أنامل الحرفيين تعزف سيمفونية إبداعات صنعاء القديمة

كتب/محمد القعود
ستظل صنعاء على مدى العصور ايقونة الحضارة والتاريخ والثقافة والفن وستبقى فنونها وعماراتها وأسواقها وحرفها الشعبية والتقليدية تراثاً ثقافياً للإنسانية جمعاء، وآية للإبداع الأصيل والعريق والمدهش، الذي يعكس عراقة تراث وإبداع أبناء اليمن عامة، وصنعاء خاصة، وبالذات أولئك أصحاب الأصابع الرائعة والموهوبة التي تجيد إنتاج الروائع المختلفة في مجال الحرف اليدوية المتعددة ذات العمق الحضاري العريق.
ومن يذهب إلى أسواق صنعاء القديمة، سيجد نفسه محاطاً بروائع ابداعات الحرف اليدوية المختلفة، وسيشاهد الأسواق الشعبية المتفردة بخصوصياتها، وتنوع حرفها ومنتوجاتها التقليدية، وسيعيش لحظات مفعمة بعبق التاريخ والحضارة، وسيندهش وهو يلامس عن قرب لوحات ابداعية وفنية رائعة تعزفها أنامل أولئك الحرفيين المهرة الذين يزينون ويرفدون تلك الأسواق بمنتوجاتهم الحرفية المختلفة التي تحمل خصوصياتها التراثية والشعبية اليمنية.
والحفاظ على استمرارية تلك الحرف وتدوينها وتوثقيها مهمة عظيمة في سبيل الحفاظ عليها من التلاشي والاندثار.
وهنا نقف أمام أحد المشاريع الثقافية الوطنية الهامة التي قام بتنفيذها وتمويلها الصندوق الاجتماعي للتنمية بالتعاون مع الهيئة العامة للآثار والمتاحف والمتمثل في المشروع الذي تم تنفيذه قبل فترة زمنية وهو مشروع مسح وتوثيق الحرف اليدوية التقليدية في مدينة صنعاء القديمة وشارك فيه نخبه من المهتمين والمتخصصين والخبراء في التراث الثقافي والفني والحرف الشعبية والتقليدية والمعمار والتاريخ والفنون.
وكان من أهم مخرجات هذا المشروع الرائد هو صدور مجلدين كبيرين تحت عنوان مسح وتوثيق الحرف التقليدية في مدينة صنعاء القديمة.
وجاء هذا الاصدار في 500 صفحة من الحجم الكبير وبطباعة ملونة وممتازة وتم تزويده بالصور الملونة والخرائط عن شتى الحرف التقليدية إلى جانب خرائط أمكنة الحرف في أسواق صنعاء القديمة.
وتم تخصيص صفحات خاصة بكل حرفها مع رسوم وصور عن كل ما يتعلق بتلك الحرف التقليدية .
وفي هذين المجلدين ثم تسليط الضوء على تلك الحرف ومكوناتها وتوثيقها وتدوين كل مفرداتها، مع تسجيل وتوثيق أحاديث ميدانية شاملة مع حرفييها وصناعها وروادها ومن تلك الحرف: حرفة الفضة، حرفة العقيق، حرفة الجنابي، حرفة العسوب، حرفة الدباغة حرفة الحزم والمحازق، حرفة الحباكة، حرفة النجارة، حرفة الخياطة، حرفة النقش، حرفة المصباغة، حرفة المعطارة، حرفة عصر الزيوت، حرفة المغالق، حرفة المحدادة، حرفة القمري، حرفة المدائع، حرفة النحاس.
التراث الحرفي
ومما جاء في هذا الإصدار الهام:
– إن الإنسان حين يقف أمام نفسه لاستحضار التاريخ، والهوية اليمنية الضاربة في عمق الحضارة الإنسانية يستشعر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، وهو يقف أمام المدخلات الحديثة للوضع المتردي الذي يصيب حرفنا اليدوية والتقليدية،- تدريجياً- نتيجة للغش الذي أكتنف بعض الحرف الحديثة لإدخال بعض المعادن المخلوطة، وكذلك ظاهرة اتجاه تجار هذه الحرف لاستيراد قطع غير يمنية مقلدة عن الحرف اليمنية من دول شرق آسيا، وعرضها في الأسواق اليمنية على أنها منتجات يمنية، وهذا – بالتأكيد – يؤدي إلى فقدان خصوصية الهوية اليمنية الضاربة في عمق التاريخ، والتي تذكر الروايات التاريخية أن الاسم الحالي لصنعاء يعود إلى كثرة الصنعة فيها واشتهارها بعدد من الصناعات الحرفية التقليدية البديعة.
وقد اشتهرت تاريخياً بأنها عاصمة الفنون المهنية، فقد ورثت هذه المدينة تقنية الحرف عن الأجداد منذ فجر الحضارة اليمنية التي تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، بدليل الشواهد المادية التي تم اكتشافها على امتداد ساحة الوطن، كما عرف اليمنيون علم استخراج المعادن الثمينة منذ العصور القديمة، وصنعوا ونسجوا أجمل الحلي والملابس التي ذاع صيتها.
ومن هذا المنطلق، فقد رأت الهيئة العامة للآثار والمتاحف ضرورة الإسراع بمسح وتوثيق الحرف اليدوية التقليدية في مدينة صنعاء القديمة، ضمن خطتها التي بدأتها بمشروع مسح وتوثيق الحرف اليدوية في جزيرة سقطرى،وتقدمت بهذا المشروع إلى الصندوق الاجتماعي للتنمية الذي لم يتردد في تبنيه وتمويله، انطلاقا من توجيه لتوثيق وحماية الإرث الثقافي اليمني المهدد بالاندثار، ولتحقيق التنمية الاقتصادية، ومحاربة الفقر في إطار توجه الدولة لدعم مشاريع المنشآت الصغيرة وتحقيق التنمية الاقتصادية من خلال استثمار الموروث الثقافي.
