الفنانة سبأ القوسي : جدلية العلاقة بين الذات والآخر 

د. عرفات الرميمة
وانت تشاهد اعمال الفنانة سبأ القوسي تطالعك الذات التي تعدت مرحلة البحث عن ذاتها – من هي وماذا تريد – إلى مراحل متقدمة من تأكيد حضور الذات وتعاليها واختلافها عن الآخر – الرجل الشرقي الذي حاول أن يجعل من الأنثى شيئا من ضمن أشيائه – ذلك أن أهم ما يُميز الذات الواعية هو وعيها بالخصوصية والاختلاف .
وهل هناك مايؤكد من تلك الخصوصية وذلك الاختلاف سوى الفن ؟ على أساس ان الانسان عموما – كما يراه المفكر علي عزت بيجوفتش – هو حيوان فنان ومتدين ويمتلك أخلاقا ً وليس عاقلاً فقط كما عرّفه أرسطو .
سوف احاول قراءة لوحة للفنانة سبأ القوسي محاولا سبر أغوارها العميقة من خلال منهج التحليل النفسي الفرويدي وقراءة ما بين خطوط اللوحة او ما تخفيه وتستره من خلال المنهج التفكيكي الدريدي ما أمكن لي ذلك وبناءً على ما تسعفني به ادواتي المعرفية اللوحة التي اعنيها هي رقم  ?? في كتابها -كتالوج مصور- المعنون : اطلق سراحك منك
، ميزة اللوحة انها غير معنونة ولم تكتب الفنانة تاريخ إنجازها وتلك ميزة تحسب لها ، عدم تسمية اللوحات  وعدم كتابة التاريخ ينم عن فهم عميق لدور المتلقي كي تتعدد القراءات  وتتكاثر التأويلات مما يجعل اللوحة فضاء مفتوحاً غير قابل للانتهاء والأكتمال  يمكن العودة إليها والإضافة، هذا ما تنبهت له الفنانة بعدم كتابة تاريخ يجعل من اللوحة مرحلة تمت  واكتملت وانتهت وهكذا لان الاكتمال نقص وموت فالزهرة تكتمل وتموت والقمر يكتمل ليرحل وتلك بالنسبة لي ميزة غير مسبوقة بحسب معرفتي المتواضعة . هذا اولا على مستوى الشكل ، أما مضمون اللوحة  فهي عبارة عن  المرأة التي تركب حصانا ،الحصان يبدو عليه الإرهاق والخضوع ، أما المرأة فهي في حالة وجد صوفي واستغراق وجودي تشبه رقصة المولوية الصوفية . يحق للمتلقي أن يسأل ما وجه العلاقة بين المرأة والحصان ؟ الجواب بسيط : ينظر البعض للمرأة الواعية الفنانه المثقفة كفرس جامح لا حدود لجموحه وتطلعاته صعب المراس والترويض ويحتاج الى فارسِ أصيل  . المرأة التي في اللوحة  هي فرس جامح تشظى جموحا في كل اتجاه لا يتسع لتشظيها مكان ، تشظت وانفجرت روحا وفكراً ونفسا وجسدا  مطلقة لذاتها العنان لتجاوز ذاتها – اطلق سراحك منك – وتجاوز الآخر الحصان القابع تحتها بخضوع واستكانة ورافضة كل تابوهات الواقع والمألوف بحكم العادة الآسنة والتقاليد البالية تلك التي تحاول أن  تحٌدّ من إنسانية المرأة وأنوثتها  ، شكّل تشظي المرأة – الفرس الجموح –  جيوبا أنثوية بارزة ، تماهت مع الفرس في المخيال الذكوري وفاقتها جموحا وذلك لان ميزة الفرس الحيوان في الواقع تعتمد على الشكل أما ميزة الأنثى الفرس فهي جوهر ومضمون وكينونة مبدعة بفعل أنها تحمل في داخلها شيئا من روح خالقها ومبدعها الأبدي والأزلي ، بدى معها الحصان الذي تحتها هادئا مطواعا في اللوحة وهو أشارة الى المتخيّل غير المرئي والمستور في لا وعي الفنانة التي تجعل من الرسم نوع من القفز فوق الواقع الكائن إلى ما ينبغي أن يكون ، فقد كان الفن في بدايات  ظهوره نوع من السحر ، بمعنى : أن رسم الفنان البدائي لنفسه وهو يقتل الحيوانات على سطوح الكهوف كان يساعده على قتلها في الواقع ،
في اللوحة نوع من تبادل الأدوار بين المرأة – الفرس – وبين الرجل – الحصان- ذلك الوضع المقلوب الذي تعتلي فيه الفرس الحصان وتعتليه وهو خاضع لها ذلك الوضع يثير المراة ويزيد من تشظيها في السيطرة واستلام زمام المبادرة ، فيغدو الحصان تابعا للفرس ومنقاداً له ومأتمراً بأمره.  والنتيجة التي نصل اليها : أنه لا توجد  حدود لتشظي المرأة الفرس حال جموحها ، من الذي يستطيع أن يروض جموح المرأة المبدعة  ؟ لا يوجد من يستطيع ذلك سوى فارس أصيل  يعرف ماهية الفرس ويفهمها روحا وجسدا ويحبها ويحترمها لذاتها ومضمونها يجعل من روحه مظلة تحمل جموح روحها وتهبط بها في مدارج الكمال ويجعل من جسده سرجا يحمل فتافيت جسدها المتشظي ويشكلها فسيفساء داخل قلبه الصغير الذي يسع جموحها ، تسمع صهيل أشواقه فتنوخ له، يصفّر لها كي تشرب من نبع رجولته التي فاقت جموحها واحتوته . اللوحة عموما تخفي اكثر مما تقول وتجعل من الصمت لغة ومن الستر وضوحا ومن الحركة سكونا ومن الرغبة تمرداً ومن سجن التقاليد حرية وانطلاقا لأفق مجهول . اللوحة برمزيتها سبقت ثقافتي المتواضعة بمراحل ومعانيها الغضة ضيقت اللغة اليابسة التي نستعملها ، نحتاج لغة سماوية غير مسبوقة تحتوي جموح المرأة الفرس وتستيطيع الوصول إلى حيث ينتهي الجموح لتبدأ في تتبع أثاره، هذه ليست لوحة انها بركان أنثى يقذف بحممه في كل مكان ليجعل المتلقي يقف بعيدا فالقرب موت محقق والبعد عماء وغباء وحيرة ، تلك اللوحة تُحيل المتلقي إلى فراشة تتبع نار جموح الفرس كي تعرفه وتصل إلى حدوده ، لكن ذلك الفهم سوف تدفع الفراشة ثمنه من حياتها عندما جعلت من أرادة الفهم وسيلة للموت والتلاشي  وكأنها تطلب المستحيل وهذا هو جوهر كل فن حقيقي بحسب مقولة (جياكومتي ) بأن الفن هو بحث عن المستحيل، هذا ما فعلته الفنانة سبأ من خلال لوحاتها ونجحت فيه بإمتياز .

قد يعجبك ايضا