الكتاب والقراءة والحياة

هشام علي بن علي

منذ أن أعلنت منظمة اليونسكو يوماً عالمياً للاحتفاء بالكتاب وكان ذلك في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ونحن نحتفل بهذه المناسبة في موعدها المحدد بالثالث والعشرين من شهر أبريل، ورغم أهمية مثل هذا الاحتفال الذي يعيد الكتاب إلى واجهة الحياة بشكل عام، ويسعى لتذكيرنا بالقراءة وأهميتها كفضاء واسع مفتوح للحوار و التأمل، ويرفع شأن الكتاب كحافظ لتاريخ الإنسان وتجاربه المتنوعة في العيش وبناء الحضارات وإبداع الفنون والمعارف والعلوم.
إلاّ أننا نلاحظ ومنذ بدايات هذا القرن أن هذا الاحتفال باليوم العالمي للقراءة قد بدأ يأخذ طابعاً مختلفاً يقترب من الرثاء أكثر منه الاحتفاء، فمنذ أن أخذ الكتاب الافتراضي يغزو الأسواق ومنذ أن أمكن للوح (I-Pad) أن يحتفظ بداخله مكتبة الكترونية متنقلة بدأنا التفكير في مستقبل الكتاب الورقي، بل في مستقبل القراءة بالطريقة التقليدية المألوفة.
ولعلنا نتذكر ذلك الإعلان الرهيب الذي نطق به نائب مدير مايكروسوفت في معرض الكتاب بالأرجنتين عام 2000م: أن الكتاب سيصبح من أمر الماضي بعد عقدين من السنين وأنه منذ بداية عام 2019م سيصبح الكتاب الورقي شيئاً من أمر الماضي وسنجد في المعجم التعريف التالي لكلمة كتاب: (مكتوب ذو حجم مهم يمكن الحصول عليه عبر الكمبيوتر أو أي جهاز الكتروني شخصي).
لكن هذا الإنذار بمستقبل قاتم للكتاب وغياب المكتبات الكبرى كحصون منيعة للكتب، لم يتحقق على ذلك الذي صوره ممثل مايكروسوفت في ذلك الحين من عام ألفين.
وليس ثمة دليل على دقة الموعد الذي ذكره لكتابة شهادة الوفاة للكتاب، بيد أن ذلك الإنذار الذي صاغه صاحب مايكروسوفت، أخذ يتحقق ويفرض وجوده، ولو بوتيرة أقل سرعة من تلك التي افترضها وأصبحنا في كل عام، وفي كل مناسبة للكتاب أو للقراءة نستعيد ذلك الإعلان بوفاة الكتاب واقتراب نهايته، وأصبح الحديث عن مستقبل الكتاب الورقي موضوعاً للنقاش والتفكير في كل معرض من معارض الكتاب ومع ذلك فإننا نلاحظ حشوداً من الناس يتدافعون بالأيدي والمناكب عند مداخل تلك المعارض.
لن استطرد في الحديث عن مستقبل الكتاب في مداخلتي لأنني أعرف أن زميلاً من الزملاء سوف يتحدث عن هذا الموضوع، أو ربما يكون قد سبقني في الحديث ومع ذلك أود أن أقول انه ليس ثمة نهاية للكتاب الورقي وأن أقراص (CD) والكتاب الافتراضي وألواح (I-Pad) سوف تقف إلى جانب الكتاب الورقي لكنها لن تكتب شهادة وفاته.
هذه طبيعة الحياة وطبيعة التطور ربما تقل إعداد الكتب الورقية، وربما ينجح دعاة المحافظة على الغابات من التخفيف من قطع أشجارها لاستخدامها في صناعة الورق وإنتاج الكتب إلاّ أن الكتاب سوف يظل حاضراً.
نستطيع أن نلاحظ ذلك من خلال طوابير المترددين على معارض الكتاب أو مشاريع متعلقة بالكتاب مثل مشروع «مكتبة الأسرة» في مصر أو مشروع نشر الكتاب في «دبي» وغيرها من المشاريع الثقافية المتعلقة بنشر الكتاب، ولكن الموضوع لا يتوقف عند النشر فقط هناك موضوع القراءة، فلا حاجة للقول ان شراء الكتاب لا يعني القراءة هناك مكتبة الديكور التي يشتريها بعض الناس للزينة وحسب ولا حاجة لذكر برامج الكتب الأكثر مبيعاً التي تظهر في واجهات الصحف أو على الانترنت مثل هذه البرامج لا تتعلق بالقراءة، ولكنها تنظر للكتاب كسلعة أو مادة للتسويق أو تنظر للكتاب كحدث.
