جريمة العدوان الــتي لا تنسى

مصطفى المنتصر

دماء لم تجف وجروح لم تندمل بعد وأشلاء تبحث عن بقايا لها بين الركام, واقع مؤلم جسدته معاناة اسر شهداء وجرحى مجزرة الصالة الكبرى التي ارتكبها العدوان السعودي الأمريكي في الـ8 من أكتوبر 2016م .
عام على المجزرة المروعة التي راح ضحيتها قرابة 800 شخص بين شهيد وجريح لم يكن لهذا الرقم المفزع أي تأثير على قرار المجتمع الدولي لوقف العدوان بل ان التحالف استمر في ارتكاب مجازر لا تقل بشاعة عن جريمة الصالة الكبرى.
تفاصيل وروايات مفزعة يرويها ناجون من الجريمة تكشف لأول مرة في هذه السطور عن بشاعة وهول ما جرى في تلك اللحظات وما تلتها من أيام عصيبة لأسر الضحايا ..إلى التفاصيل :

أحالت شظايا بالغة الصغر حياة ابوبكر المخلافي الى دهاليز معاناة مستمرة جراء إصابته في جريمة الصالة الكبرى من قبل طائرات العدوان السعودي الأمريكي في الـ8 من أكتوبر العام الماضي إذ بات يعاني فقدان السمع في إذنه اليسرى وكذا حروق وكسور في أطراف جسده إصابات عديدة وبالغه تعرض لها المخلافي جراء هذه المجزرة لكنها وعلى حد وصفه لا تساوي شيئاً مقابل فقدانه والده وشقيقه واللذين ذهب برفقتهما لأداء واجب العزاء ولم يعلم بنبأ استشهادهما إلا بعد شهر عبر إحدى القنوات الفضائية .
يقول ابوبكر عن الجريمة : أثناء دخولنا القاعة كانت البوابة مكتظة بالناس فيما عملية دخولنا الصالة تتطلب منا جهداً كبيراً بسبب الازدحام الشديد وبعد ان تجاوزنا الازدحام في بوابة الدخول سلمنا على طابور العزاء ويتقدمهم وزير الداخلية اللواء الركن جلال الرويشان وأقرباؤه وبعد ان انتهينا من السلام على آل الرويشان كنت حينها انا ووالدي الدكتور عبدالله غالب المخلافي وشقيقي الدكتور هيثم قد لاحظنا سماع تحليق كثيف لطيران العدوان، نظرنا إلى الصالة وهي مكتظة بالناس فقررنا المغادرة بينما كنا نستدير للمغادرة سمعنا صوت انفجار قوي جدا سقطت على إثره ارضا وليست سوى لحظات حتى استعدت وعيي وكنت لا استطيع التنفس والرؤية وذلك بسبب وجودي تحت الأنقاض شاهدت الموت بأم عيني وعشته للحظات كنت أحاول بكل ما استطيع ان اخرج رأسي من بين الركام الذي غطى المكان , كان نصف جسدي محشوراً بين الركام ونفضت من على وجهي التراب حينها تمكنت من الروية جزئيا كان المشهد كارثياً بما تعنيه الكلمة من معنى مشهد مأساوي يفوق قدرتي على الشرح، الأشلاء تملأ المكان وجثث الشهداء مرمية من حولي بصورة شنيعة وأخرى تحترق وبعضها امتزجت بالتراب والحديد بحيث لا تستطيع التمييز بينها وبين القطع الأخرى، مشاهد يعجز اللسان عن وصف بشاعتها, وانا أتفحص النظر من حولي كنت أسعى لإخراج جسمي من بين الركام وقمت ابحث عن والدي وأخي اللذين كنت برفقتهما لكنني سقطت ارضا ولم أتمكن من الوقوف بعد ان شعرت بألم في رجلي والذي اتضح فيما بعد انها مكسورة لكنني استمررت في عملية البحث عن والدي وشقيقي زاحفا بين الأشلاء والجثث كنت اشعر بموجة لهب تقترب مني وانا في طريق البحث عن أبي وأخي حتى تمكن الحريق من الوصول إلى جسدي والتهم وجهي وجزءاً من جسدي فهرعت مسرعا نحو أحد الثقوب المؤدية الى الحوش الخلفي للقاعة وبمجرد وصولي إلى الحوش الخلفي سقط الصاروخ الثاني وحينها فقدت الوعي ولم أفق من غيبوبتي إلا بعد أسبوع وانا في المستشفى .
