الجذور التاريخية للصراع اليمني السعودي ” 8 “

 

عبدالجبار الحاج
في مقابل توجهات السياسة الاستعمارية البريطانية الرامية الى عزل الجنوب وتجريده عن هويته اليمنية وتعزيز حالة الانفصال بين الشمال والجنوب وتشجيع بريطانيا وتغذيتها لأدواتها المحلية وتمويلها ومنحها مؤسسات حكم شكلي مرتبطة مضامينها مباشرة بتوجهات سياسة الاحتلال مع بروز ما سمي باتحاد الجنوب العربي في خمسينيات القرن الماضي، ففي المقابل تنامت وبرزت أشكال نضالية وسياسية وطنية وتقدمية وتحررية مضادة ومصادمة لهذا النهج عبر تحركات شعبية ومن خلال تشكيلات وصيغ تنظيمية تقود النضال الجماهيري والذي تجلى في عمل ونشاط النقابات الست ففي مدينة عدن تحديداً، تبلورت قناعات فكرية ومواقف ثقافية صادرة عن أشكال نضالية عديدة اتخذت مواقف جذرية داحضة ورافضة لتلك الصيغ الاستعمارية المتحالفة مع أدوات محلية تابعة . معتمدة على ظاهرة شعبية تتسع قاعدتها باطراد مع مبادئ الحركة الوطنية الصاعدة وتجلت صدق توجهاتها المعبرة عن دحض مفاهيم الانفصالية والانعزالية ودحض مفاهيم السياسة التقليدية وأحزابها المتواطئة مع الاحتلال والانعزال وخاصة تلك المقولات المتمسكة بنهج العمل السياسي السلمي وحده كخيار وحيد ونهج للخلاص من الاستعمار وبدات تنطرح بقوة خيارات الكفاح المسلح في بيانات ويوميات وادبيات ووثائق الحركة الوطنية اليمنية في عدن قبل ميلاد الجبهة القومية المعبرة بوضوح عن هذا الخيار وتبنيه لاحقا ..
وكذلك بروز مواقف وخيارات بخصوص دحض مفاهيم وأحكام عمومية مختلفة؛ تم الترويج لها من قبل المتعصّبين، واشتغل عليها الاحتلال البريطاني، كمواضيع الوحدة مع الشمال، ومصطلح «الجنوب العربي» الذي جاء مع التقسيم البريطاني للجنوب إلى سلطنات، والعصبيات التي ظهرت وقتها في مدينة عدن والتي رفعت شعارات من قبيل «عدن للعدنيين»، وما ظهر لاحقاً بعد الاستقلال من أحكام جزافية تعميمية اتهامية ..
ومنذ الخمسينات تجذرت مفاهيم الوطنية اليمنية ومبادئ الوحدة وقضايا السيادة والتحرر في مسار الحركة الوطنية اليمنية..وظهر وبرز هذا التيار واسعا وأخذت بناه السياسية والتنظيمية وزعاماته الوطنية تبرز في الواجهة من الأحداث والتحركات الشعبية على صعيد النقابات وتحديدا النقابات الست .. ومن خلال الصحافة والأحزاب ..
كان باذيب ابرز ممثلي هذا الخط اليمني الهوية والجذري الحلول في موضوعات التحرر والعدالة وتبني الاشتراكية وهو العلم الأبرز الذي تبني الفكر الماركسي علنا ونهجا وعملا .. فكانت الصحافة ميدانه في جلاء الموقف من المستعمر وأدواته السياسية في اتحاد الجنوب العربي ..
نشر باذيب مقالته الشهيرة وهي مقالة “المسيح الجديد الذي يتكلم الإنجليزية” الذي يرد فيها على الكتابات التي كانت تدعو في تلك الفترة ( 1955 )إلى التعايش مع الحكام فاعتقلته السلطات البريطانية وقدمته للمحاكمة بتهمة “إثارة الكراهية والعداء ضد الحكومة وبين طوائف وطبقات السكان” . وتشكلت ردة فعل شعبية أرغمت الاحتلال البريطاني على تخفيف الحكم.