القراءة، الكتاب وسيرة الحياة
في كتابه «كيف نقرأ ولماذا؟ كتب الناقد الأمريكي هارولد بلوم قائلاً: إننا نقرأ لكي نتعلم كيف نتحدث لأنفسنا واستطيع أن أعدّل بعض التعديل في عبارة بلوم، إننا نقرأ لنعرف أنفسنا، وليس لمجرد الحديث معها فقط.
فنحن منذ أن نبدأ القراءة ندخل في مسار طويل هو مسار المعرفة معرفتنا لأنفسنا ومعرفتنا للآخر ومعرفتنا للعالم، ربما لا نكتشف هذا الآمر منذ البدايات الأولى، حين تكون القراءة مجرد عملية فك للخط، عملية ربط للحروف ببعضها وتشكيل علاماتها وهكذا تصبح القراءة كلمات وحروف وجمل، ألفاظاً ومعاني تشكل عالماً آخر موازياً لعالمنا الواقعي أو أنه عالمنا الواقعي وقد سطرناه على الورق، وحاولنا الاحتفاظ بحضوره هنا بعد أن تحول من كلام يتطاير في الفضاء لقد أمسكنا بالكلام وتلك مرحلة جديدة في تاريخ الإنسان الذي تحول من الإنسان الناطق أو المتكلم إلى الإنسان الكاتب والقارئ.
أي الإنسان الذي استطاع أخيراً أن يعلن حضوره على الأرض وأن يسرد تاريخ وجوده منذ أن حاول أن يحفر على جدران الكهوف ويرسم على ألواح الطين رسوماً وعلامات، وحتى أخذ يكتب على ألواح الضوء وأجهزة الكمبيوتر والخطوط الرقمية، هكذا عبر المنجل والريشة والقلم والأزرار الضوئية عن مسار لتطور الكتابة وعن شفرات متنوعة لكتابة الحروف والكلمات وعن مناخات متجددة للقراءة والفكر والنقد.
لن أحاول الحديث في تطور أشكال الكتابة واختلاف موادها لكنني سأعود إلى تأمل الشكل الأولي للكتابة والقراءة، منذ أن امسكنا الورقة والقلم وبدأنا نتعلم: «قرأ يقرأ، كتب يكتب» هذه البدايات البسيطة تحمل معاني عظيمة، إنها مفاتيح علاقتنا بالكون والحياة والوجود، بل إنها مفاتيح الإيمان، لنتأمل قصة الوحي الآلهي الذي نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حين أمره جبريل «أقرأ يا محمد»| فأجابه النبي: «لست بقارئ» في دلالة عميقة على القراءة وأهميتها وأهمية الاهتمام بالأمر الذي يحمله فعل القراءة من طابع مقدس، وما يحمله هذا الأمر من دافع للتفكير قبل التحديد، وهو ما نلاحظه في تردد الرسول حين قال «لست بقارئ» ولم يزل كذلك حتى أدركه اليقين، يقين القلب والعقل معاً.
إن كتاب القراءة المدرسي يعد من أهم المواد التربوية في المناهج الدراسية، وتصل أهميته إلى الحد الذي تنشأ بسببه مواجهات بين بعض الدول، على نحو الأزمة التي نشأت بين اليابان وكوريا مثلاً، أو الأزمة التي ظهرت في دولة اسرائيل حين أدخلت بعضاً من شعر المقاومة الفلسطينية إلى مناهج الدراسة.
ونستطيع القول إن كتاب القراءة الذي نختاره لأطفالنا في مستوياتهم الدراسية الأولى يعتبر من أهم الكتب الدراسية التي تساهم في تكوين الشخصية الوطنية وتربية جيل سوي محافظ على هويته الثقافية.
إن الكتاب وسيلة لتعليم طويل المدى ومعرفة بالحرية المواطنة والفكر النقدي وكل هذه تعتبر أركاناً أساسية للديمقراطية، ولذلك يمكن القول ان تعليم القراءة يعتبر الدرس الأول في العملية الديمقراطية فالإنسان القارئ هو الإنسان القادر على الاختيار بصورة صحيحة، ولذا يمكن القول أن الديمقراطية والأمية لا يمكن أن تلتقيا، واللجوء إلى الصور والرموز في العملية الانتخابية لا يمكن أن يكون حلاً للمشكلة، فالإنسان القارئ وحده هو الذي يستطيع أن يختار وأن ينتخب.