وأضاف ” أصبت بعدة إصابات، كسر في قدمي اليمني وحرق قدمي اليسرى وامتلائها بالشظايا وكسر في يدي اليمني وامتلائها بالشظايا وأصبت أيضاً بفتحة واسعة في بطني وتم تخييطها بعشر غرز وفقدت طبلة إذني اليسرى ولم استطع السمع بها حتى الآن ومازلت حتى يومنا هذا وانا أتلقى العلاج وتم إقرار لي عمليتين للإذن وأخرى للقلب ”
كل هذا الألم والجروح التي تعرضت لها لم تكن شيئاً بالنسبة لي وأنا اسمع نبأ استشهاد والدي وشقيقي الذي حاول أهلي ان يخفوه عني لمدة شهر كامل وعلمت به بطريقة مفاجئة وانا أتصفح فيديو للجريمة على قناة الميادين في اليوتيوب خلال لقاء معي كانت مقدمة المذيع.. الشهيد الحي ابوبكر الذي لا يعلم باستشهاد والده وأخيه كان موقفاً صادماً ومؤلماً ان اسمع باستشهاد والدي وشقيقي بلحظة واحدة ذهبوا ضحايا لوضاعة إجرام فاحش لا دين له .
وعن حياة والده الشهيد يقول ابوبكر المخلافي: كان والدي الشهيد أكاديميا مثاليا عرف عنه الجميع التزامه بالقيم الأكاديمية والتفاني في عمله لا يألو جهدا عن خدمة المعرفة لاسيما الاقتصاد، والدي الشهيد الدكتور عبدالله غالب المخلافي كان وكيلاً للشؤون المالية والإدارية بوزارة المالية ورئيس الأكاديمية الأوروبية للدراسات العليا كان قد تلقى العديد من العروض من قبل الدول الأجنبية والعربية للعمل معها لكنه فضل البقاء في بلده وخدمته أفضل من الذهاب للخارج .
وختم حديثه متوعدا دول العدوان قائلا : بسبب عدوانكم الغاشم لم تتركوا أسرة ولا منزلاً في هذا الوطن الكبير إلا وفقد عزيزاً عليه وأدخلتم الأسى والحزن في قلب كل يمني لكننا وبرغم كل ذلك سنواجهكم جيلا بعد جيل وسنأخذ بدماء أبناء هذا الوطن العزيز مهما حاولتم التستر والتخفي عن هذه الجرائم البشعة وما تموت العرب إلا متوافية .
عزاء قبل الجريمة
كانت عيناه تغرقان بدمع غزير وهو يشاهد أشلاء ضحايا مجزرة العدوان بسنبان ذمار قالت له زوجته وهم يتناولون وجبة العشاء في الليلة التي سبقت جريمة الصالة الكبرى لماذا تبكي ؟؟ لم يستطع الرد عليها وابتلع ريقه بحرقة بالغة تبعها بتنهيدة مؤلمة أضفت على ذلك المساء واقعاً حزيناً تناول بعدها لقمته الأخيرة دون ان يغمسها وهم بالرحيل .
تقول شروق ابنة الشهيد العميد عبدالرحمن الكهالي احد شهداء مجزرة الصالة الكبرى معلقة على تلك الليلة عشية الجريمة: كانت لحظات لا استطيع وصفها ،لحظات صمت وكأنها لحظة وداع وفراق دون ان ندري ،صمت وحزن شديدين وكأنه حداد سبق لحظات الواقعة والشهادة التي كرم الله بها والدي ،ظللت حينها أتفحص وجه أبي واسترق النظرات إلى عينيه اللتين امتلأتا دموعا عجزت عن وصفها .
في يوم الجريمة في الثامن من أكتوبر العام الماضي كان أبي قد تواصل حينها مع أسرة آل الرويشان التي كانت تربطه بهم علاقة قوية جدا وابلغوه بأن العزاء سيكون في الصالة الكبرى وليوم واحد فقط كنت انا من اعد والدي لذلك اليوم وهيأته للذهاب برفقة شقيقي أحمد ونصر الدين وأيضا زميل والدي العقيد علي اللساني وهو أيضا أحد شهداء الصالة الكبرى، كانت والدتي تحاول إجبار والدي على البقاء في المنزل وعدم الذهاب خوفا عليه وهي تقول لا قدر الله ويقصفوا القاعة فهذا العدوان الظالم لم يلتزم بمبادئ إنسانية او أخلاقية ،لكن والدي أصر على الذهاب وقال لها جلال زميلي ومن دفعتي وعشنا سويا في عنبر واحد وأنا أكن له كل الود والاحترام ومن واجبي ان اعزيه وأشقاءه ونحن زملاء عمل . وفشلت مساعي والدتي بإقناعه بعدم الذهاب وفعلا غادروا جميعا , وبعدها حدث ما حدث تلقينا نبأ القصف عبر وسائل الإعلام ولم نصدق ما يقال حينها على تلك الوسائل حتى تلقينا نبأ وصول شقيقي نصر الدين إلى المستشفى وجسده مكتظ بالشظايا والحروق صعقنا بالخبر فيما كان والدي وشقيقي احمد مازالا مفقودين بين الأشلاء والضحايا.