كما أعتقل عبدالله باذيب مع عدد من العناصر الوطنية القيادية البارزة إثر حادث إلقاء قنبلة في مطار عدن على المندوب السامي البريطاني وبعض السلاطين ، ثم أفرج عنهم جميعاً تحت ضغط الرأي العام المحلي والدولي .
انخرط باذيب في ميدان الصحافة والسياسة باكرا وقد حالت ظروفه دون مواصلة المرحلة الثانوية ليس هذا وحسب فقد عاش الرجل ظروف شظف العيش والتشرد دون مسكن لكن ذلك لم يكن حائلا دون خياراته الكبرى في الانتصار لقضايا الشعب والوطن في عموم اليمن ..
قرر باذيب الخروج إلى تعز في شمال اليمن في أواخر 1958 . ومن هناك أخذ يواصل نشاطه السياسي والفكري من خلال إصدار صحيفته “الطليعة”، ليحمل من هناك لواء الدعوة لوحدة كل القوى الوطنية من أجل مواجهة المشاريع المشبوهة المطروحة حينذاك والتي تمثلت في “اتحاد إمارات الجنوب” و “الحكم الذاتي لعدن” وربطها بعلاقات أوثق بالاتحاد ، تعزيز القواعد العسكرية في المنطقة ، إضافة إلى التسلل الاقتصادي والسياسي الأميركي في الشمال . وبعد فترة قصيرة من صدورها ( 13 عدداً ) أغلقت السلطات في تعز الصحيفة بتحريض من الدوائر المرتبطة بالمصالح الأميركية. والواقع ان الامير الحسن كان الممثل لأبرز للخط الأمريكي الذي اتخذ من تعز محطة لمحاصرة نشاط حركة القوميين العرب الصاعدة آنذاك وتعز بؤرتها الأولى والأكبر في اليمن ….
نضج وعي باذيب السياسي مبكرا وحينما بلغ السابعة عشر من عمره شارك في أول مظاهرة سياسية طلابية تشهدها عدن والمحميات تأييدا للشعب الفلسطيني الشقيق .
كانت فكرة إنشاء جبهة أو حزب ثوري ذو توجهات يسارية ماركسية على مستوى الجزيرة العربية في السعودية وإمارات الخليج وعمان هي الفكرة السائدة وهي الفكرة المطروحة أمامه بل بالفعل ظل الاتصال والتنسيق قائما في كل التشكيلات الحزبية التي جاءت من رحم حركة القوميين العرب في تلك الفترة وفي عموم الجزيرة العربية واتخذت لاحقا أشكالا تنظيمية تجمع بين القيادة الواحدة والتنظيمات المتعددة في عموم المنطقة وخاصة السعودية ودول الخليج ..
إما إذا نظرنا للمواقف المتناقضة في التعامل مع المناضل عبدالله باذيب في موقفين متناقضين من سلطة واحدة في تعز آنذاك فالأول في تلقيه الدعم وإصدار صحيفته الطليعة في تعز وهي الصحيفة التي عبرت عن واحديه القضية الوطنية فأنني لا يخامرني الشك من خلال قراتي لوقائع تلك الفترة بين تلقي الدعم من بيت حميد الدين فلا شك أن البدر كان اليد الداعمة في حين أن اعتقاله من قبل السلطات في تعز خلال تلك الفترة فلا شك انه قد كان بتحريض ووشاية من الخط الأمريكي الذي مثله الأمير الحسن ..
لم يقتصر نشاط باذيب على العمل السياسي من خلال صحيفة الطليعة التي أصدرها في تعز نهاية الخمسينات بل لقد كان وثيق الصلة ودائم الاتصال بالسفارة السوفيتية بتعز وقبيل عودته الى عدن وذلك في السياسة عمل مشروع لإيجاد أشكال وصيغ للتواصل مع العالم كل ما كان ذلك ممكنا ويفتح أفاق الدعم لمشروع ثوري أو سياسي أو وطني لا ينتقص السيادة ولا يفرغ الثورة ولا ينتقص الاستقلال .
وفي عام ٦٢م عاد عبدالله باذيب إلى عدن وبدأ يفكر جدياً في تأسيس تنظيم سياسي بعد أن أخذ التوجه الذي عمل من أجله يبرز كتيار نامٍ مؤثر في الحركة السياسية ، وفي أكتوبر من نفس العام تأسس “الاتحاد الشعبي الديمقراطي” بقيادته لتبدأ مرحلة نوعية جديدة في حياته الحافلة بالأحداث الهامة .
