ألهدنة: مرَضٌ عربيّ عُضال !

ناصيف ياسين
للسياسة آفاتُها وأمراضُها التي تحضّ المُراقبَ على التّدقيق والتّمحيص في أسبابها وظروفها وآثارها : القريبة منها ، والبعيدة . و” الهدنةُ” مرَضٌ شائعٌ في وقائعٍ تاريخنا العربيّ ، يدفعُنا لِتَحَسُّسِ أجسادنا كلّما طُرِحَتْ في مفصلٍ من مفاصلِ الصراع الوطنيّ والقوميّ ، أثناء التحرّر والتحرير ، ومواجهة الخصوم ، والأعداء : في الداخل والخارج .
فلو عدنا قليلًا إلى مراحل اغتصاب التراب الفلسطينيّ ، لَوَجدنا ” الهدنة ” سلاحًا ماضيًا في يد أعدائنا ، كانوا يستعملونها كلّما شعروا بضعفٍ في مواجهتنا – كعرب – إلى أنْ يتزوّدوا بالسلاح والعتاد ، ليخرقوها بأنفسهم ، من جديد .
كان هذا هو ديدنهم ، حتى اكتمل اغتصابهم لفلسطين والأراضي العربية الأخرى على الحدود . على أنّ بِدعتهم هذه ، كانت إرثًا أمريكياً ، مارسه الغزاةُ الأمريكيون ضدّ ” الهنود الحُمرِ” – سكّانِ أمريكا الأصليّين .
وها نحن – الآن – وبعد كلّ التجارب ” الهُدْنَوِيّةِ” المريرة التي لُسِعنا بها في مواجهة العدوّ ، نعود لِنقَعَ فيها ، وكأنها المرةُ الأولى : فالاقتراح الامريكيّ المُخادِع / والموافقة الروسيّة ، بالتزام ” الهدنة ” في سوريا ، أثناء المرحلة الهجوميّة لِحِلف الجيش العربيّ السوريّ ومَن معه ، والانتصارات المتلاحقة ضدّ العصابات الإرهابية ، كانت هدرًا لتلك الانتصارات ، وإعطاء فرصةٍ ذهبيّةٍ للإرهابيّين المهزومين ، كي يلتقطوا أنفاسهم من جديد ، ويعودوا إلى الهجوم واحتلال جزءٍ من ريف حلب الجنوبيّ ، مع المبادرة إلى الهجوم شمال اللاذقيّة ومناطق الشمال الأخرى، ضمن برمجةٍ تآمريّةٍ امريكية متناغمة ، بعناصرها الآتية :
– إنّ اتّفاق ” الهدنة ” لم يشمل ” داعش ” و ” النّصرة ” باعتبارهما الوحيدتين الموسومَتَيْن بالإرهاب في الميزان الأمريكي ، إلّا أنّ بقيّة العصابات الإرهابية الأخرى ، ساندتهما وشاركتهما في الهجوم ، في الوقت الذي التزم فيه الجيش العربيّ السوريّ وحلفاؤه ببنود ” الهدنة ” من طرَفٍ واحد ، حتى إنه لم يستغلّ الفرصة ضدّهما بذريعة التداخل مع بقية العصابات الإرهابية المعنيّة ” بالهدنة ” والتي لم تلتزم بها في الأصل .
كان الأَوْلى بحلف المقاومة والممانعة ، استكمال الهجوم ضد تنظيمَيْ “داعش ” و ” النّصرة ” المستثنيَيْن ، وضرب كلّ من يساعدهما ، ليتم الفرز على الأرض ، وإحراج الأمريكيين ، وإفشال خطّتهم . وهذا ما لم يحدث .
– وقد ساعدَت ” الهدنة ” هذه ، بالعكس ، على إفشال الطّلَبِ الروسيّ في مجلس الأمن ، الذي دعا إلى إدانة التنظيمات الأخرى واعتبارها إرهابيةً إسوة ” بداعش ” و ” النّصرة ” الذي جوبِهَ برفضٍ أمريكي / بريطانيٍّ/ فرنسيٍّ / أوكرانيّ ، لمصلحة تلك الاعتبارات .
– مع أنّ أميركا والسعودية – خلافًا لذلك – استمرّتا في قصف اليمن وحصارها ، ولم تلتزما بوقف إطلاق النار ، أثناء المحادثات اليمنية ، في الكويت ، لأنّ هذه ” الهدنة ” ليست لصالحهما ؟!
لو أدركنا – نحن العرب – أسلوب الفيتناميّين الذين لم يوقفوا مواجهتهم الظافرة ضدّ الأمريكيّين ، في فيتنام ، حتى أثناء محادثاتهم في باريس ، لابْتَعَدْنا عن منطق ” الهدنة ” الذي لا يوافق مصالحنا ، وواصلنا الهجوم الذي كانت بشائر انتصارنا فيه واضحة للعيان ؟!
أمّا وقد تبدّد وقف إطلاق النار – على هشاشته بالأساس – وعادت الحرب ، علينا التّعلّم من تجاربنا … فالفُرَصُ لا تُصابُ في كلّ وقت ؟!!

* كاتب لبناني

قد يعجبك ايضا