التاريخ الأسود .. للمجرم الطليق

*اقترنت به أبشع مآسي اليمن خلال نصف قرن

إبراهيم يحيى – محمد الفائق

شهد اليمن في تاريخه الحديث جرائم جسيمة كبرى بامتداد ارجائه كافة خلال الخمسين عاما الماضية ونيف، وتحديداً منذ ما قبل استقلال جنوب اليمن في الثلاثين من نوفمبر 1967م وحتى احتلاله من جديد بقوات غزو أجنبية في العام 2015م، اتسمت بطابع متسلسل اقترن على نحو مباشر وغير مباشر بمجرم رئيس، يجيد الفرار ونجا بقرار عفو سياسي عام من حكم قضائي بالإعدام ومع أنه يحاكم الآن غيابياً، إلا أنه لا يزال فاراً طليقاً.
في كنف الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن، الذي دام نحو 128 بأدوات داخلية؛ يبدأ تاريخ هذا “المجرم الطليق” حين انطلق من قريته “ذكين” بمديرية الوضيع محافظة أبين إلى مدينة عدن لإكمال تعليمه، وقبل أن يكمل مرحلته الثانوية، كانت المخابرات البريطانية قد جندته.
جاسوس بريطاني
يذكر ذلك عدد من المشاركين والمعاصرين لمسيرة النضال الوطني في جنوب اليمن، ومنهم السياسي المعروف احمد الحبيشي. يقول: “تولى تجنيده الضابط جون ستيفنز مستشار قلم المخابرات البريطانية في السلطنة الفضلية (أبين حاليا)، حين اختاره حارساً شخصيا له”.
بحسب الحبيشي كان تجيند هذا المجرم “نهاية خمسينيات القرن الماضي وتحديدا 1959م”، وهو التاريخ المتزامن مع تصاعد المد الثوري التحرري ونشاط الحركة الوطنية، ما جعله يبرز واحدا من عملاء سلطات الاحتلال وقواتها، الذين أظهروا ولاء خالصاً لبريطانيا.
قدم “المجرم الطليق” لسلطات الاحتلال البريطاني خلال ست سنوات خدمات كبيرة في التجسس على الحركة الوطنية ضد الاحتلال ومؤامراته، فحاز على منحة للدراسة العسكرية في بريطانيا، تعلم خلالها اللغة الإنجليزية، وعاد بعد تخرجه في 1966م لينشط ضد ثورة 14 أكتوبر 1963م.
عميل سري
لم يعرف عن “المجرم الطليق” انخراطه في صفوف الحركة الطلابية الشبابية الوطنية المناهضة للاحتلال، ولا ترد أي إشارة تذكر عن التحاقه بالتنظيمات السياسية الوطنية التي قارعت الاحتلال، فلم يكن وفق شهادات وأدبيات قيادات النضال الوطني عضوا في الجبهة القومية ولا جبهة التحرير.
على العكس تماما، يذكر سياسيون شاركوا وعاصروا مسيرة النضال الوطني في جنوب اليمن، ومنهم السياسي أحمد الحبيشي، أن المجرم الطليق “بعد عودته من بريطانيا زرع عميلا سريا داخل الجيش الجنوبي في عدن للتجسس على الضباط ذوي الميول التحرري الوطني”.
ووفق سيرته الذاتية، فقد عين “المجرم الطليق” في فصيلة للمدرعات، ثم قائدا لإحدى سراياها قبل ثلاثة أيام فقط من انتزاع الاستقلال ودحر قوات الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967م، امتدادا لنشاطه ضمن استماتة بريطانيا في ابقاء وصايتها على جنوب اليمن وبخاصة عدن.
فتن الشقاق
كانت سلطات الاحتلال البريطاني استطاعت بث الشقاق بين شركاء ورفاق النضال الوطني ضدها واشعال معارك بين الجبهة القومية وجبهة التحرير في 13 يناير 1966م، رافقتها موجة اغتيالات حصدت مئات القيادات الوطنية وشردت الآلاف في شمال اليمن وخارجه.