.. وأعتقل عبدالله باذيب مع عدد من العناصر الوطنية القيادية البارزة إثر حادث إلقاء قنبلة في مطار عدن على المندوب السامي البريطاني وبعض السلاطين ، ثم أفرج عنهم جميعاً تحت ضغط الرأي العام المحلي والدولي .
كما انه عندما اعتقل في تعز تم الإفراج عنه بتدخل وتوسط من قبل صديقه علي ابو الرجال الذي أسس لاحقا مركز الوثائق الوطنية وهو مركز توثيقي اضطلع لاحقا بدور وطني في حفظ جزء من تاريخ ووثائق وكتب تحفظ تلك المرحلة ولا يزال قائما إلى اليوم .
كان العام 58 يختزن معه معالم ومظاهر سباق دولي وإقليمي برز بوضوح في أداء جناحين رئيسين في موقع القرار داخل أسرة حميد الدين الحاكمة آنذاك .. احدهما يمثله البدر الذي كانت تنظر إليه أمريكا ممثلا أو مواليا للشرق ومعسكره الاشتراكي خاصة مع دوره في إقامة علاقات وطيدة مع السوفييت في تجديد اتفاقية الصداقة والتعاون ونجاحه في الحصول على مساعدات كبيرة ومشاريع تنموية واقتصادية كبيرة في مجال الطرق والميناء وصناعة النسيج وفي الزراعة وأخرى ومنها الكثير كانت قد أنجزت قبل قيام الثورة مثل الميناء وطريق الحديدة صنعاء على سبيل المثال ..
في مقابل ذلك راحت أمريكا تستقطب منافس البدر وأحد أجنحة الحكم وهو عمه الحسن الذي لم يوفق في انتزاع أي منجز لليمنيين مقابل انجازات البدر المتسارعة .. فعدت نجاحات البدر انتصارات تبرهن على رؤى الرجل التحديثية والعصرية بل وميوله لقوى التقدم في العالم كالسوفييت ومن ثم زيارته للصين التي استقبله فيها الزعيم الصيني احد قادة الثورة الصينية العظمى وهو الزعيم شوان لاي الذي أصبح لاحقا رئيس الوزراء في الصين ..وابرمت على الفور اتفاقات ومساعدات فورية ..
ففي خمسينيات القرن الماضي كانت الدول العربية تواجه تحديات عديدة، في الوقت الذي كانت الصين تعاني من سياسة الحصار والاحتواء، إلى أن جاء مؤتمر باندونغ بإندونيسيا في 18 إبريل عام 1955م، والذي كان له آثار عميقة على العلاقات الصينية- العربية عامة واليمن خاصة، و فتح الباب على مصراعيه لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين جميع الدول العربية و الصين،والذي كان من أهم نتائجه، إعلان الوفد الصيني المشارك في المؤتمر فتح صفحة جديدة ومد يد التعاون والصداقة لتسع دول عربية كانت اليمن من أولى البلدان التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين في 24 سبتمبر عام 1956م سبقتها بشهور مصر في 30 مايو و سوريا في الأول من أغسطس من العام نفسه.
ذلك التوجه هو ما التقطه البدر سريعا في فهم السياسة الصينية نحو العالم وسارع إلى الاستفادة القصوى العاجلة من نهج الصين المعلن وحوله فورا إلى انجاز ميداني تنموي على ارض اليمن .
ومع قيام ثورة يوليو في مصر وفشل العدوان الثلاثي وتصاعد المد القومي التحرري بقيادة عبد الناصر كان العام 58 قد مثل نقطة تحول كبرى مع بروز نجم ولي العهد البدر وميله إلى توطيد صلات اليمن بالمعسكر الاشتراكي وعقد اتفاقات حظيت اليمن بموجبها بمشاريع هامة في مجال البنية التحتية كالطرقات بين صنعاء تعز الحديدة وفي بناء وتعميق وإعادة تأهيل ميناء الحديدة ومشاريع أخرى في الصحة والغزل والنسيج والزراعة ..
