الحروب ليست نزهات سياحية يا سادة

 

د. سالم الشكيلي

لا أزكي أحدًا على الله ، ففي تقديري الشخصي ان معظم اللاعبين السياسيين في المنطقة العربية عمومًا ، ومنطقة الخليج العربي خصوصًا ، متورطون في أزمات المنطقة ، ربما الفرق بينهم ، تفاوت نسب تورطهم بقدر المصالح والأمنيات التي يرمون إلى تحقيقها .
المنطقة العربية تغلي منذ فترة ، وغليان منطقة الخليج ، لا يقل عن سائر البلدان العربية الأخرى ، بل ازداد التوتر مع إعلان الرئيس الأمريكي ترامب إلغاء الاتفاق النووي مع إيران ومن طرف واحد ، حتى صار البعض يهلل ويطبل ويدفع ترامب دفعًا الى إشعال فتيل الحرب على إيران .
لعل البعض لا يدرك عواقب الأمور ، أو إنه يدركها ، لكنه يتمادى في التطبيل لها مستخدما المال تارة ، والسياسة تارة ، والإعلام تارة ثالثة ، وكأن الحرب في قاموسهم ، نزهة سياحية يقضونها في أسبانيا ، أو فرنسا ، أو أذربيجان ، أو غيرها من الدول السياحية الأخرى .
ماذا يريدون أن يجعلوا من هذه المنطقة؟ ، ألم يكفِ سفك دماء الأبرياء من المدنيين ، في سوريا ، وليبيا ، واليمن ، والصومال؟ … ألم يكفِ عدد الضحايا من العسكريين من كل الأطراف؟ ، ألم تكفِ الأسلحة التي استخدمت في الاقتتال ، لإشفاء غليلهم؟ ، ألم يكفِ هذا الاستنزاف للقوة العسكرية العربية؟، ألم يكفِ صرف المليارات من الدولارات حتى أصبحت الخزائن خاوية ، واقتصاد الدول يتدهور؟ .
مرت منطقة الخليج العربية ، قبل اليوم بثلاثة حروب متتالية ، ماذا جنت المنطقة منها غير الدمار ، والخراب ، وتأخر التنمية ، بل والعودة إلى الوراء عشرات إن لم يكن مئات السنين .
الحرب الأولى ، كانت في الثمانينيات من القرن الماضي ، بين العراق وإيران ، واستمرت ثماني سنوات ، قضى فيها من قضى، وفقد من فقد ، وأسر من أسر ، من الطرفين المتحاربين . وفي تلك الحرب اصطف من اصطف مع العراق أو إيران ، وفتحت خزائن الخليج للعراق ، وأُرسل من مصر الخبراء والمستشارون العسكريون.
ووقفت سلطنة عمان في تلك الحرب ، موقف الحياد الإيجابي ، وحاولت بكل إمكاناتها السياسية والدبلوماسية إيقاف الحرب بين الطرفين والجلوس على طاولة الحوار .
وبعد ثماني سنوات عجاف ، ذهبت بالأخضر واليابس ، توقفت الحرب المشؤومة دون أن يحقق أي طرف نصرا حقيقيا على الآخر . نعم انتهت الحرب وعادت الجيوش إلى ثكناتها ، وبقيت الأرامل والأمهات ، بحزنهن ووجعهن على فقدان زوج أو ابن أو أخ أو أخت ، فيما انهمك السياسيون في ممارسة مهامهم وكأن شيئا لم يحدث.
الحرب الثانية في الخليج ، كانت في عام 1990م، عندما قام النظام العراقي بغزو الكويت ليلا، على غرار الغزوات التي كانت قائمة بين القبائل العربية ، قبل قيام سلطة الدولة ، كم كان هذا القرار أحمقَاً وخطأ فادحًا، وشكل صدمة عربية واسعة ، ورفض العالم أجمع هذا الغزو والاحتلال .
أعلنت عمان ومنذ الوهلة الأولى رفضها القاطع لهذا الاحتلال ، وأبقت على قناة اتصال مع العراق ، واشتغلت الدبلوماسية العمانية بالتعاون مع بعض الأطراف الدولية ، من أجل حقن الدماء ، وإقناع العراق بالخروج الطوعي من الكويت ، فلم تفلح تلك المساعي ، وتعرضت عمان آنذاك للتشكيك في موقفها ، تلميحا وتصريحا .
وعندما حان وقت تحرير الكويت ، أخذت القوة العمانية مكان الصدارة في قوات درع الجزيرة لدول مجلس التعاون الخليجي ، التي دخلت الكويت ، وتمكنت مع قوات التحالف من تحرير الكويت ، وإعادة السلطة الشرعية إليها .
الحرب الثالثة ، حدثت في عام 2003م عندما قرر الرئيس الأمريكي جورج بوش ، وباستكبار شديد ، غزو العراق واحتلاله بحجة حيازته لأسلحة نووية ، فحدث ما حدث واحتل العراق لسنوات ، ولم تعثر أمريكا على قطعة واحدة من الأسلحة النووية المزعومة .
