حالة من النسيان تصيب البشرية

 

خليل المعلمي

ثمة “حالة من النسيان” أصابت النوع الانساني كله، وهذه هي الفكرة الرئيسية التي يدور حولها كتاب “البشرية تفقد الذاكرة” للكاتب والمؤلف ايمانويل فليكوفسكي، وترجمه للعربية فاروق عبدالقادر، إن هذه الحالة تتعلق قبل أي شيء آخر بذكريات الكوارث الكونية التي اجتاحت كوكب الأرض والتي شهدها أسلافنا قبل مائة جيل على الأقل، ومثلما يلجأ الفرد إلى ميكانيزمات مختلفة كي يبقى على المادة الصادمة التي يود “نسيانها” في ظلام الكبت تفعل الإنسانية ويتابع المؤلف هذه الميكانيزمات بالكشف والتحليل.
فالموضوع الذي اختاره المؤلف في هذا الكتاب هو الشرط السيكولوجي للجنس الإنساني وتاريخ حالته، وبالفعل فإن أي جانب من جوانب السلوك الإنساني، وأي نمط من أنماط التاريخ الإنساني، وأي بند من بنود المعتقد الإنساني، إذا تم فحصه وإيضاحه في ضوء موضوع هذا الكتاب، فسوف يتبين كيف تشكل وتقولب الفكر الإنساني والفعل الإنساني بفعل الذكريات الجماعية المكبوتة للكوارث الكونية التي أصابت أسلافنا القدامى قبل مائة جيل على الأقل.
ويستخدم إيمانويل فليكوفسكي مؤلف الكتاب من أجل عرض فكرته الرئيسة ومناقشة الانتقادات التي توجه لها وتقديم الأدلة التي تساندها ترسانة حافلة من الفلك والرياضيات إلى علوم الأرض والبحر، ومن دراسة الآثار إلى الانجاز العلمي إلى الابداع الأدبي من الأحداث الراهنة إلى الحضارات البائدة من قراءة النصوص المقدسة إلى تفسير الرؤى والأحلام.
الذاكرة العنصرية
في الفصل الأول من الكتاب الذي يحمل العنوان “عن الذاكرة العنصرية: ضحية فقدان الذاكرة” يتطرق المؤلف إلى أن فقدان الذاكرة ليس بحاجة لأن يمحو الذاكرة كلها، بل قد يصيب فقط مساحات محددة من الماضي، ومثل هذه الحالات كثيرة جداً، ونادراً ما تخلو شخصية عصابية من مساحة من النسيان، وعلى حين أن الفقدان التام للذاكرة أمر نادر فإن ملاحظة الفقدان الجزئي للذاكرة أو الاعتام السيكولوجي، هي خبرات كل يوم في الطب العقلي والتحليل النفسي، وأغلب الظن فإن كل شخص قد نجح في أن يمحو من الذاكرة الواعية بعض الأحداث المؤلمة كبيرة كانت أو صغيرة.
ويشير المؤلف إلى أن العقل الإنساني هو أقل ما نعرف، ورغم أن الإنسان اكتسب عن طريقه كل ما لديه من خبرات ومعارف فقد صممت الاختبارات وتحدد معامل الذكاء، ودبلجت النظريات السيكولوجية، ومورست وسائل العلاج النفسي، وتمت دراسة تأثير العقاقير والمخدرات على جهاز الحواس والسلوك، وفحصت هرمونات الجنس، وكذلك الافرازات الداخلية للغدة النخامية وتم تشريح المخ، وأجريت التجارب على الحيوان وتم تسجيل اكتشافات كثيرة، ولكن بعد كل هذه الجهود ما تزال بعض الموضوعات الجوهرية في الظلام كما كانت قبل آلاف السنين.
الدمار المتكرر للعالم
أما في الفصل الثاني الذي عُنون بـ “أن تعرف ولا تعرف” فقد أشار المؤلف إلى أن الدمار المتكرر للعالم الذي حدث بقدر ما تستطيع ذاكرة الإنسان أن تستعيد، خاصة أحداث الدمار الأخيرة، فقد ترك آثاره على ذاكرات الشعوب المختلفة حول العالم على نحو لا يمكن محوه ونسيانه.
ويستعرض المؤلف في الفصل الثالث الكثير من الأحداث عبر الأزمنة السابقة منها الكارثية ومنها المناسباتية والآراء التي تناولت هذه الأحداث من قبل الفلاسفة ورجال الدين.
وفي الفصل الرابع، يتحدث المؤلف عن مجموعة من الشعراء والمفكرين عاشوا في القرون الماضية وكان لهم وجهات نظر حول الكثير من الظواهر الكونية ناضلوا من أجلها ودفعوا أرواحهم للدفاع عن هذه الظواهر، مقتبساً كتابات وقصائد لمجموعة منهم تتحدث عن أفكارهم الجديدة ونقدهم للتسلط والاستبداد، فيما كتب آخرون قصصاً ومؤلفات عن الخيال العلمي تنبأوا عن المستقبل في ظل التطور العلمي.
عصر الرعب
أما في الفصل الخامس “عصر الرعب” فقد استعرض المؤلف الصراعات التي شهدها العالم وخاصة في أوروبا في فترات تاريخية مختلفة بداية من اجتياح قوات شارل الثاني عشر من السويد القسم الأكبر من أوروبا في حروب الفتح وذلك في بداية القرن الثامن عشر، وبعد قرن كامل شن نابليون هجومه على القوات المشتركة من بروسيا والنمسا وروسيا في اوسترلتز وأخضع معظم أوروبا وحارب في عمق روسيا في 1812م، وبعد قرن آخر من الزمن أصبح العالم كله وسط اللهب حيث قادت ألمانيا دولة النمسا والمجر وتركيا ضد انجلترا وفرنسا وروسيا وابتلعت الحرب العالمية الأولى أمماً كثيرة في أوروبا وفي أماكن نائية من العالم على نحو غير مسبوق، وتلتها الحرب العالمية الثانية وما حدث فيها من كارثة نووية في مدينتي ناجازاكي وهيروشيما اليابانيتين، وتطرق أيضاً إلى معاناة الشعوب الأفريقية من تجارة الرقيق التي اجتاحت مناطق كثيرة في أفريقيا.
ويربط المؤلف بين هذه الصراعات وبين سيكولوجية النوع الإنساني حيث يوضح أن هناك دافعاً لدى النوع الإنساني نحو التدمير وإفناء الذات، حيث يمكن التفكير في العوامل السيكولوجية وحتى البيولوجية بدلاً من العوامل السياسية والاقتصادية.
ويختتم المؤلف في الفصلين السادس والسابع بالتعليق عن بعض الأحداث التي جرت مؤخراً في العالم وقد كتبها في وقت وقوعها محاولاً بذلك إظهار التغير الجاري في العلاقات الاجتماعية والقيم الداخلية والخارجية.

قد يعجبك ايضا