حتى أن السعودية أطلقت على البدر اسم الأمير الأحمر وهي معلومة سمعتها شخصيا مرارا من رفيقي وصديقي الشهيد جار الله عمر .. بل وهي حقيقة لا ينكرها احد .. ولكن السؤال: كيف تحول عدوها الملقب بالأمير الأحمر إلى ظاهر صديق عند قيام الثورة .. تلك هي تناقضات السياسة السعودية التي تبحث دوما عن الذرائع للتدخل والحروب في اليمن …

تحت تأثير المد القومي والعلاقة المتتامية مع دول المعسكر الاشتراكي ومع بروز الدور الأمريكي في المنطقة والذي اخذ يحل بالتدريج محل الامبراطورية البريطانية التي غابت عنها الشمس متدرجة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ..
في هذه الاثناء كانت تعز تزدحم وتكتظ بنشاط دؤوب لحركة القوميين العرب وكان عدد من السياسيين ذوي الاتجاهات اليسارية من أمثال المناضل عبدالله باذيب وكان نشاط الوطنية اليمنية ومزاجها الوحدوي يتصاعد نحو الذروة كانت مظاهر تصاعد النضال الوطني بصيغته الوطنية ظاهرة وحاضرة بقوة في هذه المدينة التي تتوسط اليمن شماله وجنوبه وتشكل جسراً وحدته الوطنية ..
كان المناضل باذيب يصدر من تعز في نهاية الخمسينات صحيفة الطليعة وكان الإمام احمد في تعز هو من يدعمها .
وفي هذه الأثناء جاءت أمريكا ببناء ما اسمي بالنقطة الرابعة وهي بالأصل نقطة كرست عملها ووظائفها لأنشطة الاستخبارات المركزية الأمريكية التي أخذت تتسع في بث ودعم الجريمة السياسية وتنظيمها في كل بلد تحل فيه ..
ولأن كان البدر هو الأمير الأحمر كما اسماه أمراء سعود بأداء سياسي يقترب كثبرا من الشرق فان عمه الحسن كان هو من تراهن عليه أمريكا .فجندت من خلال بناء النقطة الرابعة بتعز عام 58 وهي في الواقع محطة تابعة لجهاز المخابرات الأمريكية ال السي اي ايه وهو الانجاز اليتيم والسيئ للأمير الحسن !!! وتولت النقطة منذ اشائها القيام بتجنيد العشرات والمئات من مناطق عديدة وكانت تستخدم كلمة مساعدات غطاء لاعطيتها لهم مقابل خدمات ونشاط يؤدي في التجسس وأنشطة أخرى لمواجهة مد حركة القوميين العرب التي احتضنته تعز وكانت تعز حاضنة لنشاط وتصاعد قضية اليمن وهويتها الواحدة …..
شكلت تعز منذ العام 58 وحتى عام 67 ليست نقطة التقاء قوى الثورة اليمنية الصاعدة وكانت هذه الفترة هي ذروة الثورة ومدها جنوبا وشمالا ..
بل وكانت كذلك في مرحلة الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني وكان اليمنيون ينطلقون في قضاياهم الوطنية الكبرى من واحديه القضايا الوطنية والتحريرية في نظرة واحدة لليمن كلية أرضا وإنسانا .
مثلت تجربة الفقيد عبدالله باذيب الثورية والسياسية تأصيلا عميقا لواحدية القضية الوطنية اليمنية وهويتها الواحدة لدى قادة اليسار اليمني ومع أول ماركسي في اليمن كانت ترسم أصالة وخصوصية يمنية ممدودة اليد إلى كل شعوب العالم وتجذر المواقف في قلب وصميم القضايا الوطنية ورؤيتها العميقة ولم تمنعه من مد جسور العلاقة الوطيدة مع سلطة الشمال في ظل حكم الإمامة في تعز وبالذات علاقته الوطيدة بالبدر كما لم تمنعه هذه العلاقة من الانحياز للثورة اليمنية عند اندلاعها . وذلك أن القضايا الكبرى هي التي تحدد خياراته وليست الجزئيات أو العلاقة الشخصية .

قد يعجبك ايضا