نتج عن الحرب ، القضاء على الجيش العراقي بالكامل ، ونهبت أمريكا ثروات البلد، وتركته فريسة للطائفية البغيضة ، والجماعات المسلحة تقتل وتدمر بلا رحمة أو هوادة .
خرجت القوات الأمريكية من العراق ، وللمرة الثالثة ، وكأن شيئا لم يحدث ، لكن هذه المرة جعلت العراق يعود إلى الوراء مئات السنين . وكان واضحا في هذه الحرب ، أن الدول العربية بعضها مؤيدة ، وبعضها متفرجة ، عملا بالمثل الشعبي العماني الشائع « عندما تسلم ناقتي ، ما علي من رفاقتي . أو برواية أخرى ما همتي رفاقتي »
يا عشاق الحروب ، وسدنة الرصاص والبارود، الخليج لا يتحمل حربا جديدة ، بل العالم العربي بأسره لا يحتمل مثل هذه الحرب ، إذا لا قدر الله ، وضربت أمريكا إيران ، فلن تسلم هذه المرة ، الرياض ، وأبوظبي ، والمنامة ، وحتى الكويت ، والدوحة ، ومسقط ، إن لم يكن بشكل مباشر فربما بشكل غير مباشر ، فتبعات الحروب لا يمكن توقعها ، وإذا وقعت لن يكون في مقدور أحد السيطرة عليها .
ويخطئ من يظن أن بيروت ، ودمشق ، والقاهرة، وعمّان، وغيرها من العواصم العربية الأخرى ، ستكون بمنأى، فالحرب هذه المرة لن تبقي ولن تذر وستكون لواحة للبشر، وستشعل المنطقة جحيما والعياذ بالله منها .
ما يخيف أكثر في هذه الآونة ، الحرب الكلامية التي تصدر من واشنطن ، أو من طهران ، أو من بعض العواصم العربية ، وهي الزيت بعينه الذي يصب على النار ، رغم الجهود العمانية التي تبذل لتهدئة الوضع المتأزم إلى أبعد الحدود . وكالعادة لم تسلم عمان من التجريح والاتهام بالعمالة لإيران ممن لا يحفظ ودا ، ولا يملك عقلا صائبا ، ولا يقدر الأمور والعواقب حق تقديرها . عمان المحبة والسلام والعيش المشترك ، تنظر إلى الواقع بحكمة ثاقبة ، ولديها بعد نظر ، وهي يقينا لا تقدم مصالح إيران على مصالح الأشقاء ، لكنها الحرب يا سادة ، وليست نزهة سياحية .
ولا يظنن أحدٌ بأن عمان ضد أحد على حساب أحد ولا مع أحد على حساب أحد، هي مع الجميع من أجل الجميع هي مع السلام من أجل السلام للجميع.
لفت انتباهي بعض المقالات والتحليلات السياسية ، التي تصف الرئيس ترامب بالغباء السياسي – ربما يكون هذا موضوعا لمقال آخر – وإن تصريحاته مجرد تهويش ، وفي الحقيقة فأنا لا أتفق معهم ، فالرجل قد يكون أرعن بعض الشيء ، لكنه يدرك ما يقول ، ولذلك فإن العقوبات الاقتصادية الأمريكية ستوّقع على إيران عن قريب ، والله وحده العالم بما ستجره هذه العقوبات .
ما يخيف أيضا ، تلك الأخبار المتداولة عن النية في إقامة تحالف سني ضد إيران ، ألم تكفِ القاعدة ، وداعش ، والحركات المتطرفة الأخرى ، هل يراد إنشاء قاعدة أو داعش جديدة ، ألم نتعلم من الدروس المريرة الماضية . وقبل ذاك ، لنتساءل سويا ، هذا التحالف ضد من ؟ أليس تحالف طائفة مسلمة ، ضد طائفة مسلمة أخرى ؟!. في بعض بلدان هذه الدول مواطنون شيعة ، كيف ستكون ردة فعلهم في حالة قتال الدول الداخلة في التحالف للشيعة في إيران . لا شك أن كل هذا إثارة من جديد للمذهبية والطائفية ، ولا فرق بينها وبين من يشعل في نفسه النار متعمدا .
عمان أعلنتها صريحة مدوية ، وعلى لسان ، الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، إننا في عمان لسنا بهذا الغباء فلدينا سنة وشيعة ، هذا طبعا إلى جانب الإباضية ، وكلهم عُمانيون يستظلون بمظلة الوطن الجامع الواحد
ستظل سلطنة عمان ماضية في جهودها ، لنزع فتيل التوتر لتجنيب المنطقة مصيبة عظمى ، ما وسعها ذلك ، وستكون على مسافة واحدة من الجميع ، وعلى الأطراف كلها تحمل مسؤولياتهم ، والعودة إلى صوت العقل والمنطق .
قد يكون مفتاح إشعال الحرب بيد طرف واحد لكنّ إنهاءها لا يكون إلا بيد الأطراف كلها. وكفى بالله حافظًا وحفيظًا.

قد يعجبك ايضا