وتضيف شروق : وفي مساء ذلك اليوم تم العثور على شقيقي الآخر أحمد في احد المستشفيات كانت إصابته بليغة ومازالت حتى اللحظة ، الشظايا في جسده كامل من رأسه حتى قدميه وداخل فمه أيضا ،كانت الأسلاك الكهربائية في الصالة تسقط على جسده وتصعقه ،وخلال تلقيه العلاج في مستشفى 48 العسكري عملت له أكثر من عملية صفيحة في أحد فكيه واستئصال الطحال بعد ان استقرت حجر فيه، وأخرى للعمود الفقري حيث كانت هناك شظية بالقرب منه ،وأيضا أصابت وجهه الحروق التي لم تظهر إلا بعد حوالي أربعة أو خمسة أيام بسبب المواد الكيميائية،والعديد من العمليات التي نالت من جسده المنهك أصلا , لم تنته معاناتنا هنا بل ان الأشد فتكا ما حل بنا ونحن نبحث عن بقايا أشلاء والدي الشهيد عبدالرحمن الكهالي على مدى عشرة أيام.
رحلة البحث عن والدي
على مدى عشرة أيام ظلت أسرة الشهيد عبدالرحمن الكاهلي تبحث عن ما تبقى من أشلائه بعد ان امتزجت تلك الأجساد بالتراب والحديد وعجز المسعفون عن التمييز بين هذا الجسد وذاك , ابنة الشهيد شروق تروي تلك الرحلة التي يعجز اللسان عن وصفها لشدة مرارتها حيث ظلت طيلة عشرة أيام وهي تفتش بين تلك اللحوم لبقايا أجساد بشرية التي يأتوا بها إليهم لتتمكن أسرة الكهالي من معرفة الجثة تقول شروق وهي تروي لنا تلك المشاهد بحرقة بالغة : على مدى عشرة أيام متتالية بعد وقوع الجريمة عشتها كيوم واحد فقط كانت الأخبار تتوالى علينا بكثرة وتتعدد الروايات عن مصير والدي فمنهم من يقول بأنه رأى والدي خارجا من الصالة بقدميه ومنهم من قال بأنه رأى والدي ينقل على سيارة إسعاف، كانت هذه الأخبار وما سواها بصيص أمل بعودة ابي لكنها لم تكن تزيدنا إلا حرقة ومرارة لما نعيشه من فقدان ومصير مجهول لجثة والدي ،وهكذا كانت قصتنا ما بين جثة وأخرى بينما كنا نتشبث بجثة ونلاحظ عليها بعض علامات قد تعود لوالدي تأتي أسرة أخرى بعلامات أكثر دقة وتحظى بتلك الجثة ،كانوا يأتون إلينا بما تبقى من تلك الجثث التي تفحمت بفعل العمل الإجرامي كخاتم أو ساعة أو حتى شيء مما بقي من ثيابهم المحترقة التي عليها آثار الدماء وامتزجت فيها رائحة الدم برائحة الحريق والمواد الكيميائية التي لا زالت رائحتها عالقة في انفي وكأنها الموت بذاته ،بل والجثث التي كانت أكثر تفحما ولم يبق منها شيء كنا نحاول أن نتعرف عليها من خلال الأسنان ،حتى يأتينا خبر من أحد الأقارب بعد رحلة بعث عنها وتم التعرف عليها في مستشفى الكويت في اليوم العاشر من الجريمة , نعم لقد كانت متفحمة إلا الجزء الأيمن من صدره ويده كانت كما هي ،وجيء إلينا بما تبقى من حزامه وثوبه وكانت له لا تزال رائحة الدم واللحم المحترق فيها .
واستطردت قائلة : رسالتي للعدوان هي ليست رسالة بل إنه وعيد مني أصالة عن نفسي ونيابة عن المجروحين مثلي من هذا العدوان الظالم الغاشم الذي لا يراعي شرعا أو دينا أو عرفا , يا من اخترتم مكانا يذكر فيه آيات الله، مكان ذهب إليه الأبرياء لكي يجبروا قلوبنا كساها الحداد والحزن ،جرائمكم ستخلد في التاريخ والعار سيلحقكم ،جرائمكم التي أخذت منا أغلى ما نملك لكنها زادتنا قوة وإصراراً بأن نأخذ بثأرنا ودمائنا ،سنحاسبكم ونحاكمكم على كل جريمة حرب قمتم بها بحق الإنسانية، سأحسبكم انا عن جريمة أم الجرائم (الصالة الكبرى) وآخذ بثأري وثأر جميع المستضعفين من أبناء وطني طال الزمن أم قصر، كما نطالب بفتح تحقيق دولي للجرائم التي يرتكبها العدوان السعودي الصهيوامريكي لمقاضاتهم على ما ارتكبوه بدون وجه ونؤكد أننا نرفض شرعيتهم المدعاه في شخص رفضه الشعب وارتكب بحق الشعب خيانة عظمى لا تغتفر .