وعقب الاستقلال، أسهم “المجرم الطليق” وفقاً لسياسيين في توسيع الصراع بين رفاق النضال ضد الاحتلال البريطاني من موقعه نائبا لمدير لدائرة تدريب القوات المسلحة، وبعد ما سمي “خطوة 22 يونيو التصحيحة” 1969م، كان قاب قوسين من السقوط وفي طريقه إلى المحاكمة.
يذكر الحبيشي أن المجرم الطليق “كان لديه ملف عميل سري في قلم (جهاز) المخابرات البريطانية، باسم عبده هادي، ووقع الملف بيد الرئيس سالم ربيع علي، وهم لمحاكمته بتهمة الخيانة العظمى، لولا تعاطف معه محمد علي هيثم وعلي ناصر محمد، واثنيا الرئيس سالمين عن ذلك”.
حصل “المجرم الطليق” على منحة دراسية إلى مصر في 1970م، عاد بعدها للعمل في محور الضالع ثم محور كرش، وبجانب إسهامه العسكري الميداني في مجازر حربي 1972م و1979م بين شطري اليمن؛ لم يكن بمنأى عن أحداث الانقلاب الدامي على الرئيس سالمين في 22 يونيو 1978م.
تخصص تفكيك
كان هذا “المجرم الطليق” قد عاد الاتحاد السوفيتي لدراسة القيادة العسكرية حيث تخصص في “تفكيك الجيوش”، وبعد إعدام الرئيس سالمين ومعه مئات السياسيين، عين مجدداً مديراً للتدريب العسكري، ثم لدائرة الإمداد والتموين العسكري في عهد الرئيس عبدالفتاح اسماعيل.
لم يجد صعوبة في التكيف مع دورات عنف تصفية الرؤساء، إذ لم يكن يتبنى مبادئ أو ايديولوجيا بعينها، وبعد صعود رئيس من منطقته (ابين) علي ناصر محمد، رقي نائبا لرئيس هيئة الإركان لشؤون الإمداد ورئيس لجنة التفاوض في صفقات التسليح مع الاتحاد السوفيتي.
حكم إعدام
لكن الصراع السياسي الفكري والمناطقي بين قيادة الحزب الحاكم ظل عاصفا لتنقسم إلى ماعرف بـ “الطغمة” و”الزمرة”، وحين اندلاع أحداث 13 يناير 1986م الدامية؛ كان هذا “المجرم الطليق” بصف “الزمرة” وشارك في الإعدامات الجماعية بموجب بطاقة الهوية تبعا لانتماءات المتصارعين القبلية.
يقول السياسي المعروف أحمد الحبيشي، أن المجرم الطليق “كان في معسكر طارق بعدن، وفي 2010م قادت أعمالا انشائية لتحويل المعسكر إلى حديقة عامة باسم حديقة الشعب ضمن تحضيرات استضافة بطولة خليجي 20، قادت إلى اكتشاف مقبرة جماعية لضحايا يناير في الحديقة”.
وقد أصدرت المحكمة العليا في جنوب اليمن حينها، حكما بـ “إعدامه رميا بالرصاص” في ديسمبر 1987 لولا أنه كان استطاع الهروب من عدن بعدما شارك في دكها بقذائف الدبابات التي تخصص فيها عسكريا دراسيا ووظيفيا، فضلا عن قصف عدن بقذائف البوارج الحربية المدمرة.
الفرار الأول
كان هذا الفرار (الأول) بعدما انهارت قوات “الزمرة” في عاشر أيام المواجهات الطاحنة التي حصدت نحو 12 ألف يمني في جنوب اليمن، حين لاذ “المجرم الطليق” بحياته ومئات السياسيين والعسكريين مع الرئيس علي ناصر محمد ومئات الآلاف من المدنيين إلى شمال اليمن، حيث بدأ فصلاً جديداً من تاريخه الأسود.

* أبرز جرائم هذا الفصل من التاريخ الاسود لهذا المجرم (1986 – 2015م) وخفايا علاقته مع “الاخوان” واستئناف نشاطه الجاسوسي مع المخابرات البريطانية … في العدد القادم.

قد يعجبك ايضا