أضع حزني جانباً.. وأبتسم لأجلك

جميل مفرح
الغصة تخنقنا والعبرات تسبقنا.. والرجفة تكبل إدراكنا قبل أناملنا.. واللغة تعصينا.. والفكرة تفر بعييييداً جداً..
لنجد أنفسنا، كتماثيل متجمدة، عاجزين، لا نستطيع أن نقول حتى ما يقوله البسطاء حين تأخذنا الصدمة في غيبوبة مفتوحة بافتقاد عزيز أو حبيب أو غالٍ على قلوبنا..
ولكي أكون صادقاً فقد رحل صديقي… لا الجميع يصفونه بالصديق.. ابني… لا ليس صغيراً إلى هذا الحد.. فلأعده شقيقاً أصغر باعدت بيننا ظروف الحياة.. وانتهت بنا إلى ما انتهينا إليه.. رحل محمد وفي نفسي منه حزة ووجع صغير ربما كان قد نسيه وأنا نسيته وتذكرته في لحظات عصيبة علمت فيها نبأ وداعه، وذلك جراء موقف بسيط ربما قد يكون حدث قبل فترة وجيزة دون قصد أو عمد.. إلا أنه انفتح كصفحة ذكريات أو فلاش باك عند إدراكي وليس سماعي لنبأ رحيل محمد.. فجلجلت بداخلي زفرة حارة.. وتأملت كيف أننا كبشر كثيراً ما نكون مبالغين وقساة في تعاملنا، ليس مع الآخرين وحسب، وإنما أيضاً مع أنفسنا..!!
فقط البارحة أدركت أنني أخاف من الموت وأنا أتأمل نفسي وهي تسترجع ذلك الموقف العادي الذي لم يكن ليستحق أن ينسيني سنوات كان فيها من الروعة والحب والوفاء ما لم يكن في أعمار طويلة لكثير من الأدعياء.. لماذا استرجعت ذاكرتي ذلك الموقف قبل أن تعود بي أدراجها وتفتش في ألبوم رفقتنا عن كل ذلك الكم من الجمال والألفة والحب والإيثار..؟!
ولماذا عندما نكبر تتضاءل مثل تلك القيم الجميلة والمعاني الأصيلة والمثل الرفيعة..؟!
لفافة كتب الصف الثاني الثانوي التي كان غالباً ما يتصدرها كتاب لأدونيس أو ديوان لدرويش.. علبة السجائر البيضاء التي كانت تتهرب من عينيه كلما رمقها.. سبابته التي كانت تغزل شعر رأسه وتقطيبة حاجبيه وهو يقرأ قصيدة جديدة لهذا الشاعر أو ذاك، ويبدو وكأنه يتأمل سفراً من الأحجيات اللذيذة.. لفتات انبهاره واندهاشه.. جولات تأملاته العميقة التي كانت تصوره وكأنه فيلسوف أوغل في العمر والمعرفة والخبرات.. شطحات روحه تلك التي تأخذ أناه إلى مدى مفتوح في السمو، وهو يصف العالم بأكمله من حوله بالأمية والطفولة وعدم الوعي وكأنه إله أسطوري للمدارك كلها، خلقها بيده وقبل أن يبدأ بتوزيعها، استكثرها على الوجود فقرر في آخر لحظة أن يستأثر بها.. السبعة عشر ربيعاً التي كان يلوي عليها.. والتي كانت أحد ملهماتي لأكون أو أغدو في ذات اقتناصة شعرية فتى عجوزاً وأدون سيرتي في كتاب شعري، كلما نقبت في عن ذكريات وجدنه مكباً على تراكيبه ومفرداته وكأنه يفكك رموز خارطة لكنز يبحث عنه.. دعاباته المختالة بالحب.. التظاهر بالأستاذية المبكرة التي كانت تتجاوز المبالغة فيها أحياناً إثارة محبتنا إلى استدعاء التبرم منها وازدراد أثرها، لئلا تنكسر من على ملامحه ابتسامة الظفر ودلائل الثقة المطلقة.. تمعنه في إراقة حبره على البياض وهندسته للغة والفكرة والخيال والخاطرة وهو يكتب ليبدو أكثر مما هو عليه من إدراك وأنضج مما يتوقع فيه الآخرون وأكبر مما تفصح عنه السنوات الخائنة.. حكاياه عن جده الذي كان يعتبر بالنسبة له