نجوت دون أخي
وعن ذلك يصف العقيد عبدالخالق الشيخ احد الناجين من الجريمة وشقيق الشهيد العميد الركن احمد الشيخ جريمة الصالة الكبرى بأنها جريمة مؤلمة وشنيعة بكل المقاييس ولم تخطر على بال بشر,مؤكدا على ان ما جرى لن يمر دون عقاب .
ويقول الشيخ: في ذلك اليوم دخلنا لتقديم واجب العزاء لآل الرويشان كانت الصالة مليئة بالمعزين وأصوات الأناشيد والذكر تضج في القاعة وفي الدقائق الأولى لوصولنا الى الصالة الكبرى سمعنا تحليقاً لطيران العدوان بشكل كثيف كان يبدو المشهد مزعجا للحاضرين وبدأوا بالحديث عن هذا التحليق ولم تمر لحظات إلا وانقلبت الصالة رأسا على عقب على وقع الصاروخ الأول تغير المشهد كليا وضجت الصالة بالأصوات والأنين والهتافات سقط احد جدران القاعة علي وعجزت عن الحركة كادت الأنفاس ان تختنق بداخلي وأنا أحاول الخروج مما انا فيه , لم تمر سوى لحظات إلا وسمعت صوت مسعفين يسعون إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه فصحت بهم وأسرعوا لإنقاذي واتى الي بعض المسعفين وخيرني احدهم بحملي من يدي اليمني فقلت له اسحب ولو انه مسك بيدي الأخرى لنزعها بيده لتعرضها لعدة اكسار.
كنت في الدور الثاني برفقة أخي العميد الركن احمد الشيخ وبعد ان تمكن المسعفون من رفع الجدار الذي سقط علينا وانتشلوني من بين الركام سارعت في البحث عن شقيقي العميد احمد الشيخ ولكني لم أجد أي اثر له وعجزت عن التمييز بين الأجساد التي حولي بعد ان اختلطت ببعضها وصارت متفحمة تعجز عن التعرف اليها , كان يراودني شعور بإن العدوان سيعزز غارته ولن يكتفي بغارة واحدة وسارعت إلى الخروج من هذا المكان فيما ان الطرق أصبحت مكتظة بالجثث والأشلاء والحديد وكنت حينها مخيراً بين خيارين اما ان اسقط من على الدور الثاني الى حوش القاعة الذي امتلأ بالحديد والألمنيوم والجثث المتفحمة او الاستسلام للنيران التي كانت قد التهمت جزءاً من يدي اليمني وبعد ان تفحصت النظر من حولي حصلت على كيبل كهرباء وقمت بربطه على احد أعمدة القاعة الحديدية وأمسكت بيد واحدة كون الأخرى لا أتمكن من نزعها وقفزت الى الأرض وبمجرد وصولي الأرض أغار طيران العدوان بالغارة الثانية على القاعة فقضت على ما تبقى من أصوات كانت تسود الصالة واحترق بقية من فيها لكني والحمد لله نجوت منها أيضا وهرولت مسرعا بالفرار وعيني تقطر دما على ما يجري من حولي وانا امشي بين أشلاء بشرية لا ذنب لها إلا انها يمنية وتمكنت من الخروج وعلى الفور صادفتنا إحدى السيارات بالقرب من القاعة طلبنا منه التوقف واستجاب لنا على الفور وقام بإسعافي وكان الى جواري حينها ثلاثة من الناجين وتم إسعافنا الى المستشفى الجمهوري وكنا من أول الواصلين إليه وما هي الا لحظات حتى اكتظ المستشفى بالمصابين والشهداء , مشاهد تعجز عن وصفها لمدى بشاعتها، أشلاء مقطعة وجثث متفحمة وانين وأوجاع لا نهاية لها لم أتمكن من البقاء هناك وتم نقلي الى مستشفى المتوكل وعندها أجريت لي العمليات اللازمة لكن هاجس فقدان أخي ظل يؤنبني في كل حين وكل ما وصل الي احد من الأقارب سارعت في سؤاله عن شقيقي أحمد لكنهم يردون بعدم معرفتهم عن أي أخبار ولم يعثروا عليه حتى وصلني نبأ استشهاده في الثامنة من مساء ذلك اليوم وانا على سرير المستشفى لم أتمالك نفسي حينها وشعرت بحزن شديد مازلت أعيش أوجاعه حتى الآن، رحمة الله عليه وعلى جميع الشهداء والشفاء للجرحى والخزي والعار للمجرمين .

قد يعجبك ايضا