سوق صنعاء
وفي بداية هذا الإصدار التوثيقي تم تسليط الضوء حول سوق صنعاء والمراحل التاريخية التي مربها:
يُعد سوق صنعاء من أقدم وأهم الأسواق في الجزيرة العربية، وإليه يعود الفضل في بقاء المدينة حية ومنتعشة حتى الآن، وقد بلغ ذروة ازدهاره – في عصر ما قبل الإسلام – خلال القرنين “5-6″م حين كانت مدينة صنعاء مركزاً هاماً لتجارة القوافل بين أسواق جنوب الجزيرة العربية وشمالها.
وبعد تلبية اليمنيين للدعوة الإسلامية – طواعية – وازدهار العمران، وتوسع البناء في مدينة صنعاء، ازدهر سوقها وتوسع، وزدادت مساحاته مواكبة لمرحلة تطور المدينة، فالسوق – وفقا لما جاء في دراسة دوستال وفرنك مرمية – قد تغير كثيراً وتشتت الحرف عن أماكنها الأساسية التي ذُكرت في مراجعهما إلى أماكن جديدة، وتذكر بعض المصادر أن صنعاء كانت في القرن التاسع مركزاً نشطاً جداً لتجارة القوافل بين جنوب الجزيرة العربية (اليمن)، وأسواق شرق آسيا، والمنطقة العربية وإذا ما قرأنا شهادات الجغرافيين العرب في تلك الفترة لوجدنا أن فروعاً عديدة من حرفها- خاصة صناعة الجلد، والنسيج، الثياب، وصقل الحجارة الثمينة التي أحاطت بها صياغة الحلي- كانت من السلع التي يتم تصديرها إلى خارج البلاد، وفي الفترة التي تلتها أصبح سوق صنعاء مركزاً لا ستيراد وتوزيع السلع المستورة من المنطقة العربية وآسيا وشبه الجزيرة العربية، وكان يستوعب أيضاً قسماً كبيراً من السلع المحلية سواءً أكانت زراعية أم حرفية.
ومثل السوق حينها الرئة التي أحاطت بها المباني السكنية بكثافة من جميع الاتجاهات.
والجدير بالملاحظة أن حرفيي المدينة كانوا في السابق لا يسمحون لأولادهم بمزاولة البيع والشراء ، إلا بعد تدريسهم العلوم الشرعية من فقه، وحساب فضلاً عن القرآن الكريم ، والنحو ، والحديث ، ليكونوا على علم بفقه المعاملات في البيع والشراء، وما يزال السوق يحتفظ بأربع وعشرين حرفة، بالإضافة إلى ما تنتجه الجمعيات الحرفية.
الخصائص المعمارية للسوق
كما تم التطرق إلى الخصائص المعمارية التي تميزت بها المدن القديمة وأسواقها.
في أي مدينة من المدن القديمة أسواق شهيرة لها خصائصها وأسواق صنعاء تمتلك هذه الخصائص المعمارية وأهمها:
– أعتمد التكوين الفضائي للسوق الفصل في فضاءاته الوظيفية ذات العلاقات العامة وبين الحارات العلاقات الخاصة ( المباني السكنية) واعتمد الفصل بين الاتجاهين الرأسي والأفقي في تشكيل فضاءاته الداخلية، ففي المركز تشكلت الفضاءات الوظيفية التجارية والخدمية بنظام أفقي ممتد، ولم تزد ارتفاعات الحوانيت عن طابق واحد، وقد توزعت على جانبي الطرق أو على أطراف الساحات الصغيرة، وعلى أطراف السوق توزعت سماسر الإيواء الكبيرة ذات الطوابق المتعددة وبكثافة في الجهة الغربية.
– اعتمد تخطيط السوق على منظمومتين معماريتين تكاملت في علاقاتها وتمايزت بخاصيتي الربط والفصل في وظائفها، فالمنظومة الكلية تجمع كل الفضاءات الوظيفية التجارية والخدمية (أسواق، سبل، سماسر، حمامات..)
أما الأسواق التخصصية ذات الوظائف النوعية فتشكل منظومة جزئية في بناء التكوين العام للسوق.
يقع في كل سوق متخصص منتج حرفي معين تعمل فيه أسر معينة تحتل حوانيت مخصصة في السوق، والحانوت عبارة عن (فضاء معماري تميز بالبساطة، وضيق المدخل، وصغر المساحة والارتفاع المنخفض، إذ لا يزيد ارتفاعه عن طابق واحد، يرتفع على مصطبة (دكة) ارتفاعها 50 إلى 80سم والمصطبة هي من الحجر أو الياجور تقع فوق مستوى طرق وساحات السوق.
كما توجد مصطبة مرتفعة نسبياً أمامه، ترتفع إلى قرب الباب في الغالب لجلوس المشتري عليها أثناء المساومة في النوعية، والجودة، والسعر، براحة تامة تحت ظل المظلة النافرة من سقف الحانوت.
إن الإصدار الوثائقي حول “مسح وتوثيق الحرف اليدوية التقليدية في مدينة صنعاء القديمة” يستحق الاحتفاء والتقدير، ويعد إضافة نوعية للمكتبة اليمنية، ومن الإصدارات الهامة التي توثق وتدون لجانب هامٍ من التراث الثقافي اليمني المتنوع.. وهو بادرة رائعة يشكر عليها جميع من شارك فيها.. وتحية تقدير لمن قام بتنفيذ هذا العمل الثقافي الهام ونشره.

قد يعجبك ايضا