لقمان وأيوب وسقراط وأرسطو وأدونيس أيضاً.. إصراره ذات يوم على عدم خوض امتحانات الثانوية، مدعياً أنه بات من الخبرة والعلم والدراية حداً يجعل حصد أي شهادة دراسية مجرد ضرب في غبار أو ضوء خلف ظهر، لا يحتاجه لدرب قد قطع وتجاوز مراحله بثبات وامتياز.. وذهوله واستسلامه لنظرات عدم الرضا التي أحاطت به من كل صوب، ليخفض صوته ويذوي، ولكن دون هزيمة، للحقيقة مستجيباً وملتزماً وإن عن غير رضا لهذا الفرض.. ثم بداية صفعات الحياة والأقدار وهي تتوالى عليه وعلى جسده الضئيل عله ينهزم.. ولكن من أين لمثله أن يؤمن بالهزيمه.. ينفض جده الفيلسوف يده من ثمانية عقود من الحياة، ويلوح له إيذاناً ببدء المواجع.. ثم تمضي والدته وشقيقتاه وشقيقه.. وذلك الفتى يعتصر الجراح ويجمع في سلته كل أزهار الوجع ومرارات العلقم ليحولها إلى إكسير حياة، وطاقة يستعين بها على المضي وتحدي كل شيء في الوجود حتى نفسه..!!
كثيرة وكبيرة هي المحطات والمنحنيات والمصاعب والجراح والخيانات والآهات.. ولكنه كان وظل وسيظل أكبر منها وأكبر حتى من الموت الذي اعتقد أنه طواه في إبطه ومضى…
إنه محمد العبسي.. صديقي…. لا شقيقي الأصغر.. الذي دمعت عينا والدي المسن هذه الليلة وأنا أذكره إياه وأذكره حين كان يتبرم من غيابه من المدرسة ومداومته على الشعر والكتابة وتصنّع الكهولة والنضج والخربشة على صخر الواقع القاسي بأظافر مائية لم يكن لمثلها أن تزيل لاصقاً من دفتر واجباته، إلا أنها حفرت في الصخر له اسماً من نور وحكايات من بهجة وإبداعات مبتكرة وصل إليها قبل حتى أن يفكر في تمنيها من يعتقدون أنهم أكبر وأنضج وأقدر من ذلك الفتى اليانع والمخضرّ..
الآن وأنا أكتب هذه الحروف تمحي علامات الحزن وأتمرأى على صفحة الهاتف لأجد ابتسامتي عريضة وأنا أتذكره وأمر على محطات جمعتنا ذات منعطف كانت لذة الحياة فيها هي الأبلغ والأروع والأكثر إدهاشا وإثارة.. ثم أشعر بالخجل من نفسي لأنني أخذت في موقف ما في نفسي على محمد.. وأشعر بتفاهة الحياة وسذاجتنا في التعامل معها ومع مفرداتها وتفاصيلها المزدحمة بذكريات مدفونة علينا أن نكتشفها وننقب فيها عن سيرة من نحبهم وإن حاولت ونجحت ظروف الواقع في إبعادنا عنهم أو إبعادهم عنا..
رحمك وسامحك وغفر الله لك يا صديقي الصغير.. وشكراً لك لأنك ذكرتنا بتفاهة الحياة وقسوتها وبضرورة أن نتعامل معها كما تتعامل معنا من لا مبالاة.. ولأنك قدتني هذه الليلة إلى أن أتخلص من كل شيء بداخلي يوجعني ويوجع الآخرين.. يحزنني ويحزن الآخرين.. يتعبني ويتعب الآخرين.. وإلى أن أطلب المغفرة والسماح من كل من شعر بأنني تسببت له في أذى أو انكسار أو ألم حتى نفسي..
كثيرون حزنوا للحظات ربما ونسوا وكثيرون سيحزنون وينسون وكثيرون ستبقى في قلوبهم وذاكرتهم.. ولن ينقذني حزني لأكون كما أريد تجاهك وتجاه صداقتنا المسنة.. لذلك أود أن أكون مختلفاً وأبتسم معك ولك هذه الليلة..
عدني يا محمد بأنك ستبتسم لأجلي فها أنا اللحظة ادع حزني عليك جانباً وأبتسم لأجلك كما لم ابتسم من قبل.. و……… آخر قولي أن وداعاً يا صديقي..

قد يعجبك ايضا