والقراءة ميدان مفتوح للتطور والتغيير، فقراءتنا للكتاب، أي كتاب، تختلف من زمن إلى آخر هذا هو معنى القراءات المتعددة للكتاب تتغير قراءتنا من زمن إلى آخر فالقراءة الثانية للكتاب هي بحث عن دلالات ومعان جديدة للكتاب وكلما تطور وعينا تتغير قراءتنا ومعرفتنا للكتاب نفسه، هذا هو الدرس الأول في الجدل، أو لنقل إن هذا الجدل يسقط على عملية القراءة، «إن المرء لا يستحم مرتين في النهر نفسه»، هكذا يقول المثل اليوناني ليعبر عن جدلية التغيير، ونحن في كل قراءة ثانية للكتاب نكتشف أفكاراً مختلفة وجديدة أو أننا نكتشف أننا نقرأ كتاباً آخر.
فنحن نضيف ونجدد قراءتنا في كل مرة نعود فيها لقراءة الكتاب نفسه، وإننا نجد في كل صفحة من صفحات كتاب نقرأه آثار القراءة، «إن كتابة الانطباعات عن هاملت عند قراءته عاماً بعد عام، يشبه كتابة القارئ سيرته الذاتية.
ذلك أنه عندما تتزايد معرفتنا بالحياة باطراد، يقوم شكسبير بتزويدنا بالتعليق اللازم على معرفتنا.
القراءة تجربة فريدة لاكتشاف الذات وتكرار هذه العملية في كل مرة نعيد فيها قراءة الكتاب ذاته.
خاتمة: هل ينتهي عصر الكتاب؟
منذ نهايات القرن الماضي وأسئلة النهايات تتوالى وتطرح نفسها بصورة ملحة لقد واجهنا خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي موجة متلاحقة من أسئلة النهايات ولعل توافق نهاية الألفية الثانية وولادة ألفية جديدة، كان عاملاً إضافياً على تلك الأسئلة، بل أنه كان عاملاً مرعباً ومخيفاً لأسئلة النهايات، وأكثرها رعباً كان سؤال نهاية العالم وما رافق ذلك من حكايات وأساطير، لاسيما تلك الحكايات القادمة من الأمريكيتين وما روي من حكايات عن جماعات في المكسيك مثلاً، شقت لنفسها أنفاقاً في باطن الأرض استعداداً لنهاية العالم.
لا أعرف كيف شعرت تلك الجماعات المؤمنة بنهاية العالم ونهاية الألفية الثانية، كيف خرجوا من باطن الأرض ولم يجدوا ثمة نهاية، كان العالم على وضعه السابق بل أن وسائل الإعلام لم تكترث بعودتهم إلى ظاهر الأرض!.
حديث النهايات لم يقتصر على هذا الجانب الإيماني لقد كان سائداً ومرتبطاً بأحداث التاريخ ووقائعه المتلاحقة، لاسيما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ونهاية الحرب الباردة واستطالات هذه الوقائع لتشمل العالم كله.
هكذا أخذت تظهر أفكاراً وتباشير النهايات: نهاية الايديولوجيا، نهاية التاريخ، نهاية الفلسفة، نهاية الكتاب وغير ذلك من قائمة النهايات إلاّ أننا نلاحظ في زحمة هذه النهايات إننا لا نجد موعداً لنهاية العنف، نهاية الحرب، نهاية الصراع وغيرها من المظاهر الصراعية المدمرة لحياة الإنسان.
فما أن تم إعلان نهاية الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين في العالم، حتى اشتعلت حروب القوميات والاثنيات والجماعات وغيرها من الصراعات والحروب في الشرق والغرب.
لقد أشرت إلى احتمالات نهاية الكتاب والنبوءات التي قدمها أصحاب الشركات الكبرى للكمبيوتر والكتابة الرقمية وغيرها من الأشكال المتطورة الذي تنبأوا بنهاية عصر الكتاب الورقي واختفائه، لكن هذه النهاية لم تكتب بعد كما نرى، ويظل للكتاب حضور في المستقبل.

قد يعجبك ايضا