأقم وجهك للدين حنيفاٍ‮ ‬فطرة الله التي‮ ‬فطر الناس عليها‮” ‬الروم‮ (‬30‮).‬
ولذلك لما جاء جماعة من الصحابة وأرادوا أن‮ ‬يكلفوا أنفسهم من العبادة ما‮ ‬يتنافى مع فطرة الإنسان‮ ‬‮ ‬أنكر النبي‮ – ‬صلى الله عليه وسلم‮ – ‬عليهم ذلك بعد أن سمع مقالتهم قال أحدهم أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر‮ ‬‮ ‬وقال الثاني‮ : ‬وأنا أقوم الليل ولا أرقد‮ ‬وقال الثالث‮ : ‬وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج‮ ‬‮ ‬فقال النبي‮ – ‬صلى الله عليه وسلم‮ ” ‬أما إني‮ ‬لأتقاكم لله وأخشاكم له‮ ‬‮ ‬ولكني‮ ‬أصوم وأفطر‮ ‬‮ ‬وأصلي‮ ‬وأرقد‮ ‬‮ ‬وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي‮ ‬فليس مني‮”.‬
ثانياٍ‮ : ‬مراعاة الشريعة الإسلامية للنزاعات والميول البشرية‮:‬
فقد راعت الشريعة ميول النفس البشرية‮ ‬‮ ‬وبينت للإنسان الطرق التي‮ ‬تشبع هذه الرغبات والنزعات بكل توازن واعتدال‮ ‬‮ ‬ونهت عن الإسراف فيها حتى لا‮ ‬يلحق الضرر بالمسلم قال تعالى‮ : ‬ولا تجعل‮ ‬يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماٍ‮ ‬محسوراٍ‮” ‬الإسراء‮ (‬29‮) ‬‮ ‬فقد لبى الإسلام طلبات النفس ورغباتها في‮ ‬حدود تلائم البشر‮ ‬‮ ‬فأباح الزينة وحث عليها‮ ‬‮ ‬وحرم الفواحش ما ظهر‮ ‬منها وما بطن‮ ‬
وأباح الزواج وحرم الزنا‮ ‬وهكذا‮.‬
هذه بعض النماذج من دعوة الإسلام إلى الوسطية في‮ ‬العبادات والمعاملات وما‮ ‬يتمشى مع فطرة الإنسان السوية‮.‬
نسأل الله‮ – ‬تعالى‮ – ‬أن‮ ‬يرزقنا الإخلاص والقبول في‮ ‬القول والعمل‮.‬
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‮.‬
● عضو بعثة الأزهر الشريف
بالجمهورية اليمنية

قد يعجبك ايضا